إلهامي الميرغني يكتب: تخفيض قيمة الجنيه لن يحل المشكلة
منذ خضعت مصر لشروط صندوق النقد الدولي وتوالي تخفيض قيمة الجنيه أنخفضت قيمته من 7 جنيه مقابل الدولار في 2014 إلي 31 جنيه في 2023 بينما وصل السعر في السوق السوداء لأكثر من 62 جنيه وبما يكشف عن عمق الأزمة الاقتصادية والتي تزيد بتنفيذ برنامج الصندوق الذي تسعي الحكومة للحصول منه علي قرض إضافي جديد.
كلما غرست مصر في وحل الديون كلما كبلتها مطالب وشروط صندوق النقد بعيداً عن قياس أثر هذه السياسات علي المواطن محدود الدخل والذي أصبح 33% منهم يعيشون تحت خط الفقر الوطني واكثر من 60% يعيشون تحت خط الفقر الذي يضعه البنك الدولي. وأدت فجوة سعر الصرف وارتفاع نسب التضخم إلي تآكل الأجور الثابتة والمعاشات وتآكل القيمة الحقيقية للودائع بالبنوك رغم كل الشهادات الجديدة طالما أن سعر الفائدة أقل من معدل التضخم السنوي وبما ضاعف من تكلفة ومخاطر الاستثمار. إضافة الي هجوم وضغط منظمات التصنيف الإئتماني الدولية علي مصر والتخفيض المستمر في قدرة مصر علي سداد إلتزاماتها. للمزيد من الضغط والخضوع لروشتة صندق النقد الدولي طالما ان الدولة مستمرة في الاستدانة بلا حدود ولا تبحث عن حلول أخري ، ولا تعطي فرصة لمناقشة البدائل في ظل سيطرة الرأي الواحد.
مصر لم ولن تستطيع تعويم قيمة الجنيه المصري لأن ذلك يكون نوعاً من الإنتحار. ولكنها تضطر بين فترة وأخري لأجراء تخفيض علي قيمة الجنيه بما يعرف بسياسة التعويم المدار أو التحريك الذي تتحكم فيه السياسات النقدية. جذر الأزمة الحالية يمكن أن نراه من عدة زوايا:
الأولي هي أن ديون مصر الخارجية قفزت من 46 مليار دولار في عام 2014 إلي 165.3 مليار دولار في نهاية 2022 اضافة الي ديون محلية بلغت في نفس الفترة 6.8 تريليون جنيه. وبذلك اصبحت فوائد الديون تمثل 14% من الناتج المحلي الإجمالي و اعباء الدين تمثل 113% من الإيرادات . ولا تقف الإزمة عند هذا الحد لأن مصر مطالبة بسداد 29.2 مليار دولار في عام 2024 ( 905.2 مليار جنيه بالسعر الرسمي والضعف اذا حسبنا الرقم بسعر السوق السوداء). يضاف الي ذلك 19.4 مليار دولار مطلوبة في 2025 و22.9 مليار دولار في 2026.
الثانية : يتواكب مع ذلك انخفاض كل مصادر الإيرادات الدولارية فالصادرات في 2022/2023 بلغت 39.6 مليار دولار بينما الواردات 70.8 مليار دولار. وإذا نظرنا للسياحة نجد ان المتحصلات بلغت 13.6 مليار دولار بينما سياحة المصريين في الخارج شاملة الحج والعمرة بلغت 4.9 مليار دولار وبذلك يكون صافي الميزان السياحي 8.7 مليار دولار فقط وليس 13.6 كما يروج البعض.
أما أهم مصادر الدخل الأخري فهي تحويلات المصريين العاملين في الخارج والتي بلغت في العام الماضي 31.9 مليار دولار وانخفضت في 2022/2023 إلي 22 مليار دولار نتيجة فقدان الثقة في الاقتصاد من ناحية والتوقف عن التحويل أو تسرب التحويلات للاستفادة في الفرق الكبير في سعر السوق السوداء. أما ايرادات قناة السويس والتي بلغت 8.7 مليار دولار فقد تراكمت المؤمرات والظروف المؤثرة علي ايرادات القنال سواء بخط التجارة الهندي الأماراتي السعودي الأردني الاسرائيلي الأوروبي أو من خلال تأثير هجمات الحوثيين علي الملاحة في البحر الأحمر وتحولهم الي رأس الرجاء الصالح نتيجة الاضطرابات وبما ينعكس علي ايرادات مصر الخارجية المتوقعة.
