إلهامي الميرغني يكتب: الغلاء في مصر.. أسبابه ونتائجه
غياب القطاع العام واحتكار الخاص وغياب الدولة حمل المواطن أعباء لم يتحملها المواطن الروسي والأوكراني
منذ 2015 تم إلغاء دعم الغاز الطبيعي وفي 2019 تم إلغاء دعم الكهرباء ورغم ذلك توجد زيادات سنوية في أسعارها
هناك إصرار على تحميل كل عجز ميزان المدفوعات والموازنة العامة على «شماعة الدعم» رغم كل التخفيض الذي يحدث منذ 12 عاما
هل أصبح دعم السلع التموينية ودعم رغيف الخبز سببا كل مشاكل مصر؟
دراسة حول مؤشرات الفقر 2018 توصلت إلى انخفاض الاستهلاك الفعلي للفرد بين عام 2015 و2018 بمقدار 5.1%
بارتفاع أسعار البنزين في 4 فبراير الماضي تفجرت موجة جديدة من الغلاء، ورغم ان الزيادة لم تتعدي 25 قرش (ربع جنيه) إلا أن تفاعلاتها وانتشارها كان أكبر من ذلك بكثير وشمل العديد من أسعار السلع والخدمات. وفي 21 فبراير بدأت الحرب بين روسيا وأوكرانيا لتتفجر موجة أخري من الغلاء العالمي بمجرد إندلاع الحرب. ورغم أننا لم نشتري كيلو جرام جديد من القمح أو الذرة بعد الحرب ولدينا مخزون يكفي أربعة شهور، وفي مايو يبدأ موسم حصاد القمح ويكفينا لأكثر من ست شهور أخري. إلا أن طمع وجشع التجار وغياب الرقابة علي الأسواق جعل التجار يرفعون أسعار السلع الموجودة في مخازنهم ويستغلون ظروف الحرب في أوكرانيا لرفع أسعار مجموعة كبيرة من السلع والخدمات لا علاقة لها بالحرب من قريب أو بعيد بل أن سعر طن الحديد أرتفع أكثر من 3000 جنيه وكذلك أسعار الأسمنت في ظل غياب القطاع العام واحتكار القطاع الخاص وغياب الدولة. ليتحمل المواطن المصري الفقير محدود الدخل أعباء لم يتحملها المواطن الروسي والأوكراني الذين يعانون ويلات الحرب علي أرض المعركة.
أسباب الغلاء
كما تعلمنا أن المقدمات تقود دائما إلي النتائج. ومقدمات موجات الغلاء المتلاحقة بدأت منذ إلغاء الدورة الزراعية وإطلاق حرية الأسواق وزيادة الاعتماد علي الخارج لنستورد 70% من استهلاكنا من القمح ونكون أكبر دولة مستوردة للقمح في العالم، و50% من احتياجاتنا من الذرة بل و 10% من استهلاكنا من الأرز، و88% من استهلاكنا من الفول و99% من العدس.
واصبحنا نستورد طعامنا بالديون. هجرنا الصناعة وأهملنا المصانع وصفينا مصانع القطاع العام وحولناها إلي أراضي سكنية وتركنا قيادات فاسدة وطاقات عاطلة وأصول مهدرة بلا محاسبة. بل وصل الأمر لتوقف ما يتراوح ما بين خمسة آلاف وثمانية آلاف مصنع عن الانتاج في القطاع الخاص وأصبح اعتمادنا علي الاستيراد من الخارج من السوست والزراير إلي الالات والمعدات. وأصبح الاعتماد علي التنمية بالمقاولات والعقار أو التنمية بالمول والكمبوند كما سميناها من قبل.
لذلك زاد اعتمادنا علي الخارج وتضخمت وتضاعفت ديوننا المحلية والخارجية، وعندما ذهبنا للحصول علي قرض جديد من صندوق النقد الدولي عام 2016 فرض شروطه، وتعهدت الحكومة بالمزيد من التقليص للقطاع العام واطلاق حرية القطاع الخاص وحرية الأسواق بلا رقابة وبلا تدخلات وبتحويل ضريبة المبيعات الي ضريبة القيمة المضافة الجائرة التي تعيد توزيع الدخل لصالح الإغنياء، كما تعهدت مصر بتعديل عدد من التشريعات منها قانون الخدمة المدنية ووقف التعينات بالحكومة وهو ما وصل بنا إلي أزمة المعلمين والأطباء الحالية، وقانون التأمين الاجتماعي وقانون التأمين الصحي ويتبقي قانون العمل الذي كان ضمن تعهدات مصر لصندوق النقد الدولي. كل هذه المقدمات قادت لموجات الغلاء المتتالية التي تفتك بالمصريين منذ 2017 وحتي الآن.
