أنا الشعب مهما يقيموا السجون| في ذكرى أيقونة كل حراك: “الشيخ إمام” الذي تجاوزت أغنياته جدران الزنازين
كتب – أحمد سلامة
من قلب حواري القاهرة وأزقتها، خرجت أغانيه لتعانق كل وجدان وطني، ليترك بصمة عميقة تتجاوز الأزمان والحدود.
الشيخ إمام، أو إمام محمد عيسى، الذي ولد في 1918 وتوفي في 7 يونيو عام 1995، أحد أشهر من قدموا الأغنيات السياسية فغنى لمصر وللمناضلين وللحرية.
لم تحجب جدران السجن أغاني الشيخ إمام، ولم تحجب حوائط الزمن ألحانه.. فمع كل تظاهرة وكل حراك تعود أغنياته وبشكل تلقائي إلى التردد على الألسنة، وهو ما تكرر في عدة احتجاجات شهدتها مصر وصولا إلى ثورة يناير، ولم يقتصر الأمر على الداخل المصري فحسب ولكن تجاوزه لتترد أغنياته في الحراك بلبنان وتونس والمغرب وكل صعيد ينشد الحرية.
وُلد الشيخ إمام في قرية أبو النمرس في محافظة الجيزة في مصر، وأُصيب في عامه الأول بالرمد الحبيبي، وبسبب الجهل واستخدام طرقٍ شعبيةٍ لعلاجه فقد الطفل الصغير بصره.
إلى الجمعية الشرعية بالقرية، دفعه والده ليحفظ القرآن، لكن الجمعية اتخذت قرارا بفصله بعد أن علموا أنه “يستمع إلى الإذاعة”، وهو ما كان يُعد في ذلك الزمان بدعة ومن الموبقات.. وهو ما دفع أبوه إلى طرده من المنزل ومن القرية كلها.
انتقل إمام إلى القاهرة، وانضم إلى مجموعة من أبناء قريته سكنوا حوش قدم” بحي الغورية”، ومن هناك بدأت رحلته مع الأناشيد الدينية التي مثلت مورد دخله الأساسي.
ثم تطور الأمر، ليبدأ الشيخ إمام تعلم العزف على العود على يد كامل الحمصاني الذي أصبح رفيق دربه حتى نهاية حياته.
تعرّف الشيخ إمام في القاهرة على الشيخ درويش الحريري الذي كان من أهم الموسيقيين فأُعجب بموهبته وصوته وتولى تعليمه الموسيقى، وعرَّفه على كبار المطربين ومنهم زكريا أحمد في منتصف الثلاثينيات حيث استعان به في حفظ الألحان الجديدة واكتشاف نقاط الضعف فيها.
وبحلول عام 1962 التقى الشيخ إمام بالشاعر أحمد فؤاد نجم وهو اللقاء الذي غيّر مجرى حياة الاثنين، حيث أُعجب إمام بكلمات نجم، فيما رأى أحمد فؤاد نجم في الشيخ إمام مغنيًا وملحنًا عظيمًا.
وكانت نقطة التحول، في حياة الشيخ إمام وأغانيه مع أحمد فؤاد نجم بعد نكسة عام 1967، فقد أتت هذه الهزيمة بعد سنواتٍ من الشحن القومي ورفع المعنويات، فعبّر الشيخ إمام بصوته عن رأي الشارع العربي والمصري الناقد للأوضاع فخرجت إلى النور أغنية “يعيش أهل بلدي وبينهم مافيش” وأغنية “بقرة حاحا”.
كان الأمن للشيخ إمام بالمرصاد، فألقى القبض عليه وأحمد فؤاد نجم بسبب أغانيهما ودخلا السجن بحكمٍ مؤبد، ورغم وجودهما في المعتقلات لفترةٍ طويلة، إلّا أنهما لم يتوقفا عن التأليف والتلحين ومواكبة القضايا التي تحدث خارج أسوار السجن، فكانت أغاني مثل “شيِّد قصورك” سببًا في زيادة نقمة السلطات عليه.
ومع سياسات الانفتاح وتوقيع معاهدة “كامب ديفيد”، لم تحجب جدران السجن أغاني إمام ونجم ردًا على هذه الأحداث، فأصبحت أغانٍ مثل “شرفت يا نيكسون بابا”، “حلاولا” و”إحنا معاك”، “الفول واللحمة” على لسان كل مصري وعربي رافض لسياسات السادات، وهو ما جعل الشيخ إمام وأحمد فؤاد نجم يبقيان في السجن حتى اغتيال السادات.
ومع منتصف الثمانينيات بدأت الشهرة تزداد حين تلقى الشيخ إمام دعوة من وزارة الثقافة الفرنسية لإحياء بعض الحفلات في فرنسا، فلاقت حفلاته إقبالاً جماهيرياً كبيراً، وفتح ذلك الباب للعديد من الجولات في الدول العربية والأوروبية لإقامة حفلات غنائية لاقت جميعها نجاحات كبيرة.
ورغم الشهرة التي حققها، سكن الشيخ إمام طيلة حياته، قبل شهرته وبعدها، في منزل متواضع وصغير جدّا في خوش قدم بالغورية، لذلك تماست أغانيه دومًا مع المناضلين الذين يبحثون عن حياة أفضل ليس لذواتهم وإنما للمجتمع، فغنى أغنيته الشهيرة “جيفارا مات”، و”كلمتين يا مصر”.. لذلك بقيت ألحانه وستبقى.
خلال العام الماضي، احتفالاً بمرور مائة عام على ميلاد الملحّن المصري الشيخ إمام، صاحب المسيرة الكبيرة في التعبير بصوته وألحانه عن أحلام وطموحات المصريين، بجانب اهتمامه بالقضية الفلسطينية، أصدرت “هيئة قصور الثقافة المصرية”، كتاباً توثّق فيه مسيرة إمام الحياتية والفنية، “الشيخ إمام… الإنسان والفنان”، ويتضمن نصوصاً لمجموعة مختارة من ألحانه، وتدوينات موسيقية لأربع وثلاثين أغنية من أشهر أغنياته، تتنوع بين السياسية والعاطفية والكوميدية والشعبية والدينية.
كما قدم المخرج شريف المغازي سلسلة حلقات تليفزيونية وثائقية عن مسيرة حياة الشيخ إمام عيسى، منذ بداياته الأولى وحتى نهاية حياته، وحققت تلك السلسلة نجاحا كبيرا بعد أن استطاعت توثيق التراث المنسي لمغني الشعب، ونجحت أن تنقل أجواء حياته في “الغورية” حيث عاش هناك.
سيبقى الشيخ إمام حيًا وستبقى أغانيه، ليس لأنها مبدعة اللحن والكلمات فحسب، ولكن لأنها تتقاطع دومًا مع نضال المهمشين وضمير الباحثين عن العدل والحرية.