ألا تكون آمنا في سربك.. إزالة أحياء مدينة نصر والمساس بالملكية الخاصة “نموذجا”.. عن المضاربة بالسكان.. «ما تشيلوش الستر»
حسام مهدي: ليس من حق الدولة الممارسة الممنهجة لسريّة التخطيط والتنفيذ لمشاريع عمرانية ضخمة خصوصاً بمناطق سكنية لآلاف الأسر
أحمد زعزع: قضية الحي السادس تمس إسكان حكومي وهو الوضع القانوني الأقوى في مسالة الحيازة حيث لا مجال لوصفه بالعشوائي
باهر شوقي: المسألة ليست تحضر أو تطوير لكن استغلال للأرض كمورد للخزانة العامة لتصبح الدولة أهم مضارب في سوق العقارات
النائبة مها عبدالناصر: نحن إزاء التحول من تطوير العشوائيات إلى إزالة أحياء بأكملها دون أي إطار معياري تحت مسمى التطوير
ساكنة بالحي السادس: أروح فين وادفع فرق منين ولا حتى إيجار ما تشيلوش الستر عني وتبهدلوني على آخر عمري
ساكنة: ما اسيبش شقتي ابدا دا ملكي لا عليا نور ولا عليا مايه كله بسد أسيب شقتي ليه بعد العمر دا كله
كتبت- أسماء زيدان
«أنا أرملة كل اللي حيلتي من الدنيا دي هي الشقة دي. معاشي 800 جنيه، ومعنديش تأمين صحي حتى.. أروح فين وادفع فرق منين ولا حتى إيجار ما تشيلوش الستر عني وتبهدلوني على آخر عمري»، بتلك الكلمات عبرت إحدى ساكنات الحي السادس بمدينة نصر عن سخطها بعد أن باتت غير آمنة في سكنها في ظل مساعي الحكومة لإزالة الحي بداعي التطوير.
ذات صباح استيقظ أهالي مدينة نصر شرق القاهرة على خبر إزالة الحي السادس وأجزاء كبيرة من الحي السابع، بدعوى تنفيذ مخطط تطوير للمنطقة، في الوقت نفسه يؤكد مسؤولو صندوق التنمية الحضرية الحكومي، أن المنطقة ليست ضمن المناطق العشوائية أو غير الآمنة أو غير المخططة، أو المهددة للحياة.
لكن الاعتراف الرسمي بأن المنطقة ليست عشوائية، لم يحم سكان الحي من مخطط الإزالة، فهو حتمي طبقا للمسئولين. والأمر يتجاوز ذلك، فالأمل في عودة السكان بعد تطوير المنطقة يكاد يكون مستحيلا مع شرط دفع الفرق السعري والذي يعد ضربا من العبث، وهو ما يطرح العديد من التساؤلات حول ما يتم.
يقول أحد سكان المنطقة التي باتت في مرمى الإزالة: «قالوا لو عايز ترجع المنطقة تاني ممكن ترجع بس بالأسعار الجديدة؛ وأقل شقة في البرج اللي هيطلع هتتباع بمليون ونص.. يعني انا أدفع مليون جنيه فرق عشان اقعد في نفس المكان اللي انا كنت عايش فيه.. أقسم بالله عالم بجحة». فلماذا إذن تكون الإزالة وإلى ماذا تؤدي؟ وما حقيقة الأهداف وراء كل ذلك؟ وهل ما يجري تطوير كما تقول الحكومة أم أننا أمام أمر آخر؟
قصة حي.. نشأة مدينة نصر
بدأ إنشاء حي مدينة نصر في أعقاب حركة 23 يوليو عام 1952، حيث أصدر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قرارًا بالتوسع العمراني في المنطقة الصحراوية شمال شرقي القاهرة وخصوصًا شرق حي العباسية بعيدًا عن الأراضي الزراعية.
وكان يخطط لها كمدينة متكاملة وأطلق عليها «مدينة نصر» التي اعتبرها المعماريون «أرض الأحلام»، حيث تصل مساحتها لأكثر من 250 كيلو متر مربع وتمتد في الشرق من طريق مصر- السويس حتى الكيلو 51 وتقاطعه مع طريق القطامية، وفي الغرب من شارع صلاح سالم وفي الشمال حي مصر الجديدة وفي الجنوب المقطم.