كان إلغاء الدعم أحد تعهدات الحكومة للصندوق ولقد تقلصت أهمية الدعم إلي إجمالي مصروفات الموازنة من 9% عام 2010/2011 إلي 4.5% فقط في موازنة 2021/2022. ومنذ 2015 تم إلغاء دعم الغاز الطبيعي، ومنذ 2019 تم إلغاء دعم الكهرباء ورغم ذلك توجد زيادات سنوية في أسعار الغاز والكهرباء. كما تراجع دعم المواد البترولية من 120 مليار جنيه عام 2012 إلي 18 مليار جنيه فقط في الموازنة الأخيرة. بينما أرتفع الانفاق علي فوائد الديون من إجمالي المصروفات من 21.2% عام 2010/2011 إلي 31.5% في موازنة العام الأخير بعد ان وصل الي 39.6% من المصروفات في 2019/2020 . إذا تخفيض الدعم لم يذهب إلي الاستثمار أو التنمية ولكن ذهب إلي سداد الفوائد وأقساط الديون.
لكن هناك إصرار علي تحميل كل عجز ميزان المدفوعات والموازنة العامة علي شماعة الدعم رغم كل التخفيض الذي حدث في الدعم من 2010 إلي 2021 لم يرتفع دعم السلع التموينية الا بمقدار 4.1 مليار جنيه فقط من 32.5 مليار إلي 36.6 مليار. رغم زيادة السكان من 82.7 مليون نسمة عام 2010 إلي 102 مليون نسمة (20 مليون نسمة). تم الغاء دعم الغاز والكهرباء وتقليص دعم البترول وفي طريقه للالغاء ولم يتبقي الا دعم رغيف الخبز الذي ارتفع المخصص له من الدعم وتضاعف من 22.4 مليار جنيه عام 2010 إلي 50.6 مليار جنيه في موازنة 2021. رغم معدلات التضخم وارتفاع الأسعار من 2011 إلي 2021 ورغم زيادة عدد السكان. واصبح الخمسين مليار المخصصين لدعم الخبز هم سبب كل مشاكل مصر وشماعة كل أخطاء الحكومة الحالية والحكومات السابقة.
بل لقد بدأ الهجوم علي دعم الخبز في 14 أغسطس 2021 عندما تحدث الرئيس بنفسه عن أسباب مراجعة دعم الخبز وقال “محدش يقدر على كده” وأكد: أن وزير التموين بيدرس زيادة أسعار الخبز وكأن 50 مليار دعم الخبز هي سبب المشكلة وليس استيراد 70% من القمح و50% من الذرة و 88% من الفول و99% من العدس.
وكأن المشكلة ليست تفاقم الديون وفوائدها بل مخصصات دعم الخبز وكيف لا وقد سبق التعهد الي صندوق النقد بإلغاء الدعم وحرية الأسواق وحرية القطاع الخاص وتقليص دور الدولة والقطاع العام.
ثم عاد الرئيس في 22 ديسمبر 2021 ليتحدث عن تقليص عدد المستفيدين من البطاقات التموينية وقال إن الدولة لن تسمح باستخراج بطاقة تموينية لأكثر من شخصين. هكذا أصبح دعم السلع التموينية ودعم رغيف الخبز هما سبب كل مشاكل مصر ليس أهمال الزراعة والصناعة او الديون وليس التوسع في الطرق والكباري والعاصمة الجديدة والمونوريل بل رغيف الخبز فقط والذي لو تم إلغاء الدعم له ستحل كل مشاكل مصر الاقتصادية.
إنطلقت حملة كبري حول المواطن المصري المبذر الذي يأكل الخبز المدعم ويطعمه للطيور والذي تم تخفيض وزنة اكثر من مرة ليصبح 90 جرام فقط، مع الارتفاع المتوالي في أسعار الأرز نتيجة تقليص المساحات المزروعة به نتيجة أزمة المياه وسد النهضة ورغم انه يمكن أن يلعب دور في تخفيض استهلاك الخبز كما يحدث في المحافظات الساحلية. بل وصل التضليل إلي حديث أحدي الصحف ان الفراعنة (يقصدون قدماء المصريين) لم يأكلوا الخبز، وكأن الخبز الذي يسميه المصري العيش هو مظهر من مظاهر الرفاهية والبذخ والاستهلاك السفيه.
حقائق حول غذاء المصريين وجوعهم
ينشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء نشرة سنوية بعنوان ” مصر في أرقام” وفي نشرة عام 2020 تراجع متوسط نصيب استهلاك الفرد من بعض المواد الغذائية من 2015 إلي 2018 حيث انخفض متوسط استهلاك الفرد من الحبوب من 244.8 كيلو جرام سنوياً إلي 239.4 كيلو جرام سنوياً، والمحاصيل النشوية من 32.7 كجم إلي 29.3 كجم، والخضر من 93.1 كجم إلي 77.2 كجم والفاكهة من 84.5 كجم إلي 77 كجم، بينما أرتفع متوسط استهلاك الفرد من البقوليات من 5.1 كجم إلي 10.2 كجم والبيض لتعويض نقص باقي المواد الغذائية كما انخفض متوسط نصيب الفرد من اللحوم الحمراء والدواجن. لذلك أعلن الرئيس السيسي في أغسطس الماضي عن ارتفاع معدلات الانيميا والبدانة والتقزم بين الأطفال وهي ما تسمي وفقاً لإحصاءات الأمم المتحدة مقاييس الجوع.
