الطيب النقر يكتب : استبداد حكومة الإنقاذ الوطني وسر البقاء الطويل
كفي أن ننظر لهذه السيئات التي كانت تقترف والتي كانت تسعى إليها الإنقاذ ما استطاعت حتى نفهم سر مكوثها كل هذه المدة، فهي لم تكن تحجم عن اتخاذ أي شر، أو سلوك أي غلظة تجعلها تطنب في الحكم وفيه تطيل، فهي قانعة مطمئنة أنها لن تطاع وليس إلى طاعتها من سبيل إلا إذا واجهت مجتمعها بهذا الاستبداد، ولم يتخذ الاستبداد في عهدها شكلاً واحداً، بل كانت تقدم عدة صور منه، فكان هناك الاستبداد السياسي، والاستبداد الديني والاستبداد الاجتماعي والاستبداد الثقافي، ويتمثل استبدادها السياسي في أنها لم تتيح للأحزاب السياسية سوى الصبر والاحتمال، فهي لم تكن مطلقاً كلفة بالأخذ والرد والحوار، ففلسفتها لم تكن تتسع لتحمل هذا الإثم الثقيل، هي لا تستطيع إلاّ أن تتحمل القمع وتعين عليه، لأجل ذلك رأيناها تئد على الديمقراطية كل أمل، وتقطع عليها كل طريق، ومرد كل هذا أنها كانت تخشى أن تعرضها الديمقراطية للغرق ويتفكه الناس بموتها، ولماذا تخاطر وتغامر ببسط كنف الديمقراطية ما دام الحياة ميسرة لها كأحسن ما يكون اليسر، مهيأة لمقاصدها كأفضل ما تكون التهيئة، فلتمضي إذن على ما هي عليه ممعنة في التشاؤم من نجاعة الديمقراطية ويائسة من ود الأحزاب، وقانطة من روح العدل الذي لن يجر عليها سوى المصائب والنكبات، أما استبدادها الديني فيتمثل في أنها قدمت نفسها طيلة هذه الثلاث عقود التي بقيت فيها على سدة الحكم وهي حامية للدين ووصية على المجتمع، مع أن الشيء الذي لا يحتاج إلى تعمق ولا تمحيص ولا أناة أن الإنقاذ لم تكن تحفل بالدين، ولا تتحرج في انتهاكه، ولا تتحفظ في مخالفته متى ما تعارض مع مصلحتها، لم يكن الدين غير حل لاستيعاب تطلعات مجتمعها المسلم، ولكنها انتهت به إلى أقصى مراقي العنف، وأوشكت أن تهيئه للانصراف عند قلوب الشباب اليافع، لقد عبثت الإنقاذ بالدين ما شاء لها العبث، وأفسدت منه ما شاء لها الفساد، ويكفي أنها استخدمته كمركبة أيديولوجية وثبت بها على السلطة، وصاغت منه أداة لخطاب لا تدري مدى نجاعته في خارطة الكليات الربانية أفنى الشباب في جنوب البلاد ومهّد لانفصالها.
أما الاستبداد الاجتماعي للإنقاذ فقد أقام في العاصمة القومية أولاً ما طاب له المقام ثم طاف بعدها في آفاق السودان البعيدة، ولم تمضي عدة أعوام من بزوغها حتى كان مستقلاً بكل شيء، متصرفاً في كل شيء، لقد ظهر من غير لبس أو إبهام أن حكومة الإنقاذ لم تذعن لداء، وتستكين لمرض مثل إذعانها لعنصرية بغيضة التهمتها التهاماً، والعنصرية التي ظفرت بالإنقاذ وظهرت عليها مردها اعتقادها بأنها لن تلقى القوة والحدة والأيد إلا من القبائل العربية وأنها لن تستوفي نصيبها من الحزن والألم إلاّ من القبائل الأفريقية التي لا تغفر لها خطيئة، أو تعفو لها عن ذنب، أو تتجاوز لها عن سيئة، وما دام أن هذه القبائل قد بلغت من تعنتها ما كانت تريد، فلا بأس على الإنقاذ أن تتخفف من مودتها الزائفة، وأن تستريح من الحركة ومن الكلام، وأن تجعل الأسنة هي التي تتحدث، وأن تسرف في قذفهم بالدانات والمدافع في آخر كل نهار، وأول كل ليل، وألا تتوقف هذه الدانات وهذه المدافع حتى تراهم صرعى أو ممزقين أشلاء في خفق هذا اللهب المتصل.
