إلهامي الميرغني يكتب: الاقتصاد المصري من يوليو 1952 إلى الآن.. ماذا حدث؟
عرفت مصر قبل 1952 بأنها دولة زراعية ولكن فلاحيها الكادحين يعانون ويلات الفقر والجهل والمرض، والريف المصري في حالة شديدة التخلف، ومعدلات الأمية مرتفعة ثم جاءت حركة الضباط الأحرار لترفع منذ فجر اليوم الأول المطالب الستة.
مصر قبل ثورة 1952
وفقاً لكتاب الاحصاء السنوي العام 1949- 1951 الصادر عن مصلحة الإحصاء والتعداد التابعة لوزارة المالية والاقتصاد يتضح أن عدد سكان مصر وفقا لتعداد عام 1947 بلغ 16.8 مليون نسمة منهم 12.8 مليون يعانون الأمية الابجدية ويمثلون 76% من الشعب المصري.
عدد تلاميذ المدارس 816.6 ألف تلميذ/ة منهم 615.5 ذكور و 224.1 ألف إناث. جملة المعلمين بالمدارس الحكومية والأجنبية 228.2 ألف معلم( معلم لكل اربع تلاميذ) . والتعليم العالي فيه 3 جامعات فؤاد الأول (القاهرة) وجامعة ابراهيم (عين شمس) وجامعة الاسكندرية. كما كانت موازنة الكلية الحربية وكلية الشرطة تنشر ضمن موازنة وزارة المعارف العمومية.
ماذا حققنا وإلي أين وصلنا؟!
الريف المصري
كانت الزراعة المصرية قائمة علي المحاصيل التقليدية مثل القمح والشعير والذرة والكتان والسمسم وعام 1820 أدخل محمد علي زراعة القطن مستغلا الحرب الأهلية الأمريكية لتوفير القطن طويل التيلة لمصانع النسيج في انجلترا، ثم ادخل إبراهيم باشا ابن محمد علي زراعة قصب السكر في الصعيد. وكان الريف المصري يعاني الفقر وسيطرة الاقطاع علي المساحات الكبيرة من الأرض.
لما جت ثورة يوليو كان في مصر 2.8 مليون مالك زراعي :
– 2.7 مليون فلاح بيملكو أقل من 10 أفدنة ونسبتهم 98.8% من الملاك وحيازاتهم 54.9% من المساحة المزروعة.
– أما من يملكون 20 فدان فأكثر فعددهم 33 ألف مالك فقط بيمثلوا 1.2% فقط من الملاك ويملكوا مساحات تمثل 45.1% من ارض مصر الزراعية.
لذلك كان الريف المصري يعاني وأول ما فعلته حركة يوليو هو اصدار قانون الاصلاح الزراعي بعد اقل من شهرين حيث تم تحديد الملكية الزراعية ب 200 فدان في القانون رقم 178 لسنة 1952 و 100 فدان ثم 50 فدان بالقانون 50 لسنة 1969 وتم توزيع اراضي الاقطاع علي الفلاحين علي ان تسدد قيمتها علي اقساط وعوضت ملاك الأراضي عن قيمة الأرض التي تم الاستيلاء عليها.
ومنذ بداية الاصلاح الزراعي وقانونه الأول راعت الثورة المخاطر المترتبة علي تفتيت الملكية الزراعية فأفردت الفصل الثاني من القانون لجمعيات التعاون الزراعي كشكل لتجميع الأرض الزراعية وعدم تحولها لمساحات قزمية كما حدث الآن، وضع ضوابط للحد من تجزئة الأراضي الزراعية ( الباب الثالث من القانون) ثم تحديد الضرائب الاضافية واخيراً تحديد العلاقة بين المالك والمستأجر واشترط الا يزيد الايجار علي سبعة أمثال الضريبة وبما شكل حماية كبيرة لصغار الفلاحين وخاصة المستأجرين .
لم يكن الإصلاح الزراعي إلي خطوة علي طريق تحديث علاقات الانتاج والعلاقة بين المالك والمستأجر والدورة الزراعية والتوسع في الميكنة الزراعية والإرشاد الزراعي ، كما شهد الريف المصري طفرة تنموية شاملة بعد تولي الدكتور النبوي المهندس وزارة الصحة عام 1961 حيث وضع استراتيجية للصحة من خلال إنشاء شبكة من الوحدات الصحية فى الريف بواقع وحدة صحية فى كل قرية، ومجموعة صحية فى القرى الكبرى ومستشفى مركزى فى كل مركز، ومستشفى عام فى عاصمة كل محافظة، ليبلغ عدد الوحدات الصحية فى ذلك الوقت 2500 وحدة لتمتلك مصر واحدة من كبرى الشبكات الصحية فى العالم. ولم يقتصر الأمر علي الوحدات الصحية بل تم انشاء وحدات مجمعة في اكثر من الف قرية تضم كل وحدة مجمعة وحدة زراعية ووحدة اجتماعية و مدرسة ووحدة صحية لمواجهة ثالوث الريف المصري (الفقروالجهل والمرض) ولكن توقف المشروع مع نكسة 1967 ثم بدأت الردة من مايو 1971.
