بالأرقام.. أحمد النجار يكتب تحليلًا اقتصاديًا عن التضخم وتأثير الصراع العسكري في أوكرانيا: من يدمر استقرار اقتصاد العالم وأمنه الغذائي؟
العقوبات الأمريكية والأوروبية الغبية ضد روسيا ألهبت أسعار السلع الغذائية والأسمدة في كل العالم
أوروبا ستتحمل وتحمل مواطنيها تكاليف كبيرة أخرى تتعلق بإنشاء محطات لتحويل الغاز من صورته السائلة إلى الصورة الغازية
بات الحفاظ على أسعار معتدلة للسلع الغذائية عبئا ثقيلا على الموازنات العامة للدول التي تدعم السلع الأساسية الموجهة للفقراء
كتبت: ليلى فريد
قال أحمد السيد النجار، الكاتب الصحفي، رئيس مجلس إدارة الأهرام الأسبق، إنه تنتاب العالم مخاوف تصل إلى حد الفزع من حدوث أزمة غذائية عالمية كبرى في الوقت الراهن في ظل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا.
وتابع في تحليل اقتصادي نشره على صفحته الرسمية، أن العقوبات الأمريكية والأوروبية الغبية ضد روسيا، ألهبت أسعار السلع الغذائية والأسمدة في كل العالم. وبات الحفاظ على أسعار معتدلة للسلع الغذائية عبئا ثقيلا على الموازنات العامة للدول التي تدعم السلع الأساسية الموجهة للفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى.
وأضاف: أوروبا ستتحمل وتحمل مواطنيها تكاليف كبيرة أخرى تتعلق بإنشاء محطات لتحويل الغاز من صورته السائلة إلى الصورة الغازية.
وإلى نص ما كتبه النجار:
تنتاب العالم مخاوف تصل إلى حد الفزع من حدوث أزمة غذائية عالمية كبرى في الوقت الراهن في ظل الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا. وتعتبر الدولتان مصدرتان رئيسيتان للحبوب وزيت عباد الشمس وسلع غذائية أخرى، فضلا عن صادراتهما من الأسمدة. وتتصدر روسيا دول العالم في تصدير القمح بنحو 38 مليون طن تشكل نحو 18% من إجمالي الصادرات العالمية منه. وتنتج روسيا نحو 15 مليون طن من الذرة تصدر منها نحو 1,2 مليون طن. وتتصدر روسيا دول العالم في إنتاج الشعير الذي تصدر منه نحو 2,5 مليون طن. كما تتصدر دول العالم في إنتاج الحنطة السوداء والشوفان. وتصدر روسيا نحو 2,1 مليون طن من زيت عباد الشمس تشكل نحو 22% من الصادرات العالمية منه. وتسهم روسيا بنحو 14% من الصادرات العالمية من أسمدة اليوريا وفوسفات الأمونيوم، كما تسهم مع روسيا البيضاء (بيلاروسيا) بنحو 40% من الصادرات العالمية لأسمدة البوتاسيوم الحيوية لكل أنواع المحاصيل وبخاصة الفاكهة والخضر. أما أوكرانيا فإنها بدورها رابع أكبر مصدر للقمح بصادرات حجمها نحو 18 مليون طن تضعها في الترتيب بعد روسيا والولايات المتحدة وكندا. كما أنها مصدر رئيسي للذرة بصادرات بلغت نحو 23 مليون طن العام الماضي، ويمكن أن تنخفض إلى نحو 17 مليون طن هذا العام. أما صادراتها من زيت عباد الشمس فقد بلغت نحو 5,1 مليون طن العام الماضي بما شكل نحو 53% من إجمالي الصادرات العالمية منه.
ويلقي الغرب وأجهزة إعلامه باللائمة على روسيا معتبرا أنها تمنع الصادرات الأوكرانية من الحبوب رغم أن روسيا كررت أكثر من مرة استعدادها لتمرير السفن المحملة بصادرات الحبوب الأوكرانية من ميناء أوديسا على أن تقوم أوكرانيا بإزالة الألغام التي زرعتها حول الميناء لضمان المرور الآمن للسفن. لكن أوكرانيا ترفض وتتخوف من تعرض أوديسا لهجوم البحرية الروسية المتفوقة بشكل كاسح على البحرية الأوكرانية إذا ازالت الألغام البحرية في محيط الميناء. ويمكن لأوكرانيا أن تنقل صادراتها من الحبوب والزيوت لكل العالم عن طريق النقل البري لرومانيا ثم التصدير من خلال موانئ رومانيا على البحر الأسود، أو النقل البري لبولندا والتصدير عن طريق موانئها على بحر البلطيق أو التصدير بريا عبر بولندا وسلوفاكيا والمجر ورومانيا للدول الأوروبية التي تستورد منها الحبوب أو الزيوت أو السلع الغذائية الأخرى.
