باسم سامي بسكالس يكتب: تأملات عن التغيير في ضوء ثورة إخناتون
الصراع الذي أشعل جذوته أمنحوتب الرابع (إخناتون) بين جنبات وربوع مصر، والذي تكشفت ملامحه الثورية، وتبدت على خارطة الدين والأدب والفن والتقاليد، سرعان ما خفت وذبلت وتهافتت فتيلته، واستقر المشهد على صورة ملك موصوم بالهرطقة، ومعابد وبقايا آثار مُهدمة، وذابت تلك الوثبة وتلاشت في بحر الثبات الأزلي، وعادت تلك الأمة، التي تعشق الثبات، وتأبى ذائقتها الوثبات، إلى نقطة الصفر.
وبتأمل المشهد نجد أن القوى الدينية، بفاشيتها، تنتصب كالوحش المصور في محكمة الموتى (عمعموت)، لتبتلع كل محاولات التغيير، لتمزق كل الأمنيات، فهي تعوق كل حراك، وتحوله إلى ثبات من جديد، وها (تل العمارنة) المهجورة الملعونة، خير شاهد على أن سلطة القوى الدينية غاشمة، ولا تتورع، أبدًا، في أن تمحو كل من يهدد عروشها.
قد يخدعنا مظهر السلطة السياسية، حيث يجلس الفرعون في أبهة عظيمة، ممسكاً بقضيب الملك، تنحني له جوقة الكهنة في خضوع، إلا أن حقيقة الأمر تختلف كثيراً، إن ذلك الفرعون وقوائم كرسيه رهينة بما ينفثه هولاء عنه، إنهم يملكون ما لا يملكه الفرعون، وهي مفاتيح الخلود ليلوحوا بها، إنهم يمتطون عقول القطيع، ويمسكون بصكوك حقول الإيارو (الجنة)؛ لذا يحرص سكان القصر على كسب ود سكان المعبد، بإغداق العطايا والأراضي، وإعفائهم من الضرائب، وتمييزهم عن القطيع.
إن خطيئة إخناتون الكبرى، أنه لم يتفهم قواعد اللعبة جيداً، وظن أنه يملك مقاليدها، بَيْد أنه كان يقبض على فراغٍ، وكل ما كان يراه من تغيير هو محض سراب، لأنه عجز في أن يتغلغل إلى العامة، كما يتغلغل الكهنة مؤصِّلين أفكارهم المعوقة في عقولهم؛ لذا ارتسم التغيير كقشرة هشة على جسد الأمة، ولم ينفذ إلى العمق!
إن إشكالية الإخفاق المتتالي للتغيير،عن طريق الثورات في هذا الوطن، تعود بالأساس إلى طبيعة العقل الجمعي وتكويناته والروافد المُشكلة له، والذي لا تتعمق الثورات في الإبحار إليه لسبر أغواره وتغييرها؛ لذا إذا أردنا التغيير يتعين تغيير تلك التكوينات، وبتر تلك الروافد، إن معركة التغيير ليست في مقاومة إفتئات السلطات والتشدق بالشعارات فحسب، لكن في صناعة الوعي الجديد، إن ساحة المعركة الحقيقية تقع في العقل الجمعي المسلوب، التي يتغافل عنها الجميع، لأنها تتطلب جهداً خرافياً، وعمل تراكمي بعيد المدى، قد يثبط أي متحمس! لكنه ليس بالمستحيل.