الآن وبعد مرور 71 سنة على قانون الاصلاح الزراعي والردة على كل منجزات يوليو إلى أين وصل هيكل الملكية في الريف المصري في عام 2015؟!
95% من الملاك يملكون 58% من الأرض الزراعية، من يملكون 20 فدان فأكثر فيملكون 32% من الأرض الزراعية ويمثلون 3% من الملاك. وأصبح لدينا 2.6 مليون مكلفة تمثل 59% من إجمالي المكلفات الزراعية في 2015 ويملكون مساحة أقل من فدان. تم الارتداد على كل مكتسبات الفلاحين من قانون الاصلاح الزراعي حيث تم طرد الفلاحين من الأرض التي دفعوا ثمنها وتمت إعادتها للإقطاعيين الذين استلموا تعويض من الدولة وتم إلغاء الدورة الزراعية وتغيير قانون العلاقة بين المالك والمستهلك، ووقف دور الدولة في الميكنة الزراعية والإرشاد الزراعي وإطلاق أسواق المحاصيل الزراعية والبذور والتقاوي. وبدلًا من قيام الفلاح كما كان يفعل منذ آلاف السنين بإكثار البذور لزراعتها في الموسم التالي، تم سرقة الأصول الوراثية للمحاصيل والطيور والحيوانات المصرية. وأجبر الفلاح على شراء بذور تستخدم لسنة واحدة ليضطر إلى الشراء في العام التالي وهكذا أصبح الفلاح رهينة عند المستوردين. وتم تحويل بنك التسليف التعاوني إلى بنك التنمية والائتمان الزراعي ثم البنك الزراعي المصري الذي أصبح بنكا تجاريا وبدلا من إقراض الفلاحين قروض بسعر فائدة رمزية أصبحت كل سجون مصر مليئة بفلاحين اقترضوا وعجزوا عن السداد لنعيش مرحلة أشد قسوة علي الفلاحين من المرابي في نهاية القرن الماضي ومطلع القرن العشرين.
دعم الطبقة الوسطي
اهتم نظام يوليو بالتعليم واستهدف وجود مدرسة ابتدائية في كل قرية ومدرسة اعدادية تخدم قري متجاورة ومدرسة ثانوية في كل مجموعة قري على أن يتم التوسع لنصل إلى مدرسة ابتدائية وأخرى إعدادية وثانوية في كل قرية ولكن كل ذلك توقف مع صعود التعليم الخاص وانسحاب الدولة التدريجي من التعليم حتى أصبحنا أمام عجز يزيد على 350 ألف فصل وأكثر من 350 ألف معلمة ومعلم.
كما تم التوسع في إنشاء الجامعات بما خلق طبقة ذات تعليم عالي غني لهم عبدالحليم حافظ من كلمات صلاح جاهين ولحن كمال الطويل ” صورة ” وقال فيها (واساتذه وعلما ومعامل ودكاتره من الشعب العامـل ،ورجال سكر علي مكاتبها تخدم بالروح لما تعامـل) وبدأ تشجيع البحث العلمي وارسال البعثات للخارج، وكانت الجامعات تخرج الالاف سنويا من مختلف التخصصات .
واكب حركة التأميمات في الستينات حركة تعينات كبري في القطاع العام والحكومي بوظائف ذات اجور مناسبة وقيمة ومكانة اجتماعية متميزة. وكان يوجد نظام تكليف لعدد من الخريجيين في الطب والصيدلة والهندسة والزراعة والتربية بحيث كان الخريج مستقر ويجد وظيفة محددة بمجرد تخرجة.
وتم استحداث تشريعات للتأمين الاجتماعي والتأمين الصحي لضمان الحماية من اخطار الشيخوخة والعجز والوفاة واصابات العمل وأمراض المهنة.
تجريف الريف المصري
بدأ الحديث عن التوقف عن زراعة القمح والأرز والقطن وقصب السكر والاتجاه لمحاصيل التصدير مثل الفراولة والكانتالوب والزهور العطرية، ومع الغاء قوانين الزراعة التي تحمي الفلاح المصري بدأت منذ منتصف السبعينات الهجرة الي النفط وهاجر ملايين المصريين الي العراق وليبيا ودول الخليج العربي وفيما قبل حرب العراق وايران كان يوجد 2 مليون فلاح مصري في العراق.
