الجمال الغائب.. صور واسيلي ترصد شوارع القاهرة في زمن كورونا: روح غائبة وجدران تتكلم
عادل واسيلي يروي قصة الكاميرا الحرز وسحر يكشفه الهدوء وسكون يفتقد الروح: عندما شعرت بالرهبة في ميدان العتبة
تناقض دفء الزحام وجمال ظهر بغياب البشر.. سؤال واسيلي للمزج بين تنسيق المكان وحفظ معالمه والحفاظ على أرزاق العاملين
محمود هاشم
لم يكن أحد يتصور أن القاهرة، العاصمة دائمة الازدحام والصخب، التي لا تهدأ ولا تمل الأقدام من السير بين طرقاتها، ستخلو شوارعها من البشر ومعالم الحياة، بعد إجراءات حظر التجول المفروضة للحد من انتشار فيروس كورونا المستجد، الآن بات الجميع يشاهد الجدران والأرضيات بوضوح، البعض يراها فرصة للاستمتاع بالهدوء وجماليات المعمار، فيما ينظر الآخرون إليه بقلق من الغياب الموحش للبشر.
الجمال الغائب ربما هو العنوان الأنسب لمجموعة صور وثقها المهندس والمصور عادل واسيلي، للقاهرة وسط الحظر، جمال بدا بغياب البشر، وروح تتوق لحضورهم كان هذا هو التناقض الذي كشفته الصور.
واسيلي قرر تأريخ هذه الفترة الهامة من عمر البلاد بعدسته، راصدا تغير معالم أماكن القاهرة التاريخية في فترة ما قبل الكورونا وأثنائها، ومظهرا ملامحها التي اختفت لفترة طويلة في داخل صخب الزحام.
في الظروف الطبيعية، كان الأماكن التي التقطتها عدسة واسيلي مكدسة بشكل غير طبيعي على مدار اليوم، خاصة الحسين والعتبة والأزهر، حسبما يحكي لـ”درب”، أما الآن فلم تعد تسير فيها قدم بعد عصر كل يوم، وربما قبل ذلك أحيانا.
يقول عادل: “حاولت تصوير هذه الأماكن قبل ساعات الحظر، ميدان العتبة رائع الجمال لكننا لا نرى جماله بسبب التكدس الموجود داخله، وكثرة انتشار الباعة الجائلين في غير الأماكن المخصصة لهم، وعندما صورته الآن شعرت برهبة كبيرة، بعدما رأيت جمال المباني، وفي الوقت نفسه انتابني القلق مع سكونه وغياب الحركة داخله، المعمار له روح، وهذه الروح لا تظهر إلا بوجود بشر يعمرون المكان”.
ويضيف: “للمرة الأولى رأيت أرضية الميدان بوضوح، حتى أنني اعتقدت أنني ذهبت إلى مكان آخر بالخطأ، الملامح جميعها متغيرة أمام عيني رغم عدم تغير المعالم نفسها، إلا أن غياب هذا التكدس الشديد الذي كان المكان معتادا عليه فتح أعيننا على جماليات المكان التي لم نرها من قبل”.
بينما كان واسيلي يصور الميدان الذي بات ساكنا بفعل غياب البشر، كان يفكر في مصير الباعة الجائلين الذين كانوا يملأون المكان ببضاعاتهم، ولم يعد هناك وجود لأي منهم بفعل قرارات حظر التجول، ويشرح: “لا بد من وجود وسيلة للمزج بين تنسيق المكان والحفاظ على معالمه، في الوقت نفسه الحفاظ على أرزاق العاملين في المنطقة، دول بياكلوا عيشهم يوم بيوم هيروحوا فين”.
مقهى الفيشاوي أيضا كان من أبرز الأماكن التي حرص واسيلي على تأريخ وضعها في زمن الكورونا، ويقول: “كثيرون ممن يعيشون في القاهرة أو القادمين إليها، مروا عليها وهي في معظم الأوقات صاخبة ومليئة بالحركة والبهجة، كنا نسميها المقهى الذي لا يغلق، أما الآن فباتت أبوابها موصدة لا يرى منها إلا الأقفال، لم أرها كذلك على مدار 57 سنة من عمري”.
ويستطرد: “أماكن مثل الحسين والغورية والمعز والمغربلين والمعتبة كانت دائما وجهة محبي السهر والليل، الآن باتت كأنها خاوية على عروشها، وأصبحت مهجورة تماما”.
