الطيب النقر يكتب: الصدقات العجاف.. (ابداعات)
أخذ الأب الذي رنّقت عليه المنية وأشرف على التلف يطلب من ابنه غض الإهاب فى ذلة وانكسار وبصوت متهدج ان يأتيه بها قبل أن تدركه المنية، والابن الذى يتبين الأسى على وجهه قد وطّن نفسه على الرفض وعدم النزول لرغبة والده لما يترتب على تنفيذ هذه الرغبة من مضار، ومضى الأب في توسلاته التي يطلقها في صوت واهٍ والتي أضفى عليها أنينه بُعداً آخر جعل الابن يتهالك على مقعده ويلج في بكاء حار حتى اخضلّت مسارب عينيه.
لقد كان فيما مضى هو وإخوته الأكابر يتسابقون الى ود والدهم ويتنافسون في رضاه، لأنه يخفض لهم جناح رحمته ويوطئ لهم مهاد رأفته ويحنو عليهم حُنُوَّ الوالدات على الفطيم، واستطاع أن يملأ ذلك الفراغ الرهيب الذى تركته والدتهم التى جادت بأنفاسها الأخيرة وهى تضع محمد الفتى المدلل الذى كان يبكي والدُه لبكائه ويمعن فى الضحك والحبور لفرحه وسروره، ومن فرط حنية والدهم آثر أن يقضى ما تبقى من عمره أبتر من غير خليلة تهش عند مقدمه وترعى زمامه وتعينه على نوائب الدهر ومقارعة الخطوب، حتى لا تسوم تلك الخليلة زغابه بخسف، أو تشتط في معاملتهم.
كان المهندس مرتضى الصادق إبراهيم لا يتوانى عن تلبية ما يشرئب إليه رياحينه حتى حينما فدحته تكاليف الحياة وزوت بنضرته أعباء السعي وراء الرزق الشرود، لقد أمضى مرتضى عقدين من الزمان بخزان «الدمازين» لتوليد الكهرباء فى العمل الدائب والعناء المرهق لتلفظه فى نهاية المطاف غيرحافلة بتاريخه الناصع و ذكائه الثاقب لوشاية حاكها مأفون يشايع النظام ويضمر لمرتضى سخائم الحقد وغوائل الحسد، ادعى فيها أن المهندس مرتضى يمقت النظام ويزدريه ازدراء لا حد له، وانه مع ذلك يعاقر الخمر ويصاحب الصهباء، ويقضى الليل البهيم فى مواخير الفساد وحانات المجون التى يُرضي فيها غرائزه البهيمية ونزواته الشيطانية، والحق إنها دعاوى لم تبرأ من الشطط والاعتساف، نعم لقد كان مرتضى إبان دراسته في جامعة الخرطوم يرافق الاشتراكيين ويستمع إلى خطرفاتهم وترهاتهم ولكنه كان يلقيها دبر أذنه ولم يصل هديرها الباطل الى عقله الرشيد الذى تسوده القناعة بأن الإسلام لم يترك ثلمة إلا سدّها ولا معضلة إلا وعالجها فلا حاجة لاستيراد نظريات قد تموت وتذبل او تعيش الى حين، لقد كان مرتضى ينفخ فيما يشبه الرماد ويصيح فيما يقارب الجماد حتى ارتفعت حجب الأسماع وانكشفت أغطية القلوب وانتشلها من حومة الضمور الفكري و«رفاق» الغثاثة والهزال وأدخل على عقلها المتقد الذى كان يسبح في شطحات الخيال قبساً من اليقين الراسخ بأن الإسلام جوهرة نفيسة لا تَخْلَق ديباجتها ولا يخبو بريقُها الا لمن أقذى عينيه تحت مصابيح الماركسية العجفاء، لقد فتّق مرتضى ذهن محبوبته الى الوان من الفكر والبيان، كانت «سهام» تلك الدوحة
الفينانة التي لا تقع فيها العين الا على منظر جميل هي السر في إقصاء مرتضى عن وظيفته بعد كل تلك الأيام الطوال وبعد أن وافاها الأجل منذ أمد بعيد، أتى الأمر بإبعاد مرتضى ليهنأ بالعيش الرتيب هو وأولاده.
