أمير متى يكتب: أزمات مصر الكبرى (1).. الدستور
كان دخول نابليون مصر في نهاية القرن الثامن عشر مع بعثته العلميه التي نتج عنها كتاب “وصف مصر” يعتبر أول اختلاط حقيقى بين مصر والعالم الخارجي، منذ ذلك التاريخ كانت التطلعات المصرية الي التقدم لا تتوقف، و لكن للاسف كان هناك شئ ما يعيق البلاد عن التقدم يمنعها من الوصول الي غايتها بصفه مستمرة، ويمكن اعتبار أسباب عجز مصر عن تحقيق أمنياتها بأنها أزمات مستمرة، لم تتوقف خلال تاريخها علي الرغم من تعاقب أنظمة الحكم فيها. فهي بأساس أسباب داخلية تتعلق بالمجتمع ومؤسساته المختلفة.
فلا يمكن اعتبار صراعات خارجية أو حتي مؤامرة كونية سبب في تراجع البلاد علي أمتداد أكثر من 220 عاما. فالأزمات المصرية داخلية وليست خارجيه.
سوف نتناول من خلال سلسة مقالات تلك الأزمات مع شرح تكوينها، علاقتها بعجز مصر عن تحقيق أمنياتها في التقدم.
الأزمه الأولى: الدستور
يعرّف الدستور بأنه القانون الاساسي والإطار العام الذي يحدد مؤسسات الدولة المختلفة و مسؤلياتها ويضمن الحقوق والواجبات للأفراد. فالدستور في تعريفه وتكوينه يختلف تماما عن القانون، فهو المؤسس لسلطات الدولة (وليس العكس)، الدستور لا يتغير بالتغيرات السياسية للمجتمع وتغييره مرتبط بأزمات حقيقة، ليس في الدستور أغلبيه واقليه سياسية فهو العقد الجمعي للوطن.
بالنظر إلى الدستور المصري وتاريخه فنجد أن الدستور المصري في أزمه منذ نشأته الاولي
أولا:استقرار الدستور
عرفت مصر أول دستور لها في 1882 الذي تم إسقاطه بواسطه الاحتلال الانجليزي، ثم نتج عن ثوره 1919 دستور 23، وبمجرد وفاه سعد زغلول تم إسقاط دستور 23 وأنشأ دستور 1930 الذي تم إسقاطه 1934 و عودة دستور 23 الي ثورة 52 التي ألغت الملكيه وقيام دستور جديد 56، الذي أسقط مع الوحده مع سوريا وقيام دستور الوحده عام 58، الذي أسقط مع أنفصال سوريا عام 61 ثم قيام دستور 71، الذي عدّل عام 80 ثم عدّل مرة أخرى 2005 ثم عدّل مرة ثالثة 2007 الي أن أسقط مع ثورة 25 يناير مع وضع المجلس الاعلي بالاعلان الدستوري في 2011، تابعه إعلان دستوريا أخر في حكم الرئيس محمد مرسي ثم دستور 2012 الذي أسقط مع إزاحه مرسي، تبعه دستور 2014 الذي عدّل في 2019.
تلك التغيرات السابقة للدستور سواء إسقاطه، أو تعديله، أو إقرار دستور جديد ترتبط ارتباطا وثيقا بمصلحه من في السلطه وانعكاس لصراعات علي السلطه، فالملك أسقط دستور 23 عندما توفي سعد زغلول، والسادات عدل الدستور حتي يستمر في الحكم من مدتين فقط إلى مدد (دون الارتباط بعدد)، ومبارك وضع مادة جاءت تفصيلا لكي يمنع الجيش من منافسه جمال وترشيحه. ومرسي نشر إعلانا دستوريا يحصن قراراته من القضاء وهكذا.
تلك التغيرات غير مستقره لانها لم ترتبط ولم تعبر عن رؤيه شعبيه للاطار العام للدولة ومؤسساتها، بل تعبر عن رأس النظام وتطلعاته.
ثانيا: تفسير الدستور
الدستور يضع الاطار العام للحكم و نظامه، ويترك التفاصيل للقانون التي يتم صياغتها بما تتناسب مع الاطار العام وروح الدستور. فنجد أن القوانين تعبر عن المواد الدستورية المختلفة، وتسقط القوانين إذا جاءت مخالفة للدستور أو لتفسيراته. وتلك مهمة المحكمة الدستورية العاليا.
المشكلة هنا تكمن في تفسيرات الدستور وروحه، فنجد أن الدستور يقر أن الدولة نظامها إشتراكي ويحدد دور المدعي العام الاشتراكي في دستور 71، في ظل نظام إشتراكي بالأساس، ثم بعد 7 سنوات نتجه إلى الانفتاح التدريجي ونظام السوق وفي التسعينيات يجمّد تماما دور المدعي العام الاشتراكي، ويجادل ترزية القوانين أن النظام السوق لا يسقط النظام الاشتراكي في الدستور مادام هناك وجود للقطاع العام!! أو أن يصر مجلس الشعب بأنه سيد قراره (كتفسير دستوري)علي الرغم من عدم قانونيه انتخاب أحد الاعضاء بحكم محكمه نهائي!! أو أن يقر الدستور الحالي في ماده منه أنه لا تعديل في الدستور سوى زياده الحقوق، و لا انتخاب للرئيس سوي مرتين فيعدل الدستور بأننا سوف نعيد العدْ من البداية مدتين للحكم مرة أخرى!!
