الطيب النقر يكتب: الشيخ المراغي والبلاغة
المرحوم الدكتور أحمد مصطفى المراغي أستاذ الشريعة واللغة بكلية دار العلوم المصرية، صاحب التفسير العذب المورد، والتصانيف الجامعة لشتيت الفوائد، سجلّ لنا يراعه ذلك الحسن الباهر التي تطالعه العيون وتنبهر منه الأفئدة، فسفره الذي لم يترك فيه بيتاً نادراً، ولا مثلاً سائراً، ولا شعراً جزلاً، ولا نثراً فاخراً، إلا حواه واستدل به في مؤلفه العظيم الفائدة، الجم النفع، والمرحوم المراغي استرخى في يده عنان القلم لأنه امتلك ناصية اللغة، وهيمن فؤاده الذكي على ضروب العلم وأصناف المعرفة التي جُبِلّ على فطرتها وتحرك في إطارها وسخر لها عمره كاشفاً لغوامضها، ومقرراً لعلومها، فتعلق بفنائه كل طالب، واستظل بفيئه كل عالم.
ذكر المرحوم المراغي سقى الله قبره الغر الغوادي وأناخت حول رمسه شآبيب الرحمة، ديدنه في تأليف كتابه، موضحاً أنه اعتمد طريقة المتقدمين التي تتوسع في الشرح والبيان وتكثر من الأمثلة والشواهد، والغاية من ذلك هي”أن تستبين للقارئ خصائص البلاغة مرموقة محسوسة، ولطائف الكلام مجسمة ملموسة، ويسهل تطبيق العلم على العمل، والإجمال على التفصيل، وذلك أمثل الطرق، لبنائه على قواعد علم النفس، من تعويد الناظر الركون إلي الوجدان والحس، وطريق المتأخرين من حسن الترتيب والتبويب، وجمع ما تفرق من قواعد هذه الفنون، ليكون أنجع في الدرس، وأقرب إلي التناول”.
ولعل من يطالع كتاب المراغي لوهلة خاطفة يرى سلاسة الفظ، ووضوح العبارة، ورشاقة المعنى، ويستقر في روعه أن مبدع ذلك السفر الجزيل المباحث متكئاً على سليقة عربية صرفة سلمت من الدخيل، وعلى إلمام وثيق باللغة وأسرارها، كما يستطيع أن يستشف شيئاً آخر أن فكرة الكتاب كانت واضحة المعالم عند المؤلف الملهم الذي استطاع بجدارة أن يسد فراغاً كان شاغراً في تلك العهود المنصرمة ويرفع أصار الجهل ووصمة الصغار الناتج عنه ويجعل العرب والمسلمون باختلاف مشاربهم وسحناتهم تهتك حجب تخلفهم عن ماضيهم التليد بشراع المراغي الذي وصلهم بسلفهم الغالي، ورفع عن كواهلهم عنت الحواشي والاختصارات، وطلاسم التراكيب المجملة،والعبارات الغامضة.
نجد أن المراغي استهل كتابه بتقديم نبذة في تاريخ علوم البيان ومدى الحاجة إلي وضع قواعدها، ذاكراً صروف الدهر التي جابهت هذا الضرب السامي من علوم العربية، مبيناً أن أول من دون هذا العلم هو تلميذ الخليل بن أحمد الفراهيدي أبوعبيدة معمر بن المثنى الذي وضع كتاباً في علم البيان سماه ((مجاز القران)) مستدركاً أنه “لم يكن يرد بالمجاز الوصف الذي ينطبق على ما وضع من القواعد بعد، بل هو أشبه بكتاب في اللغة توخى فيه جمع الألفاظ التي أريد بها غير معانيها الوضعية”.
ثم يوضح في إيجاز أهم العلماء الذين نهض على سواعدهم الفتية أركان هذا العلم. وبعد ذلك يتحدث عن حقيقة الفصاحة والبلاغة في بيان ناصع وشرح سديد، وتتوالى مباحث الكتاب وأبوابه كوكف المطر، فنرى عالمنا الثبت الذي عضّ كتابه على قارحة من الكلام يتطرق للإنشاء والتمني والاستفهام والأمر والنهي والنداء والذكر والحذف ومزاياه وشروطه، ثم يفصّل القول في التقديم وأقسامه والفرق بين النكرة والمعرفة مع إعطاء نماذج للتنكير والتقييد، كما تحدث بإسهاب عن الخروج عن مقتضى الظاهر، ليعقبه بفصل في فصل من ستة مباحث عن القصر وتعريفه في اللغة والاصطلاح، ثم يتحدث بعد ذلك عن الفصل والوصل
الذي بيبن فيه دقة مسلكه وعظيم خطره، ويوفي الحديث عن الإيجاز والإطناب والمساواة، ويهضب في حديثه عن أسرار البلاغة في الإيجاز والإطناب.