دراسة الدكتورة هبة الليثي المستشار الإحصائي للجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حول مؤشرات الفقر عام 2018 توصلت إلي:
– انخفاض الاستهلاك الفعلي للفرد بين عام 2015 و 2018 بمقدار 5.1 . %
– كان الانخفاض في الحضر أكبر منه في الريف وفي المحافظات الحضرية (القاهرة والاسكندرية و بورسعيد والسويس) اكبر من الأقاليم الجغرافية الآخرى.
– ريف الوجه القبلي هي المنطقة الوحيدة التي أرتفع فيها الاستهلاك الفعلي لكنها لازالت أقل المناطق من حيث مؤشر مستوى المعيشة.
– يتحدد التغير في مستويات الفقر بعاملين:
1 – التغير في استهلاك الفرد.
2 – التغير في عداله توزيع الاستهلاك.
– عانت الشرائح الدنيا من إنخفاض في مستوى معيشتها اكثر من الشرائح العليا في الحضر، أدى ذلك إلى زياده مستويات الفقر في الحضر مقارنه بالريف.
– أدي الانخفض في استهلاك الفرد لتغيرات مؤشر عدالة التوزيع وزيادة نسب الفقراء.
هذه ليست رؤيتي للتقرير أو رؤية اقتصادي يساري ولكنها رؤية المستشار الاحصائي لجهاز الدولة الحكومي في تحليل مؤشر الفقر. أدي ذلك لارتفاع مقاييس الجوع كما عبر عن ذلك وزارء الحكومة الحالية.
قالت الدكتورة هالة زايد وزيرة الصحة الحالية/السابقة في كلمة خلال افتتاح الرئيس السيسي المدينة الصناعية الغذائية “سايلو فودز” بمدينة السادات، أن مبادرة الرئيس عبد الفتاح السيسي للكشف عن السمنة والأنيميا والتقزم لطلاب المدارس (مؤشرات قياس الجوع) بدأت في العام الدراسي بنهاية 2018 -2019 ، ولم تتوقف المبادرة مع ظهور جائحة كورونا، وأدركنا أنه يجب البدء بالمبادرة في التيرم الأول تحسبا لأى تطور في أعداد الإصابات، وقمنا هذا العام بالكشف علي أكبر عدد من الأطفال، وكشفت لنا المبادرة على مدي 3 سنوات متوسط السمنة والذي بلغ حوالي 14% ، والأنيميا 33% وهناك أماكن تتجاوز بها النسبة 50%، والتقزم متوسطه في الثلاث سنوات حوالي 5%، كما أن هناك أطفال يعانون من الأنيميا والسمنة بنسبة تصل لـ 4%، وهناك يعانون من أنيميا وسمنة وتقزم بنسبة تصل لنصف في المائة.
هذه تصريحات وزيرة الصحة في حضور الرئيس.
أما الدكتور طارق شوقي وزير التربية والتعليم و التعليم الفني، فقال إن نتائج مبادرة رئيس الجمهورية للكشف على السمنة والأنيميا والتقزم بين طلاب المدارس، كشفت عن إجمالي عدد الطلاب الذين تم إجراء المسح عليهم ضمن حملة 100 مليون صحة وقد وصل إلى 25 مليون طالب، وأن عمليات المسح أسفرت عن إصابة 3 ملايين طالب و399 ألفًا و380 طالباً بالسمنة، وإصابة 8 ملايين و215 ألفاً و059 طالبًا بالأنيميا، وإصابة مليون و297 ألف طالب و681 طالباً بالتقزم.
هذه تصريحات وزير التعليم.
هذه هي احصاءات الدولة المصرية عن غذاء واستهلاك وجوع المصريين وصحة الأطفال مستقبل مصر. فهل الغلاء بسبب استهلاك المصريين كما يروج إعلام الدولة؟! هل الغلاء بسبب حرب أوكرانيا؟! أم أنه حصاد سياسات فاسدة ومنحازة للأغنياء وتحمل كل أعباء أزمتها ومشاريعها غير الضرورية وفسادها للمواطن المصري الذي يعاني الفقر والجوع والانيميا وسوء التغذية والتقزم بسبب نقص الغذاء؟. وقد حان الوقت لوقف هذه السياسات وإصلاح ما أفسده الصندوق والبنك.