وبدأ التعمير في مدينة نصر بإنشاء أكبر وأحدث إستاد رياضي في منطقة الشرق الأوسط في حقبة الخمسينيات (إستاد القاهرة الدولي)، وتم تخصيص مساحات واسعة فيها كأرض للمعارض الدولية ومركزًا دوليًا للمؤتمرات.
واختار الرئيس الراحل أنور السادات مدينة نصر أيضا لتكون مسرحًا للعروض العسكرية والاحتفالات وتحديدا في طريق النصر الفسيح أمام النصب التذكاري للجندي المجهول والمنصة، حتى حادث اغتياله الشهير.
أما منطقة الحي السادس بحي غرب مدينة نصر هي منطقة سكنية وصناعية، تضم عقارات متوسطة الأسعار وبها بعض المصانع الكبرى مثل مصنع كوكاكولا ومصنع إيديال، بالإضافة إلى جامعة الأزهر.
هل الحي السادس ضحية «أب تاون كايرو»؟
عضوة مجلس النواب مها عبدالناصر تقدمت بطلب إحاطة بشأن مخطط إزالة الحي السادس، اعتبرت فيه أن هذا الأمر «مثير للدهشة والتعجب»، لافتة إلى أننا هنا إزاء تحول من نوع أخر، وهو التحول من مرحلة تطوير العشوائيات إلى مرحلة إزالة أحياء بأكملها دون أي إطار معياري، تم الاتفاق عليه تحت مسمى التطوير.
وشددت النائبة البرلمانية على أن منطقة بلوكات الحي السادس الحي السابع، هي منطقة مخططة ومنظمة، تم إنشائها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر؛ وهو ما دعاها لطرح تساؤل يتعلق بالغرض من تلك الإزالات، هل هو الاستفادة من منطقة حزام المصانع المتقادمة وأراضي الجيش الموازية لمنطقة الحي السادس والسابع وصولًا إلى حدود محور المشير، والتي تقابلها من الجانب الآخر أب تاون كايرو، مما يجعل الغرض الأساسي، هو تأسيس نمط عمراني ذو طبيعة اجتماعية معينة؛ لا يحتمل بجواره مساكن تبدو شعبية، ويسكنها أبناء الطبقة الوسطى المصرية؟.
وقالت عبدالناصر متسائلة: «هل انتقلنا من مرحلة بيع الأراضي في الصحراء، إلى مرحلة بيع العمران الحي في قلب المدينة، لا سيما أن هذه المساكن لها ملكية شرعية ومُوثقة في حي سليم منظم؟، وما هي الأزمة التي تستدعى الوصول إلى هذه المرحلة من الإزالات؟.. هل لدينا مشكلة أمنية في هذه المنطقة مثلًا؟».
وطالبت عبدالناصر، المسئولين بالنظر إلى المواطنين المصريين الذين لا يمكن أن يعيشوا تحت شعور أنهم تحت تهديد مُستمر بالطرد والتشريد في أي لحظة دون سبب واضح أو منطقي، بداعي التطوير أو بأي داعي آخر، وبدون تفسير مقنع.
فحتى في تطوير المناطق الخطرة في العشوائيات، كان من أهم المعايير العالمية عدم اللجوء للتهجير أو الإخلاء إلا في أضيق الحدود، وحين استحالة وجود أي بديل آخر، فضًلا عن وقف أي إزالات في هذه المنطقة، ودراسة كل البدائل المطروحة للتطوير والتجميل دون اللجوء لأي إزالة لأي مباني مستقرة في المنطقة.
«سكان بلا سكن» و12 مليون وحدة فارغة
«على جثثنا نطلع من بيوتنا احنا اتغربنا سنين عشان نبني الشقق دي متجيش انت تاخد مني حالي ومالي وترميني بالشارع احنا مش طالعين من بيوتنا».. كلمات يقولها رب واحدة من الأسر المقيمة في الحي السادس بمدينة نصر.
في كتابه «الإسكان والمصيدة» أطلق المفكر وخبير الإنشاءات الهندسية الدكتور ميلاد حنا، على الوضع الديموغرافي والانشائي داخل القاهرة وصف «مساكن بلا سكان وسكان بلا سكن» وهو الوضع الذي لا يزال قائما، رغم مرور أكثر من 35 عاما على صدور الكتاب. وقد أشار حنا آنذاك إلى وجود أكثر من مليوني وحدة سكنية خالية على عروشها، عام 1986، وصلت إلى ثلاثة ملايين عام 1996 بحسب دكتورة جليلة القاضي أي ما نسبته 20% من الوحدات السكنية، في حين تصل هذه النسبة في أقصى تجلياتها إلى 7% في دول العالم.