تفاجأ مرتضى وجميع العاملين بالمحطة بخبر إحالته للصالح العام، فالمهندس مرتضى لم يسبق ان شارك في رأي او حفل بحادث ولعل الصِفة المعهودة فى شخصه بجانب ذكائه وإخلاصه في عمله انه لا يغمس يده في السياسة ولم يحدث ان غمغم حتى في خفوت متبرماً من سياسات النظام الخرقاء. هكذا فقد مرتضى وظيفته نتيجة لأسر الأوهام ولأذناب النظام ولتفشي سلطان الجهالة الذى يقضي بتقديم الولاء على الأداء، فقد مرتضى وظيفته لحزازات النفوس المريضة التي تُقصي من تشاء وتقرب من تشاء والتي تزاحم الناس بالمناكب العريضة في أرزاقهم فلا تحصد الإنقاذ سوى الكره والبغض من جراء تصرفات تلك الناجمة التي لا تتقن سوى الثلب والتشهير.
فقد مرتضى وظيفته ليقضي شهوراً عصيبة عانى فيها من الفاقة والجدب، شهوراً كان يرسل طرفه الساهم الى من أوجد السماء فيراه باذخاً عالياً ولكنه على علوه ورفعته قريب يكسو عبده بُردة اليقين كلما دعاه ويطمئنه بأنه ناصره ولو بعد حين. كان مرتضى لا يتبلغ في تلك الشهور إلا بما يمسك الرمق فلم يكن سليل مجد او ربيب نعمة بل كان من أسرة خاملة فقيرة ذاق عائلها الأمرين حتى يُبقيها على وجه البسيطة، ظلّ مرتضى يقاوم جحافل الفقر التى بدأت تزحف عليه حتى طوَّقته فلم يجد مراغماً ولا سعة سوى الذين من خاصته وأصدقائه حتى لا تشعر أكباده التى تمشى على الأرض بطارئ أحال حياتهم الى حُطام، كان مرتضى وحده الذى يكابد غصص الحرمان فلقد وجد نفسه مضطراً لتحمل لجاجة الدائنين على شاكلة العوض بائع اللبن الذى كان لا يجرؤ على رفع عينه ليطالع مرتضى فيما مضى وهو يهبهُ المال فى سخاء، كان مرتضى يُمنى من استدان منهم بمكافاة نهاية الخدمة التي أوشك ان ينالها لولا التردي والقصور من قبل القائمين بالأمر، كانت طبيعته التى تأنف الضراعة والاستخذاء هي سر عذابه، ليته كان يألف فى نفسه الضعة لهان عليه هذا الهوان ولإعتاد على المُطالبة الفجة والقول الغليظ، ولكن العزة الممتزجة بخلقته والمؤثلة في فطرته هي سبب حزنه وبلائه.
أبلى مرتضى أحذيته التي أضناها السعي اللغوب وراء الشركات الهندسية الخاصة عسى أن تضمه إحداهنّ الى معيتها فتريحه من رهق العناء وعنت البؤس، ولكنه لم يجنِ سوى وعود أكذب من البرق الخُلب، وبدأت تتقوض حصون الأمل وتنفصم عُرى الأماني عنده، وخامره إحساس بالضياع… لقد كان في بداية ركضه متوثب العزيمة، دائم الحركة، ينتابه يقين قاطع بأن الوظيفة تنتظره على استحياء ولكنها لا تتمثل إلا في الأحلام ولا تتراءى إلا في الخيال.
صار مرتضى صريع الفاقة وأسير المرض الذي داهمه من جراء السعي الكليل والطعام الوخيم والفراش النابي، فاضمحل محياه النضر وتهدم جسده المتين، وأمسى حائل اللون كأنه مريض أخذته نشغات الموت، كانت الجموع تتوافد إلى منزله تعوده وتشد من أزره وتدعو له بعاجل الشفاء وتغمره بسيل من الصدقات العجاف التي تجعله يشرق بماء دمعه وينكس رأسه في حمأة الهوان ثم يعتصم بعدها بالصمت البليغ.