تفسيرات الدساتير لا تخضع للأهواء بل لما كتب وأقره الشعب. تحددها المحكمة الدستورية العليا، ويخضع لها الجميع لان ما كتب هو الاطار الحاكم ومنه يستمد الجميع (مجلس الشعب، المؤسسات، الحاكم) شرعيته. تلك التفسيرات تضع مستقبل الوطن طبقا للاهواء الشخصية ولا تضفي الاستقرار لشروحات الدستور وما يعبر عنها في القوانين.
ثالثا: إقرار الدستور و بنيته
تنشأ الدساتير نتيجة أزمة داخلية قوية، يكون معها استمرار النظام السياسي تحت نفس المبادئ و الاطر العامة شبه مستحيل، فتظهر الحاجة إلى تكوين عقد إجتماعي جديد للمجتمع. يصوغ هذا العقد أفراده بإختيارهم الشخصي، ودون خوف، ودون أفضيله رؤية سياسية علي أخرى.
فنجد أن تعديل الدستور في 2005 جاء نتيجه ضغط خارجي نحو مزيد من الاصلاح الديمقراطي، و في 2007 لدعم جمال مبارك، و الاعلان الدستوري في 2011 لعدم توافر رؤيه حقيقية للمستقبل (جاءت بعد إقرار الاستفتاء علي استمرار دستور 71).
المرتين الوحيدتين اللتين توافرت فيهما الحاجة إلى دستور جديد عقب ثورة 19 و 25 يناير. كان إنهيار النظام السياسي والحاجة إلى بناء جديد واضحه المعالم، في دستور 2012، استغل الاخوان أغلبيتهم، وتعاونهم من قوي أخرى لوضع دستور مصري يحقق رؤيتهم الخاصة بغض النظر عن الرؤى الأخرى ولا يعكس عقد إجتماعي حقيقي، وعندما حانت الفرصة للاطاحة بهم، سقط دستور الاخوان معهم لانه لم يعكس رؤية مجتمعيه حقيقية. للاسف أيضا ظهر دستور 2014 في ظل دماء و سجون مفتوحة دون رؤية مجتمعيه أيضا، وتم تعديله في وضع إنهيارالقوى الحزبية الحقيقية لصالح فريق أخر وقفت مواد الدستور عن تحقيق أمانيه.
نأتي للسؤال الاصعب: كيف نبني دستورا قويا حقيقيا ثابتا؟
أولا: حتي نجيب علي التساؤال السابق لابد من دراسة البيئة السياسية المصرية، فمصر لا تتمتع بفصل بين السلطات وتوزيع القوي بين مؤسسات الحكم. فالرئيس أو الملك هو المحدد الاوحد للسياسات، وعلى الجميع الطاعة والتنفيذ. فيكون البداية هو تحقيق توزيع حقيقي للسلطة ومقدراتها في مصر. يشمل هذا الفصل الناحية المادية والتشريعية والتنظيمية والمشاركة في الحكم. فصل كامل للاجهزة الامنية عن المؤسسات التشريعية والقضائية. فتوزيع السلطات بشكل فعلي و مراقبه الجميع علي الجميع يضمن عدم أنفراد مؤسسة ما بالسلطة ومن ثم تغير الدستور طبقا لما تريده.
ثانيا: الحاجة إلى لحظه ما يتفق فيها الجميع أن الكل خاسر في الصراع علي الحكم. وأن الوطن لا يمكن إدارته بشكل منفرد مهما بلغ بطش القوة، يكفي أننا بدأنا التنمية مع كوريا الجنوبية، والصين بدأت عام 80. أين نحن وأين هم. الكل خسر ويخسر وسوف يخسر إذا استمر الرهان علي أن الانفراد بالسلطة يحقق الرخاء. سواء كان الانفراد دينيا أو عسكريا.
ثالثا: الشعب هو الحامي الاساسي للدستور وليس القوات المسلحة. فالشعب هو المقر للدستور وعليه أن يحميه، فالانقلاب في فرنسا عام 1958 سقط بالارادة الشعبية، ونتج عنه قيام الجمهورية الخامسة في فرنسا. الانقلاب في تركيا عام 2016 سقط عندما رفضت الاحزاب المعارضة اعتبار أن الانقلاب هو أسلوب نقل سليم للسلطة. فالدستور يحتاج إلى شعب يحميه وليس أي شئ أخر.
أخيرا نحن أمام أزمه حقيقة في استقرار الدستور والبلاد معا. ويستحيل تحقيق تقدم حقيقي لوطن يعدّل دستوره مره كل 15 عاما وحسب ميزان القوي وأهواء السلطة.