وربما لم يكن يتوقع حنا أن يتعاظم رقم الـ2 مليون إلى الرقم الذي كشف عنه الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء في العام 2017، حين أعلن عن وجود أكثر من 12 مليون وحدة سكنية فارغة في مصر، ولا شك أن الرقم في تضخم حتى كتابة تلك السطور، خاصة بعد أن أصبحت الدولة لاعبا أساسيا في سوق العقارات.
وترجع ملكية الوحدات لشريحة من أصحاب الدخل المحددة، حيث لا تتناسب الأسعار مع أكثر من نصف السكان، بحسب مقال لخبير العمران يحيى شوكت؛ وبين هذا وذاك وعلى وقع أخبار الإزالة، أصبح هناك سؤال مفاده التطوير لصالح من؟
«أعمل بالتخطيط العمراني منذ سنوات وبمشاريع تعاونت فيها مع الحكومة ولازلت لا أعلم ماهية التطوير التي تريده الحكومة بالقاهرة، منذ تبنيها لمشروع تخطيط القاهرة».. هكذا بادرنا خبير التخطيط والعمراني أحمد زعزع.
أما خبير الحفاظ على التراث المعماري والعمراني الدكتور حسام مهدي فيقول: «ليس من حق الدولة الممارسة الممنهجة لسريّة التخطيط والتنفيذ لمشاريع عمرانية ضخمة خصوصاً تلك التي تتعلق بمناطق سكنية لآلاف الأسر».
وشدد مهدي على أن التخطيط الفوقي الذي يفرض على الناس غير مقبول، وحذر من تداعيات تلك السرية التي تزيد من الظلم الذي ينتج عن ذلك التخطيط الفوقي.
وبصورة عامة والكلام لمهدي فإن «عملية إزالة بحجم كبير في مدينة كبيرة ومعقدة مثل القاهرة يجب أن يسبقها دراسات مستفيضة لجميع الجوانب الاجتماعية والبيئية والثقافية والاقتصادية بالإضافة لطرح الموضوع على المتخصصين والتشاور مع أصحاب الحقوق والمجتمع المحلي والذين يجب أن تكون آراؤهم ومصالحهم من أهم العوامل التي تؤثر على اتخاذ القرار».
يشتكي زعزع من غياب الرؤية والخطط وتنسيق الجهات مع بعضها البعض، قبل خلع الناس من جذورهم، حيث “يقوم على ذلك بضعة مكاتب هندسية، ومن يقوم على التوسعات في كل من مدينة نصر، ومصر الجديدة على سبيل المثال لا يعلم بالمرة عن خطة العمل التي يعمل عليها المكتب المسؤول عن مناطق مثل نزلة السمان، والهرم بمحافظة الجيزة، وهكذا.. وكل منهم على حدة يريد بالعاصمة شكلا يختلف تماما عن الآخر، وباعتراف تلك المكاتب لا يوجد أي تنسيق للعمل بينهم، فكيف يكون ذلك؟”.
واعتبر زعزع ما نراه حتى الآن مجرد موجات وصفها بـ«قصاقيص التطوير»، مشيرا إلى أنها «مجرد تجارب لا يعلم واضعوها نتائج مؤكدة لها، والمثال على ذلك ما حدث في أحياء مثل مصر الجديدة، ومدينة نصر، حيث تم مخالفة القاعدة العمرانية المعروفة بعدم اختراق المدن عبر الكباري، والطرق السريعة، كذلك المساس بالأحياء التراثية والقديمة، فكانت النتيجة وفاة أكثر من عشرين شخص أثناء عبور الطريق خلال أول ثلاث شهور لاستخدام تلك الطرق التي لم تراع الطبيعة العمرانية لتلك المدن».
واستغرب خبير التخطيط والعمراني أحمد زعزع تلك المخططات العمرانية ذات الطرق السريعة والممتدة، التي تخالف الرؤية العالمية للمدن الحديثة والتي أصبحت تتبع نظام المربعات، ومدن الـ15 دقيقة، حيث تعمل مدن مثل باريس وأمستردام وكوبنهاجن على تخطيط مدنها بحيث يتضمن المربع الواحد جميع الخدمات، توفيرا للطاقة، وحفاظا على البيئة، وكذلك وقت البشر، وجهدهم، ومؤخرا دشنت باريس مدن الخمس دقائق.