لقد اصطنعت الإنقاذ مع هذه القبائل ما يصنعه الغلاة المترفون الذين ينعمون بشقاء البائسين، فهي لم تسعى قليلاً أو كثيراً أن تستأثر بعاطفة هذه القبائل أو تؤثر في نفسها، فهي لم تكن معنية بذلك، بل كانت معنية بأن تستأصل هذه القبائل التي تستهدف حكمها الذي تخاله رشيداً وأن تجلب مكانهم قبائل عربية لا غبار عليها لا تخون الإنقاذ ولا تستطيع أن تخونها، قبائل مهيأة للحركة والنشاط البدني الحاد لصد كل من يرمي ذهاب ريح الإنقاذ، وأن تتفجر غيظاً ولا ترد غيظها إلى القصد والاعتدال إذا سعت جهة ما أن تزدري الرئيس البشير أو تقلل من مكانته، وقد امتلأت أيادي هذه القبائل بما شاء الله أن تمتلئ به من ذهب ونقود من هبات المشير البشير، هذا غير العناية والإلطاف التي كان البشير نفسه يخص بها زعيمها فتكفي الرتب والأنواط التي ملأ بها كتفيه وصدره وهو الذي لم يتخرج من تلك الكلية الحربية التي تخرج منها قائده، فالفريق أول محمد حمدان دقلو الشهير “بحميدتي” لم تطأ أقدامه الكلية الحربية إلاّ بعد أن حاز على تلك الرتب، وأنى له أن يلج مصنع الرجال وعرين الأبطال وهو الذي لم يكمل المرحلة الابتدائية، لقد نال قائد الجنجويد الفريق أول حميدتي ما نال لأنه دافع عن قائده ونظامه في رشاقة وترفع، ولأنه كان هو جنده محبين للحرب متهالكين عليها، ولأنهم لا يقفون عند جماعة من البسطاء العزل يمكن أن يحصيهم العدد في قرى دارفور وتخومها إلا وأبادوها دون أن يرتد لهم طرف طالما تلك هي رغبة فارسهم الجحجاح في القصر الجمهوري.
والاستبداد الثقافي الذي مارسته طوال حكمها المأفون، فرضته الإنقاذ في غير مشقة ولا جهد، والعلة في ذلك أنها وجدته قائماً فمضت في تأثيله وترسيخه، ولم تسعى الإنقاذ أن تستشعر هل رضي الناس عن هذا النهج واعجبوا به أم لا، كما لم تهتم بتاتاً بتلك الأسئلة التي تنهال باستمرار عبر الوسائط الإعلامية عن عدم جدية الدولة في توظيف هذا التنوع الفريد الذي يحظى به السودان، ولماذا تصر على فرض الثقافة العربية دون مثيلاتها، فهناك ثقافات أخرى سبقت بعضها حتى الثقافة العربية في هذه الديار مثل الثقافة البجاوية في الشرق والنوبيين في الشمال والفور والنوبة في الغرب والدينكا والشلك والنوير في الجنوب والفونج والبرتا في وسط السودان وأقصى جنوبه الشرقي، إن الحقيقة التي تتطلب التصريح على التعريض أن ثقافة نهر النيل العربية التي عانى الناس من تسلطها طغت على ثقافات أخرى جديرة بالدرس وقمينة بالاهتمام، ولعل عدم التوازن في الفرص وطغيان ثقافة على أخرى يخبرنا عن حجم التمزق الاجتماعي المدمر الذي عانى منه السودان، ولعل هذه الأفضلية التي كانت توليها حكومة المشير البشير وما سبقتها من حكومات للثقافة العربية دون رصيفاتها من الثقافات الأخرى مصدراً للخصومة بين الأعراق التي كانت تشعر بالكثير من الغبن والامتعاض للتهوين بثقافتها وعدم تسليط الضوء عليها، وقضية الثقافة في السودان التي كثر فيها القول، واشتد فيها الجدال كانت بعض الجهات النافذة تبرر عدم اهتمامها بالعديد من هذه الثقافات لما في أغلبها من جهل وخطل وخرافة وشعوذة، ولأن الكثير منها يتعارض مع قيم الإسلام ولب الإسلام.