“القاهرة التي لا تنام نامت، منذ أسابيع قليلة كانت أماكن الخروج والسهر تكاد لا تغلق أبوابها، والآن حواري الأزهر والحسين وغيرها مغلقة تماما ولا يسير في شوراعها إلى القطط”، يوضح واسيلي، مضيفا: “الصمن بات يكسو جميع المعالم، متعة الحياة في وجود البشر، أما الآن قد تأتي علينا أوقات لا نجد فيها فردا واحدا يسير في الشارع”.
ويتابع: “حتى في ظل الثورة، كانت الحياة مليئة بالصخب، رغم فترات حظر التجوال، أما الآن فباتت الأماكن موحشة بشكل مخيف، يكتنفها خوف كبير من المجهول، الهدوء يبين سحر وجمال المكان والمعمار، الذي قد لا يظهره الازدحام أحيانا، وهذا جزء لا يتجزا من الهوية المصرية، إلا أن الصخب أيضا قد يشكل طابع أماكن بعينها، وتغيب روحها بغيابه”.
بحكم عمله كمهندس مدني، يغرم واسيلي بمدلولات الأبواب والنوافذ، التي رصدت عدسته ملامحها في زمن كورونا، فهم يصنعون حاجزا اختياريا بين الشخص وبين العالم الخارجي، ويوفرون مزيدا من الخصوصية أو حتى الراحة أو الانعزال، الآن الأمر مختلف الغلق بات ذاتيا وإجباريا أكثر من كونه انغلاقا على الآخرين بين الجدران.
ويرى أنه في الظروف العادية توفر الأبواب والنوافذ مساحة خاصة من الأمان الشخصي، وبمجرد فتحها يهيء الإنسان نفسه للتعامل مع العالم الخارجي، وهي لا تمثل فقط تراثا عقاريا بل إرثا اجتماعيا يؤثر بشكل كبير في سيكولوجية وهوية البشر، حاليا الوضع بات مختلفا المواطنون جالسون في منازلهم خوفا من الفيروس، بينما تبدو الأبواب والنوافذ والجدران تتحدث بالنيابة عنهم.
الصور التي أرخ بها واسيلي لمعالم القاهرة في الفترة الحالية لم تأت دون صعوبات، حيث تم توقيفه أكثر من مرة في أثناء التقاطه عددا من الصور في منطقة الحسين والأزهر، وهدده عدد من أفراد الأمن بمصادرة الكاميرا الخاصة به، قبل تركه لكبر سنة، حسبما يحكي.
“الأمن بات يتعامل مع الكاميرا على أنها حرز يستوجب تحرير محضر بشأنه، بصرف النظر عما تلتقطه، الأمر قد يبدو طبيعيا في خلال فترة الحظر، لكنني مستغرب من إصرارهم على هذه التقييدات حتى خلال الفترة الضئيلة المسموح للمواطنين بالتحرك فها”.
واستكمل: “قبل يوم من قرار الحظر، في أثناء تصويري كنيسة البازيليك التي دفن فيها المعماري البلجيكي الشهير البارون إمبان، بعد تحديث إضاءتها لإعطائها منظرا جماليا ليلا، استوقفني عدد من أفراد الشرطة رافضين تصويرها، على الرغم من أنها تراث لكل المصريين وليست منشأة عسكرية أو ما شابه من الأماكن الممنوع تصويرها”.
ويرى أن الأمر يمثل نظرة فنية مختلفة البعض يستقبلها بخوف وفزع، وآخرون يستقبلونها بإعجاب بالهدوء والتراث المعماري، ونحن بين هؤلاء وهؤلاء دورنا هو توثيق هذه الفترة الهامة كل على طريقته، بالكتابة أو التصوير أو بأي من الوسائل المتاحة.
وحول تصوره لطبيعة أوضاع القاهرة بعد انتهاء الأزمة، يرى أن سلوكيات البشر بعد انتهاء الأزمة، هي حياة اجتماعية وثقافة شعبية يحددها البشر أنفسهم، بناء على ما يعيشون من أوضاع وما يرون وما يأملون أن يكون وضعه، إلا أن علينا تغيير تصورات البشر بشأن الجمال،على الدولة التفكير في تنظيم الشوارع والأسواق والحفاظ على التراث المعماري، وفي الوقت نفسه مساعدة العاملين وغيرهم في توفير أماكن ومصادر رزق لهم تعينهم على أعباء الحياة، وليس مجرد مصادرة بضاعاتهم لتنسيق الشوارع، فالإنسان دائما يجب أو يكون قبل الأرباح وقبل أي اعتبار.
رغم الصعوبة التي واجهها المهندس والمصور المصري، إلا أنه ما يزال مصرا على تأريخ لهذه الفترة للأماكن والشوارع لكي تبقى شاهدا للأجيال المقبلة، خاصة أننا أمام وضع استثنائي لم ولن يتكرر طوال حياتنا.