ولكن هل يحل تدفق صادرات الحبوب والزيوت الأوكرانية الأزمة الغذائية العالمية؟ الحقيقة أنه حتى في حالة تدفق تلك الصادرات فإن الأزمة الغذائية العالمية لن تحل فالمعضلة الأكبر هي في صادرات الحبوب الروسية الأضخم والممنوعة من التدفق للأسواق العالمية بسبب العقوبات الأمريكية والأوروبية الغبية التي تعوق كل العمليات المالية المرتبطة بتلك الصادرات. والمعضلة أيضا في العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا والصادرة عن عقول انتقامية مريضة تحرم العالم من صادرات الأسمدة الروسية الضرورية للزراعة العالمية وبخاصة أسمدة البوتاسيوم واليوريا في ظل فصل البنوك الروسية عن نظام السويفت العالمي.
لقد ألهبت العقوبات الأمريكية والأوروبية الغبية ضد روسيا، أسعار السلع الغذائية والأسمدة في كل العالم. وبات الحفاظ على أسعار معتدلة للسلع الغذائية عبئا ثقيلا على الموازنات العامة للدول التي تدعم السلع الأساسية الموجهة للفقراء والشرائح الدنيا من الطبقة الوسطى.
ولتوضيح الكيفية التي حازت بها روسيا هذه المكانة في سوق الأغذية الأساسية في العالم يكفي ان نعلم أن تلك الدولةرغم ثبات عدد سكانها عند مستوى عام 2004-2006، قد وجهت موارد واستثمارات وجهود كبيرة لزيادة الإنتاج الزراعي والغذائي مما أسفر وفقا لبيانات منظمة الغذية والزراعة العالمية (Food and Agriculture organization of the United Nations, World Food and Agriculture Statistical Pocketbook 2018)عن بلوغ الرقم القياسي لإنتاج الغذاء في روسيا نحو 147 عام 2016 باعتبار الفترة من عام 2004-2006 هي سنة الأساس أي = 100، وفي نفس الوقت بلغ الرقم القياسي لإنتاج الغذاء في أوروبا 112 مع بلوغ الرقم القياسي لعدد السكان 102، وفي الولايات المتحدة نحو 122 مع بلوغ الرقم القياسي لعدد السكان 110. وبلغ الرقم القياسي لإنتاج الحبوب في روسيا 167 عام 2016، مقارنة بنحو 130 في الولايات المتحدة، ونحو 119 في أوروبا باعتبار الفترة من عام 2004-2006 هي سنة الأساس أي = 100. وبلغ الرقم القياسي لإنتاج الزيوت النباتية في روسيا نحو 217 عام 2016 ، مقارنة بنحو 148 في أوروبا، ونحو 132 في الولايات المتحدة، وبلغ الرقم لإنتاج الجذور والدرنات في روسيا نحو 124 عام 2016، مقارنة بنحو 102 في الولايات المتحدة، ونحو 97 في أوروبا، وبلغ الرقم القياسي لإنتاج السكر نحو 209 في روسيا، مقارنة بنحو 108 في الولايات المتحدة، ونحو 103 في أوروبا، وبلغ الرقم القياسي لإنتاج اللحوم في روسيا نحو 151 عام 2016، مقارنة بنحو 106 في الولايات المتحدة، ونحو 108 في أوروبا، وبلغ الرقم القياسي لإنتاج الأسماك في روسيا نحو 152 عام 2016، مقارنة بنحو 98 في الولايات المتحدة، ونحو 105 في أوروبا، باعتبار الفترة من عام 2004-2006 هي سنة الأساس أي = 100. أي أن روسيا وجهت جزء مهم من مواردها واستثماراتها لتطوير قدراتها على إنتاج الغذاء بكل عناصره الأساسية بصورة تتفوق كثيرا على الجهود الأوروبية والأمريكية المناظرة مما جعلها ركنا أساسيا في تحقيق الأمن الغذائي العالمي. وبالتالي فإن العقوبات الأمريكية والأوروبية ضد روسيا والتي تعرقل التدفقات المالية المتعلقة بتجارتها الخارجية هي السبب الأساسي في عرقلة تدفقات صادرات الغذاء الروسية لمختلف دول العالم وهي السبب الرئيسي في أزمة الغذاء في العالم.
وعلى صعيد متصل أدت العقوبات الأمريكية والأوروبية المتعلقة بحظر استيراد النفط الروسي كليا والحظر الجزئي على استيراد الغاز الروسي إلى ارتفاعات قياسية في أسعار الغاز وإلى توجه سعر النفط إلى مستويات بالغة الارتفاع تقترب من أعلى مستوى بلغه من قبل مما غذى تضخما عالميا تعاني منه بصورة أكثر حدة الدول المستوردة للنفط والغاز والدول الفقيرة. وكانت أوروبا الغبية والمنقادة لتبعية مزرية للولايات المتحدة هي المبادرة للاستخدام السياسي للنفط والغاز كآلية لمعاقبة روسيا بحرمانها من إيرادات صادراتها الضخمة من النفط والغاز رغم أن الأخيرة لم تستخدم تلك الصادرات بصورة سياسية مطلقا وأبقتها شأنا تجاريا منذ زمن الاتحاد السوفيتي، لكن السحر الغربي انقلب على الساحر وتعرضت اقتصادات اوروبا والولايات المتحدة وشعوبها لمعاناة بسبب العقوبات ضد روسيا بأكثر من معاناة روسيا نفسها. ولأن الطاقة المولدة من النفط والغاز تعتبر مكونا أساسيا في كل السلع فإن ارتفاع أسعارها بعد العقوبات الأمريكية والأوروبية في مجال النفط والغاز ضد روسيا أدى إلى ارتفاع معدلات التضخم في أوروبا والولايات المتحدة والعالم عموما وهو ما يضيف المزيد من عوامل المعاناة للفقراء في مختلف بلدان العالم وبخاصة تلك المستوردة للنفط والغاز. وفاقم من هذا الأمر في أوروبا بالذات أن غطرستها الغبية جعلتها تعلن رفضها لسداد قيمة وارداتها من الغاز الروسي بالروبل مما أدى إلى قطع إمدادات الغاز الروسي عن العديد من دولها، بينما تراجعت دول وشركات أخرى ورضخت للمطلب الروسي العادل بسداد ثمن وارداتها بالروبل. ورغم أن كل بدائل الغاز الروسي لا تستطيع تلبية الطلب الأوروبي منه، إلا أن كل تلك البدائل تتمثل في الغاز المسال الذي لن يقل سعره عن أربعة أمثال سعر الغاز الروسي الذي كان يتدفق في صورته الغازية عبر الأنابيب. ولن يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن أوروبا ستتحمل وتحمل مواطنيها تكاليف كبيرة أخرى تتعلق بإنشاء محطات لتحويل الغاز من صورته السائلة إلى الصورة الغازية. وكل تلك الارتفاعات في أسعار الطاقة في أوروبا بالذات سوف ترفع تكاليف الإنتاج وتضر بقدرة الاقتصادات الأوروبية على المنافسة في الأسواق الدولية لصالح كل الدول التي تحصل على الغاز في صورته الغازية بأسعار تقل عن ربع أسعار الغاز المسال الذي تسعى أوروبا لاستيراده كبديل للغاز الروسي! وأكبر المستفيدين من هذا الغباء الأوروبي الناتج عن التبعية المزرية للولايات المتحدة هو هذه الأخيرة التي ستستفيد من إيجاد سوق كبيرة لغازها المسال، فضلا عن انخفاض تكلفة مكون الطاقة المحلي في إنتاجها بالمقارنة مع أوروبا مما يعزز القدرة التنافسية الأمريكية.
لقد تكفلت العقوبات الانتقامية المفروضة ضد روسيا من أوروبا الغبية والمنقادة للتبعية للولايات المتحدة بجر الاقتصاد العالمي إلى التباطؤ التضخمي حسب صندوق النقد الدولي الذي يشير إلى تراجع نمو الناتج العالمي من 6,1% عام 2021 إلى 3,6% عام 2022. وعلى الأرجح فإن الواقع تجاوز تلك التقديرات لصندوق النقد ويمكن أن ينزلق الاقتصاد العالمي لمزيد من التباطؤ أو الركود الذي ستعاني منه أوروبا قبل الجميع بسبب ارتفاع أسعار الطاقة ونقص الإمدادات من المعادن والمكونات الروسية التي تتعرض للعقوبات الأمريكية والأوروبية الغبية التي تصيب الاقتصاد العالمي بالأذى قبل أن تصيب الاقتصاد الروسي المستهدف بتلك العقوبات.
