الصين بين الاستهلاك والتصدير: قراءة في ملامح اقتصاد لا يشبه اليابان.. ولن يسقط كما سقطت طوكيو

كتب – يحيى الجعفري

ترسم الصين اليوم ملامح اقتصاد لا يقف عند حدود كونه “مصنع العالم”، بل يتقدّم ليصبح سوقًا داخلية جبارة تتحرّك بإيقاع استهلاك محلي واستثمار ضخم، وفي الوقت نفسه تظل صادراته إحدى ركائزه المهمة. وتكشف بيانات CEIC أن الاستهلاك الخاص في الصين شكّل قرابة 39.9% من الناتج المحلي الإجمالي لعام 2024، وذلك بحسب ما ورد في منصة CEIC Data. وتشير هذه النسبة إلى أن السوق الداخلية لم تعد عنصرًا ثانويًا، بل أصبحت لاعبًا مؤثرًا في دورة النمو التي تعتمد عليها بكين.

وفي سياق متصل، لا يكتمل فهم النموذج الصيني دون التوقف عند التغيرات التي طرأت على قطاع التجارة الخارجية. فالصين تواصل الاعتماد على التصدير، لكن دون الإفراط الذي ميّز العقدين السابقين، حيث أظهرت بيانات The Global Economy أن نسبة الصادرات إلى الناتج المحلي الإجمالي بلغت 20.02% فقط في 2024. وتختلف هذه النسبة عن سنوات الذروة التي تجاوزت فيها التجارة الخارجية (صادرات + واردات) مستوى 64% في منتصف العقد الأول من الألفية، قبل أن تتراجع إلى نحو 37% في 2023، وفق ما ورد في منصة Our World in Data.

هذا التحوّل في هيكل التجارة لا يأتي بمعزل عن دور الدولة، بل يرتبط مباشرةً بسياسات استثمارية واسعة. وتكشف بيانات EcoIndica أن الاستثمار شكّل حوالي 40.6% من الناتج المحلي، وذلك وفق ما ورد في EcoIndica. هذه النسبة تعكس دورًا حكوميًا نشطًا يهدف إلى تعزيز البنية التحتية والصناعة والتكنولوجيا، بما يخلق قاعدة استهلاك وتوظيف قومية تحافظ على النمو حتى مع توترات التجارة العالمية.

ومع تداخل هذه العناصر الثلاثة—الاستهلاك والتصدير والاستثمار—يبرز سؤال منطقي يكرره بعض المحللين الغربيين: هل يمكن وصف الصين بأنها “يابان ثانية”؟ والإجابة تبدو أقرب إلى النفي عند قراءة الأرقام وهيكل السوق.

تبدأ المقارنة مع اليابان من دور الدولة في توجيه الاقتصاد. فقد اعتمدت طوكيو في الثمانينات على سياسات صناعية صارمة وتركيز ثقيل على حماية الصناعات المصدّرة، مما أدى إلى اعتماد مفرط على التصدير على حساب السوق الداخلية. وقد تعرّض هذا النموذج لصدمة قاسية بعد اتفاقية بلازا عام 1985، التي رفعت قيمة الين وأضعفت تنافسيته، وهو ما أشار إليه تحليل نشره موقع Nippon. وبعد هذه الصدمة، دخلت اليابان في فقاعة مالية وانفجار عقاري، ثم عقود من الركود، كما يوضح تحليل منشور على الموقع الرسمي لبنك JBIC.

لكن مقابل هذه التجربة اليابانية المتعثرة، تقدم الصين نموذجًا مختلفًا تمامًا. فقد اعتمدت بكين منذ عقد سياسة “الدورة المزدوجة” التي توازن بين السوق الداخلية والانفتاح الخارجي، وهو ما أوضحته مؤسسة Carnegie Endowment في تحليلها لبنية النمو الصيني. وتعمل الدولة على خلق توازن بين التصدير، والاستهلاك المحلي، والاستثمار الحكومي، وبذلك تكفل مرونة تتحمّل تقلبات الاقتصاد العالمي. ومع سوق داخلية تتجاوز 1.4 مليار نسمة، يصبح الاستهلاك عنصر أمان وحصانة، لا مجرد مكمل للتجارة الخارجية.

ومن هنا، يمكن فهم لماذا تنجح بكين في تفادي مصير طوكيو، إذ تتعدد الفوارق البنيوية بين النموذجين. فالصين، خلافًا لما حدث في اليابان:

تعمل على التحول من مصنع إلى مصنع وسوق معًا، مستفيدة من قاعدة سكانية هائلة لا تستطيع اليابان الاقتراب منها.

تستفيد من مستوى دخل فردي يسمح بتوسّع طبقة المستهلكين دون أن يصل إلى حدود التشبّع كما حدث في اليابان قبل الأزمة.

تنخرط في السوق العالمية عبر شبكة واسعة من الشركاء والحلفاء تمتد من آسيا إلى أفريقيا وأمريكا اللاتينية، فضلًا عن وجود عمق استراتيجي مثل روسيا.

تُصدّر سلعًا متعددة ومتنوعة، مما يقلّل مخاطر الاعتماد على قطاع واحد، خلافًا لليابان التي ارتكزت على الإلكترونيات والسيارات.

تستثمر في التكنولوجيا المتقدمة من أشباه الموصلات إلى الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي، وهي مساحات تفوقت فيها الصين من حيث التنوع والانتشار مقارنةً باليابان وقت أزمتها.

وبالنظر إلى هذه المعطيات مجتمعة، يصبح من الصعب الحديث عن تشابه بين التجربتين. فالأرقام تُظهر أن الاقتصاد الصيني لا يعتمد على الخارج اعتمادًا هشًا يمكن الضغط عليه بسهولة، بل يعتمد على مزيج اقتصادي متوازن: استهلاك بنحو 40%، تصدير بنحو 20%، واستثمار داخلي يفوق 40% — كل عنصر منها تقوده الدولة عبر سياسات واضحة وفعّالة تستهدف حماية النمو وتقليل المخاطر.

وفي النهاية، لا تسير الصين على خُطى اليابان، بل ترسم طريقًا اقتصاديًا جديدًا يناسب حجمها وتوازناتها ورؤيتها الطويلة. فلا اتفاق Plaza جديد قادر على هزّ اقتصاد بحجم وتنوع ومرونة الصين، ولا تشابه حقيقي بين مسارَي البلدين سوى على مستوى المقارنات السطحية التي تتجاهل الوقائع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *