المناضلون لا يرحلون.. أمير سالم في عيون رفاقه .. سيرة عطرة ورحيل بلا ضجيج (حكايات من دفتر مدافع عن الحقوق)
محمود هاشم
غيب الموت المناضل والمحامي الحقوقي الكبير أمير سالم، بعد أزمة صحية، لكنه بقي حتى ساعة وفاته مهموما بقضايا الوطن والحرية ومكافحة الصهيونية والهيمنة الأمريكية والظلم الاجتماعي، تعرفه قاعات المحاكم جيدا، وهي التي صال وجال فيها طوال تاريخه المهني، مدافعا عن السجناء السياسيين والطبقة العاملة وكل مظلوم وصاحب حق مهما كان توجهه، لم يعرف قاموسه أي تقاعس في أداء واجبه، ليقدم دروسا للأجيال اللاحقة يروي فصولها أحباؤه وتلاميذه ورفاق دربه.
” المناضلون لا يرحلون، فقط تفتح لهم أرض الوطن بطنها، ليستريحوا، وينبتوا براعم جديدة في شجرة الحرية”، هكذا نعت الكاتبة الكبيرة إكرام يوسف، المحامي الراحل، متذكرة مواقفه الشجاعة في الدفاع عن أصحاب الحقوق.
” أمير سالم كان التجسيد الحقيقي لمقولة لا يخشى في الحق لومة لائم، ولن ينسى له التاريخ وقفته إلى جوار حق ديالا – في القضية التي رفعتها الصحفية سماح عبدالسلام ضد الفنان التشكيلي عادل السيوي لإثبات نسبه لها – التي خسرته صداقات العمر، وقف إلى جوار الحق ضد حكم الشلة! وكان ختاما لمشوار طويل في مناصرة الحق، أثبت فيه أن المناضل الحقيقي، يقف حيث يكون الحق ولا يكيل بمكيالين”.
بدأ أمير سالم انخراطه في الدفاع عن الحقوق وهو طالب بالثانوية العامة، حينما شارك فى اعتصام طلاب جامعة القاهرة فى القاعة الكبرى عام 1972، بعد ذلك صار من قيادات الحركة الطلابية فى جامعة عين شمس، بحسب ما يحكي القيادي العمالي كمال خليل، الذي كان رفيق زنزانته فى حبسات عديدة، من أهمها انتفاضة 18 و19 يناير عام 1977، وحبسة عمال الحديد والصلب عام 1989.
كان المحامي الراحل، كما يروي خليل – قائدا ومحرضا جماهيريا من طراز فريد، وكان ينتمى لحزب العمال الشيوعى المصرى، التقيا كرفيقين فى حزب واحد عام 1989 (حزب العمال الموحد)، وكانا أيضا رفيقا مظاهرات كثيرة، وحينما كان يشدو بهتافه الشهير :”عالم بياكل فى عالم جعان، وريحة خيانة فى جو المكان، مخطط خيانة مع الأمريكان”.
ويضيف: “كنت تلمح فى عينيه مستقبلا قادما نحلم به جميعا، مستقبل العيش والحرية والعدالة الاجتماعية، سيظل نضالك يا صديقي محفورا فى ذاكرة جيلك ورفاقك”.
الشاعر الكبير زين العابدين فؤاد، يحكي أيضا عن ذكرياته مع أمير سالم، قائلا: “عرفته طالبا في مدرسة المنيل القومية عندما دعاني صديقي عبد السلام الشهاوي لندوة شعرية مع الطلاب، عرفت معه رضوان الكاشف وسمير حسني ونجيب جويلي، أصبحوا أصدقاء وزملاء في النضال وفي السجون المختلفة، أمير سالم يغير عنوانه اليوم ويسكن في ضمير الأمة مناضلا صلبا، وهو من سلالة حراس الحرية الكبار”.
بفضل جسارته أنقذ سالم، القيادي العمالي كمال عباس – المنسق العام الحالي لدار الخدمات النقابية والعمالية – من تعذيب توعده به وزير الداخلية الأسبق زكي بدر، الذي حمله عباس – في حديث لجريدة الأهالي- المسؤولية عن قتل شهيد إضراب الحديد والصلب عبدالحي سليمان.