كما أن تقديرات صندوق النقد الدولي للتضخم والتي تشير إلى أنه سيرتفع في الدول النامية من 5,9% عام 2021 إلى 8,7% عام 2022، وسيرتفع في الدول المتقدمة من 2,9% عام 2021 إلى 4,4% عام 2022 هي تقديرات تجاوزها الواقع فالتضخم في أوروبا والولايات المتحدة يتراوح بين 7,5% و 8,5% حاليا، ويمكن أن يرتفع عن هذا المستوى لو استمرت الحرب في أوكرانيا لفترة أطول كما تريد الولايات المتحدة وأوروبا لاستنزاف روسيا.
وعلى ذكر هذه الحرب فإن جذورها تكمن في تفريط السكير التابع للغرب بوريس يلتسين في أراضي روسيا في القرم والدونباس عند تفكيك الاتحاد السوفيتي. وتلك الأراضي الروسية تم ضمها إداريا إلى أوكرانيا في زمن الاتحاد السوفيتي، حيث تم ضم الدونباس لأوكرانيا عام 1918 باعتبارها منطقة تعدين وصناعة يؤدي ربطها بأوكرانيا إلى إضافة طبقة عاملة كبيرة وثورية في تلك المنطقة بصورة تدعم وجودها في الاتحاد السوفيتي. أما شبه جزيرة القرم فتم ضمها عام 1954 لاعتبارات إدارية. وقد استغرب الكثيرين وضمنهم بعض قيادات الانفصال الأوكرانية أن يلتسين لم يناقش قضية استعادة روسيا للقرم والدونباس أصلا. ولم تكن هناك مشكلة خلال الفترة التي سادت فيها علاقات ودية بين موسكو وكييف، لكن الانقلاب على الرئيس المنتخب فيكتور يانوكوفيتش عام 2014 وانزلاق أوكرانيا لسياسات عدائية تجاه موسكو جعل تلك المناطق الروسية تنتفض باتجاه الارتباط بحماية روسيا الأم في سلسلة من الأحداث التي قادت إلى حرب منسية لمدة 8 سنوات شنتها أوكرانيا على الروس الذين أعلنوا انفصالهم في منطقة الدونباس، بينما عجزت عن فعل أي شئ في شبه جزيرة القرم التي عادت رسميا كجزء من الدولة الروسية بقوتها الجبارة بعد استفتاء عام. ووجدت الولايات المتحدة الراغبة في عرقلة مشروع نورد ستريم 2 وإيقاف التطور في العلاقات الاقتصادية بين روسيا وأوروبا عامة وألمانيا بصفة خاصة، ضالتها في التوتر الأوكراني-الروسي حول القرم والدونباس فأوعزت لزيلينسكي وهو دمية غربية صهيونية، لتسخين جبهة الدونباس والإعلان عن طلب الانضمام لحلف الأطلنطي وزاد من رصيد غبائه على الأرجح، بأن بلاده تفكر في استعادة وضعها كقوة نووية مع حشد قوات جيشه وكتائب المتطرفين النازيين على حدود الدونباس في سلسلة من التطورات أدت في النهاية لاندلاع الحرب بعد أن دفعت روسيا بقواتها لحماية الروس في جمهوريتي دونتيسك ولوجانسك. وكان من الممكن أن تنتهي الحرب سريعا بخسائر بشرية ومادية أقل، لكن الدعم التسليحي الغربي الهائل لأوكرانيا يطيل أمد الصراع ويؤدي لتدمير أوكرانيا واستنزاف روسيا دون أن يكون له تأثير على نتيجته المحسومة على الأرجح بتحقيق الأهداف الروسية في استعادة وحماية المناطق الروسية التي كانت قد ضمتها لأوكرانيا في زمن الاتحاد السوفيتي، وضمان حياد أوكرانيا وعدم تسلحها نوويا. وزد على تلك النتائج تأكيد تعدد الأقطاب في النظام السياسي والاقتصادي الدولي وفتح الباب أمام بناء نظام نقدي عالمي جديد بدلا من المسخ الحالي الذي تقتات الإمبراطورية الأمريكية من خلاله على خيرات العالم بشكل لصوصي وهذا موضوع آخر.