وعن سر بقاء الإنقاذ كل هذه المدة هو مدى حرصهم على الحكم وتشبثهم به، وتسخير الحياة بكل كائناتها ومكوناتها لدعم حكمهم واستدامته، مستخدمين في ذلك كل الوسائل المادية والمعنوية والكمية والكيفية التي يذخر بها السودان وإنسانه، ولعل من أهم الظواهر التي رسخت لحكم الإنقاذ بعد تطبيق نظام التمكين الذي أقصى كل من لا يدين لها بالولاء، وجعل المناصب العليا التي تتخذ طابع الحساسية قاصرة على سدنتها ومشايعيها، وبخلاف أنها جعلت التقديم للكلية الحربية تلك المؤسسة التي تتولى في الغالب مقاليد البلاد حكراً على منتسبيها، أهم من كل هذا تلك الجماعات التي هيمنت الإنقاذ على وعيها، جماعات أكثر راديكالية وعنفاً لا تتوانى عن الزود عن بيضة الإنقاذ والدفاع عنها بكل ما أوتيت من قوة، وقد اعتمدت الإنقاذ على هذه الجماعات في استنهاض دعوتها وتعميمها، وقد غضت الإنقاذ عن الشروط الصارمة لعضوية هذه الجماعات فجعلتها متاحة للجميع، وتعمدت أن تصبغ هذه الجماعات بالصبغة العسكرية، وأن تكرسها ضد حركات مسلحة تنظر إليها الإنقاذ بمنظار العداء، لقد وطدت حكومة البشير في حنايا هذه الجماعات أنها وحدها فقط التي تمثل الإسلام والحق، وغيرها يمثل الكفر والضلال، لقد “أنشأت تنظيمات وأجهزة موازية لأجهزة الدولة، مثل الدفاع الشعبي والأمن الشعبي والشرطة الشعبية، وهي كيانات مسلحة بميزانيات مستقلة تمول من الدولة وتقتصر عضويتها على أبناء الجبهة، وقضوا على النقابات المستقلة، وأنشأوا حزبا جديدا هو حزب المؤتمر الوطني الذي ظل حاكما طوال العقود الماضية، وكانوا قادته والممسكين بكل مفاصله. وأعدوا العدة للبقاء في الحكم إلى آخر الزمان، أو كما قال قائلهم: إلى نزول سيدنا عيسى من السماء، في إشارة إلى اقتراب ظهور المهدى المنتظر في آخر الزمان. وهذا يشبه ما كان يقول به بعض قادة التنظيم الإخواني في مصر بأنهم سيحكمون لـ 500 عام، قبل أن تسقطهم ثورة 30 يونيو بعد عام واحد فقط”.[1]
ولعل التحليل الملتزم المستقيم يتطلب منا أن نذكر أيضاً خطاب الحركة الإسلامية الذي أكمل تجربة المحنة إلى نهايتها، لقد أفلح هذا الخطاب في تأجيج قدر عظيم من الشعب السوداني الذي اعتقد في هذه الحكومة الثيوقراطية وآمن بها، رغم أنها لم تحقق التكافل الاجتماعي لجميع أبنائه، ولم تتوق إلى تحقيق هذا الهدف، لقد نجحت أن تجعل الإنقاذ من شعبها شعب معاد للغرب، وأن توجه أيديولوجيته لأيديولوجية تتوافق مع مفهوم العروبة رغم أن الكثير من عناصره وسلالاته لا تمت للعروبة بصلة أو تصل إليها بسبب، لقد ربحت الإنقاذ الكثير من تعزيز هذه الأيدلوجية ونهبت الكثير من ريعها، ولكنها في المقابل خسرت الكثير مع كرور الأيام فقد خسرت الجنوب الذي فضح سياساتها الفاشلة وأظهرها بأنها تواجه مجتمعها بمنطق الحرب، كما أسهم جبروتها وقمعها وبيوت الأشباح وإيوائها لكل منبوذ ومطارد من قبل الغرب المتسلط في استنزافها الأمر الذي دفعها إلى التراجع والتقهقر. شيء آخر ضمن لنظام الإنقاذ أن تبقى كل هذه العقود هو شريحة الشباب وأعنى بالشباب الشباب المنتمي لها، فقد انساقت في إرساء دعائم الخير والبذل لهذه الفئة التي تدافع عن قصدها وتوجهها، ولم تتركه مثل لداته للتدهور والمعاناة، فهو الذي يتحمل وحده وتتحمل إرادته تبعة الزود عنها، فهو يدافع في بسالة حدة الجموح عليها، ويتخطى مضطراً ثبات الصورة الكلية للمجتمع الذي بات في التفاتات ذهنه، وقناعات ضميره يترقب الخلاص، لقد قدمت الإنقاذ لهذا الشباب الموالي كل ما يحتاجه من أجل مجابهة الحياة بكل عنائها وبلائها، وتعهدته بالتعليم والتدريب والرعاية ومكنته من الوصول إلى مراتب لم تنعقد آماله لنيلها.