وبدأ الفلاحين في تجريف الأرض الزراعية الخصبة وتحويلها الي ارض بور ، والبناء علي الأرض الزراعية . وتدهورت اوضاع الريف المصري وتوسعت الهجرة من الريف الي المدن ، وتدهورت خدمات التعليم والصحة كما تدهورت الزراعة المصرية والريف المصري واوضاع الفلاحين الذين يرزح الملايين منهم تحت خط الفقر سواء مما يمكلون اقل من ثلاثة أفدنة أو من عمال الزراعة الذين لا يملكون الأرض .
ثم بدأ دخول استثمارات كبري في شركات زراعية خاصة واجنبية بعد تدمير وتخريب شركات الزراعة المملوكة للقطاع العام ، وجرت محاولات لتحويل القرية المصرية من قرية منتجة تعتمد علي نفسها الي قرية مستهلكة وتغيرت العديد من العادات السائدة في الريف حتي اختفت افران الخبيز من المنازل واصبح الاعتماد علي شراء الخبز من الأفران التي غزت الريف المصري. كما عاد الفلاح المصري من الدول النفطية ليهدم منزله الريفي الذي يضم الأسرة الممتدة ويشيد عمارات سكنية وابراج في قلب الريف وبالتاكيد لا يوجد بها اماكن لتربية الطيور او الحيوانات. واصبح تطور وتمدين الريف تمدن شكلي في المظاهر لكن تدهور الأداء بالكامل في كل مناحي الحياة ورغم ذلك حدثت هجرة عكسية للريف في ظل توحش المدن العشوائية ، واصبح الكثيرين من العاملين في المدن يسكنون في الريف للاستفادة بفروق الاسعار بين الريف والمدن حتي اصبح 56% من سكان مصر يعيشون في الريف المصري.
تجريف الطبقة الوسطي
كما حدث في الريف المصري والفلاح المصري حدث مع الطبقة الوسطي المصرية من تدهور التعليم والصحة والمرافق العامة في الريف والحضر وتراجع الانفاق علي التعليم ما قبل الجامعي والتعليم الجامعي . وهاجر المصريين وخاصة من الطبقة الوسطي الي الخليج ولكنهم لم يعودو كما كانوا ابدا بعضهم التحي واستبدل البدلة بالجلباب القصير والحذاء الذي كان من منجزات الثورة الي شبشب جلد مثل اهل الخليج.
وانتشر التعليم الخاص والدولي كما انتشرت المستشفيات الخاصة وتآكلت المستشفيات العامة وتدهور التعليم والصحة. تواكب مع ذلك وقف التعينات بالحكومة منذ تسعينات القرن الماضي وبالتالي فقدت الطبقة الوسطي الاستقرار الذي اكتسبته بعد ثورة يوليو ، واصبح العمل في القطاع الخاص بعقود مؤقتة وبلا حماية اجتماعية وبأجور متدنية .
وانهارت قيم العلم والبحث العلمي أمام قيم الفهلوة والمكسب واللي تغلبه العبه ، واذا بيت ابوك خرب ميل خدلك قالب ، واذا جالك الطوفان ، عط عيالك تحت رجليك وتحولت مصر من قيم الانتاج الي قيم الاستهلاك والسلع المستوردة التي بدأت بالمنطقة الحرة في بورسعيد وشارع الشواربي في القاهرة لتصبح مصر كلها من اسكندرية الي اسوان ومن مطروح الي العريش منطقة حرة وشارع شواربي.
تحولنا من عهد الجمعية الاستهلاكية والمجمعات الاستهلاكية والبقال الي عصر الميني ماركت والسوبر ماركت والهايبر ماركت، وهدمنا دور السينما القديمة لنعرف سينما المول ، ونتحول من عهد المساكن الشعبية ومساكن العمال والموظفين الي دار مصر وسكن مصر وجنة والمول والكمبوند.
واصبحت الشرائح العليا من الطبقة الوسطي تدور في ساقية رغم ما تحصل عليه من دخل مرتفع ولكنه لا يكفي مصاريف المدارس الدولية واقساط فلل اكتوبر والتجمع وشاليهات الساحل الشمالي ، والشرائح الوسطي فقدت مكانتها وتدهورت احوالها. أما الشرائح الدنيا من الطبقة الوسطي من الموظفين والعمال والمهنيين فقد تساقط الملايين منهم الي اوضاع اقرب للطبقة العاملة واصبحت معدلات الفقر تقدرها الدولة عام 2020 بحوالي 30% من السكان بينما يقدرها البنك الدولي للإنشاء والتعمير بحوالي 60% من سكان مصر.
هكذا تغيرت اوضاع الاقتصاد والريف والطبقة الوسطي واصبحت 23 يوليو مجرد ذكري ، وتعيش وتفتكر.