الطيب النقر يكتب : الحنين الراسخ
أبي رحمه الله وأغدق على قبره شآبيب الرحمة كان يصرف نهاره في وظيفة عادية هي قوام عيشه، وينفق أول المساء إلى الهزيع الأول من الليل في جهد ونصب دائم وهو قوام مركزه ومكانته التي حازها وسط دائرته، كان رحمه الله يصل الرحم، ويقري الضيف، ويكسب المعدوم، ويغيث الملهوف ويعين على نوائب الدهر، وكنت رغم صغري أضيق بهذا كله و أفصح عن ضيقي في وضوح وجلاء، كنت أنتظر مقدمه من عمله وأنا فرح مسرور حتى أستقي من عواطفه ومشاعره، فأنا آخر العنقود، وليس من اليسير على آخر العنقود أن يألف تسلط الناس عليه، واعتدائهم على حقوقه.
كانت لدي خواطر تجيش في دواخلي، أريد أن أقولها لوالدي لحظة رؤياه ولكني لا أستطيع أن أوثره بها، فأهل الدنف والحاجة كانوا ينكرون حقي في والدي، ولا يبيحونه إلا بمقدار، وبمقدار ضئيل، وما أكثر ما يقع بيني وبين هؤلاء من تنازع وشجار، خاصة حينما أطبق بيدي الصغيرة على أصبع أبي وأتشبث به، وأنا أسير بخطى متعثرة خلفه، فيأتي أحدهم غير مبال بعواطف صبي أغر تجاه أبيه تمثل الضعف الذي ليس بعده ضعف، فيدفعه دفعاً عنه، بل لا يرضى أو يقنع بهذا فيغلظ عليه القول لإلحاحه في أن يكون بمعية والده، ويستهجن تهالكه عليه.
رغم كرور الأيام وتعاقب الحدثان، مازالت الصور هادئة مستقرة في مكانها، وما زال حنيني إلى والدي كثيراً غزيراً لا يستغنى عن فؤادي، ولا يستغنى فؤادي عنه