وعن بقاء الإنقاذ الطويل في دائرة الضوء يقول بروفيسور الطيب زين العابدين الأستاذ الجامعي والمحلل السياسي رحمه الله:” أن عصبية الجيش السوداني تجاه النظام باعتباره جاء بانقلاب عسكري فضلاً عن وجود حزب منظّم خلفه يضم عدداً مهماً من المثقفين والكوادر المدرّبة، كلها مثّلت عوامل لبقائه في الحكم كل تلك الفترة، فضلاً عن استخدام النظام لنفوذ الدولة لتوطيد حكمه وإشراك القوى الأخرى، إضافة إلى براغماتية سلوكه وتغيير طروحاته من مرحلة إلى أخرى وفق الظروف والمتغيرات”.[2] وهناك أسباب أخرى لا يمكن أن نغفل عنها مثل هزال المعارضة التي نجحت الإنقاذ في استقطابها بالإغراءات المالية وبالحقب الوزارية، لم تكن المعارضة ذات شوكة لا تطال بل كانت لقمة سائغة للإنقاذ وليس في حديثنا هذا عن هذه المعارضة الهشة أي عدائية أو تجريح ولكنها حقائق نسردها بكل تجرد وحياد، ومن الأسباب التي أضعفت من قوة هذه المعارضة عسف الإنقاذ الذي لم يتيح لها أن تلتقي بقاعدتها العريضة في المساجد أو الميادين العامة، كما لم تكن لهذه المعارضة أي رؤية ثاقبة تكفل لها وأد النظام وتداعيه، والشيء المخزي أن جموع هذا الكيان لم يسعى أقطابه لنبذ خلافاتهم ويتوحدوا ضد نظام لم يجنوا منه سوى الخيبة والإحباط، أمر آخر لا يستطيع أحد جحده أو إنكاره هو أن هذه المعارضة التي لم تكن قوية أو حاسمة لم يكن لها فكر منهجي واضح المعالم يُمْكِن الناس من أن يتحلقوا حوله، ويؤمنوا به، ويتهالكوا عليه، وفي الجهة الأخرى كنا نبصر فكر يعمل بكل وعي وتدقيق لتذويب حدة السخط، وتغيير نمط التذمر، ويستمر في توليد صراعه الفكري الملتحف بالدين والذي يضمن له القوة والتأييد، لقد بقيت الإنقاذ ردحاً من الزمان معتمدة على عقائد عاطفية بحتة استطاعت أن تكفل لها البقاء ولكنها شوهت من جوهرها، وأقعدت منطلقاتها، وحدّت من طاقاتها.
إن من المهم أن نعيد النظر بعمق وتدبر في مسيرة حكم الحركة الإسلامية، وألا يمنعنا الولاء والانتماء من نقل صور حية وواضحة لا تجافي الحق تبرهن أن الإنقاذ لم تحقق العدل وتبني أركانه، وأنها بطشت بالتيارات الفكرية المختلفة ولم تسعى أن تفحم وتحاور تلك التيارات وقواها الفاعلة، وأنها ضحت بأصوليتها الدينية وقناعاتها المبدئية من أجل أن تستمر وتيرتها في الحكم وأنها بررت لنفسها ما لا يجوز باسم الدين، وأنها كانت تجنح كثيراً إلى القوة من أجل إسكات صوت معارضيها، كما أنها لم تحافظ على تماسكها وانغمست في متاهات الحرب والصراع.
الطيب النقر
[1] – جلال، صلاح، مقال بعنوان: خطاب الدكتور الترابي وثقوب الذاكرة، مرجع سابق، تم نشره في سودارس نقلاً عن صحيفة حريات الإلكترونية.
[2] -صحيفة العربي الجديد، 28 عاماً على النظام السوداني: مسيرة من الإخفاقات والتبدّلات، شوهد المقال يوم 1/7/2017م، رابط المقال:
www.alaraby.co.uk/politics/2017/6/30/28-عاما-على-النظام-السوداني-مسيرة-من-الإخفاقات-والتبدلات