لذلك شاهدنا انخفاض قيمة الجنيه مقابل الدولار من 7 جنيهات في 2014 إلي 17.8 جنيه بعد اتفاق الصندوق في 2016 ثم 20 جنيه في أكتوبر 2022 ووصل الي 30.8 جنيه منذ فبراير 2023 وحتي الان .
لذلك اذا استمرت الحكومة في المزيد من الاستدانة والمزيد من الخضوع لشروط صندوق النقد الدولي أكبر الدائنين وموجههم فإنها ستلجأ إلي تخفيض جديد في قيمة العملة . بعد ان اصبحت ثاني اكبر دولة مدينة للصندوق في العالم بعد الأرجنتين، وبعد أن اصبحت مصر وفق تقارير البنك الدولي أكبر دولة مدينة في افريقيا وان ديونها المحلية والخارجية تجاوزت 421 مليار دولار وبما يمثل 23% من إجمالي الديون الافريقية. لذلك تستمر مصر في بيع الأصول الرابحة والتي هي ملك الأجيال القادمة وثروة الوطن، وتستمر في تخفيض قيمة الجنيه مقابل الدولار وفقاً لسياسة التعويم المدار. ولأنها تستبعد الحلول الأخري التي يمكن أن توفر موارد بالعملة الصعبة لتغطية الالتزامات دون التفريط في الأصول بشرط التوقف عن الاستدانة والبحث عن موارد حقيقية سواء بإصلاح النظام الضريبي واعادة توزيع الاعباء بين طبقات المجتمع. أو من خلال وقف المزيد من النزيف للموارد في مشروعات لا تدر ايرادات مثل العاصمة الإدارية والمونوريل والقطار السريع ، وكما فعلت بالتوسع في محطات الكهرباء بالديون والآن تطرحها للبيع لسداد الديون وتستمر في تخفيض الأحمال رغم الحديث عن فائض الكهرباء وتصديرها. بل أن الجون الذي أحرزته مصر باكتشاف حقل ظُهر ذهب مع الريح وتقلص إنتاجه واصبحنا نستورد الغاز من العدو الصهيوني قاتل الشعب الفلسطيني .
لن تخرج مصر من الأزمة باقتصاد المول والكمبوند فهذه رفاهية لا تصلح لدولة “فقيرة قوي” بل نحتاج لتنمية حقيقية مستدامة وشاملة في الزراعة والصناعة ودعم للمستثمر المصري ووقف تدخل الدولة واجهزتها في الاستثمار الذي يضر بالسوق ويضعف فرص الاستثمار والمنافسة العادلة. الزراعة والصناعة هي الحل ، والصادرات الحقيقية ضرورة يجب دعمها بكل الوسائل مصر تصدر سلع زراعية وهذا شئ إيجابي لكن صادراتها الصناعية ضعيفة جدا واحياناً تصدر المواد الخام بدون أي عمليات صناعية أوقيمة مضافة. لذلك تستمر الأزمة وتتعقد ويزيد مرض وهزال الاقتصاد المصري رغم كل طاقاته وإمكانياته الكامنة .
تخفيض الجنيه مجرد مسكن لحظي سيزول اثره بعد شهور وتعود الفجوة بين السعر الرسمي وسعر السوق السوداء. وطالما ان مصر لا تملك مصادر حقيقية للدخل الاجنبي تسمح لأن اي شخص يتوجه للبنك ليشتري اي كمية دولارات دون السؤال عن السبب او دون وضع قيود تستمر الأزمة. لقد اصبحت بعض البنوك تضغ قيود علي استخدام بطاقات الإئتمان في الخارج حرصاً علي العملة الأجنبية وهو ما يعني أن سوق الصرف غير حرة. وبها قيود تنعكس في أزمات الأدوية والسلع الغذائية وتوفير مستلزمات الانتاج المستوردة.
لذلك فإن التخفيض القادم لن يكون الحل، ولا يعالج جذور الأزمة. لدينا البدائل والحلول للخروج من الأزمة ولكن تغيب عنا الإرادة السياسية رغم أننا جميعاً في مركب واحد وكلنا حريصين علي الخروج من الأزمة وعدم تحميل المواطن المصري المسحوق بإعباء جديدة .