ففي أغسطس من عام 1989، وبعد انتهاء نيابة أمن الدولة من التحقيق مع عباس بتهمة المشاركة في قيادة إضراب عمال الحديد والصلب، أمرت بحبسه 15 يوما على ذمة التحقيق، وكان من المتوقع ترحيله إلى سجن طره أو أبو زعبل، حيث يحبس أكثر من 300 من زملائه من عمال الحديد والصلب، لكن بعد حبسه في مبنى نيابة أمن الدولة في مصر الجديدة، أخذته سيارة شرطة إلى قسم ثان مدينة نصر، وهناك ألقي به في زنزانة انفرادية قضى بها 5 أيام عن استطاع عن طريق أحد العساكر تسريب مكان حبسه لأصدقائه.
في صباح أحد الأيام، سمع عباس – وفق ما يحكي – أصوات “زعيق”، ميز من بينها أمير سالم الذي كان يصرخ في وجه مأمور القسم وبتهمه بإخفائه، وتوعد بالذهاب إلى النائب العام، وما هي إلا دقائق حتى فتح باب الزنزانة ليقبل عليه سالم مسرعا، مطمئنا على سلامته، وإن كان تعرض لأي نوع من التعذيب، فكان رده: “جعان يا أمير مكلتش”، فما كان من المحامي الكبير إلا أن أخرج من جيبه أموالا، وأرسل من يحضر له العصير والأكل.
طلب سالم من عباس التحدث إلى الصحفيين الذين كانوا برفقته، واقترح عليه كتابة رسالة إلى ابنته لطمأنة الأسرة على أوضاعه، وما أن نشرتها صحيفة الوفد في صباح اليوم التالي حتى أحدث موجة تعاطف واسعة معه، وفي صباح اليوم التالي حضرت سيارة شرطة لترحيله إلى سجن أبو زعبل في عنبر 3/3 مع أكثر من 37 من زملائه في الحديد والصلب، وطوال هذه الفترة تابع سالم ترحيل عباس حتى اطمأن على وصوله.
“في جميع المواقف الوطنية والحقوقية كان سالم حاضرا ومبادرا ومقاتلا وجميلا، لم يدخل أي معركة قانونية إلا وطرح رؤيته عن البعد السياسي لها”، هذا ما يؤكده الرئيس الأسبق لمجلس إدارة مؤسسة الأهرام الدكتور أحمد السيد النجار، في حديثه عن المحامي الكبير وأحد الرموز النضالية النبيلة لجيل السبعينيات، واصفا إياه بأنه كان محبا للصحبة والأصحاب، ولكنه ولوجع قلوبنا يرحل بلا وداع يليق بجيش أصدقائه ومحبيه، لكنه سيبقى غاليا وخالدا في ضمائرنا وفي ضمير الوطن.
وفاة سالم استوجبت تقديم العزاء لجيل كامل من المناضلين الوطنيين، يرحلون بلا ضجيج، في لحظة حرجة من تاريخ وطنهم وشعبهم، وفق ما يؤكد الأمين العام للحزب الاشتراكي المصري، والمنسق العام سابقا للجمعية الوطنية للتغيير أحمد بهاء الدين شعبان.
ونعى أستاذ العلوم السياسية والقيادي في الحركة المدنية الديمقراطية الدكتور مصطفى كامل السيد، أمير سالم، مشددا على أنه ترك وراءه ذكرى عطرة وحافلة، واستطرد: “معه بدأت تدريس حقوق الإنسان خارج الإطار الرسمي، وكانت له وللعاملين معه اجتهادات في نشر ثقافة حقوق الإنسان من خلال الكاريكاتير والأغنية والنتيجة السنوية، حيث دافع بنجاح عن حق سكان المهندسين في حديقة عامة في ميدان أسوان وكان من المدافعين في قاعات المحاكم عن حرية الفكر والفن”.
وتابع: “كان بداية معرفتي بالفريق الأول من المدافعين عن حقوق الإنسان في مصر، لم ألتق به منذ سنوات بسبب ظروفه الصحية من ناحية وبسبب مشاغل الحياة من ناحية أخرى. امتلكني حزن عميق عندما عرفت بنبأ رحيله، هكذا تتساقط الزهور في هذا الخريف الطويل الذي نعيشه، أنت في قلب وعقل كل من عرفك يا أمير، وهم كثيرون، أكثر مما كان يمكن أن تتصور، يحزنني كثيرا أننا لن نتمكن من توديعك الوداع الذي تستحق”.
أما المحامي أحمد فوزي، فكتب في رحيل المحامي الكبير قائلا: “مع السلامة يا عمنا، أمير سالم أبرز قيادات الحركة الطلابية فى السبعينات وعمنا وأستاذنا، لروحك السلام خالص العزاء لرفاقه وتلامذته”.