ويشار إلى أن مفهوم «مدينة الـ15 دقيقة» الذي أشار إليه زعزع يدور حول تحسين جودة حياة السكان بتصميم مدن يستطيع سكانها الوصول إلى جميع احتياجاتهم سيرا أو بالدراجة في غضون ربع ساعة فقط. فلا يحتاجون لقطع مسافات طويلة للوصول إلى أعمالهم أو المطاعم أو المتنزهات أو المستشفيات أو المراكز الثقافية.
وعن الرؤية التي يريد بها البعض من القاهرة وأماكنها السياحية أن تكون دبي، شدد زعزع على أن دبي لا تملك مقوماتنا الحضارية والتراثية، ولا حتى الطبيعة الجغرافية، والأجواء، ولو كان لها ذلك لاختلفت تماما وتمسكت بإرثها الحضاري- الطبيعي.
خطورة المساس بالملكية الخاصة
لخصت إحدى الساكنات التي تسكن بمنطقة الحي السادس منذ عشرات السنين المشكلة بالقول «ما اسيبش شقتي ابدا دا ملكي لا عليا نور ولا عليا مايه كله بسد أسيب شقتي ليه بعد العمر دا كله.. الأراضي الفاضية كتير».
وعن خطورة الأزمة كحالة فريدة للمساس بالملكية بهذا الحجم نعود إلى أحمد زعزع الذي أكد خطأ التجربة المصرية عمرانيا خلال السنوات الأخيرة كنتيجة طبيعية لغياب الرؤية والتنسيق، ولكنه في الوقت نفسه اختص قضية حي مدينة نصر بالقول «الأمر هذه المرة خطير حيث يمس مفهوم الحيازة، والملكية الخاصة، التي يكفلها القانون والدستور».
وأضاف زعزع: «وفي حالة أحياء مدينة نصر فإن الأمر يمس إسكان حكومي وهو الوضع القانوني الأقوى في مسالة الحيازة، حيث لا مجال لوصفه بالعشوائي، فالحكومة هي من بنتها وخططت لها، بمعاييرها، وليس على السكان أي مسؤولية كما في حالة العشوائيات مثلا، فهي أحياء في عداد الحيازات الآمنة».
أما الملكية الخاصة فلا يجب المساس بها إلا في حالات الضرورة القصوى مثل انشاء الطرق، او السدود، وإلا أصبح مجرد تهجير قسري يمنعه الدستور، ويحرمه القانون الدولي في رأي الخبير في الحق بالسكن باهر شوقي، الذي تساءل كيف يعيش الناس آمنين في بيوتهم إذا استمر الأمر على تلك الوتيرة؟
ويرد زعزع على الادعاءات التي تقول إن إزالة الأحياء القديمة بغرض التطوير مسألة جرت في دول مثل الولايات المتحدة، قائلا «بالفعل بادرت الولايات المتحدة بازالة بعض المساكن الحكومية، ولكن تم ذلك للقضاء على العنصرية التي كانت تميز تلك المباني، والتي يسكن العرق الأسود أغلبها، ولما تتسم به تلك المساكن من طابع من حيث وجود أسوار وتدني في مستوى البنية التحتية، فالمقارنة بين ما يحدث هنا وهناك غير منطقي».
يستمر باهر شوقي في الإجابة عن سؤال لماذا الإزالة؟ فيقول في العادة تسوق المدن الكبرى في العالم لأحيائها القديمة، بينما نفعل بالقاهرة العكس.
وينفي شوقي تماما أن يكون للأمر علاقة بالتطوير، بقدر ماهو مخطط عمراني يرجع في الأصل إلى مطلع الألفينات، مع لجنة السياسات التي قادها حينها جمال مبارك، والتي كان أحد القائمين عليه رئيس الوزراء الحالي مصطفى مدبولي، والذي طرح بنفسه مشروع التطوير العمراني لإقليم القاهرة الكبرى، في إعادة إنتاج تصور العاصمة على طراز مدن مثل هونج كونج، وسنغافورة، وكانت الخطة تقتضي إخلاء المدينة من ستة إلى سبعة مليون نسمة.
وفي الطريق إلى ذلك منعت الحكومة ترميم المباني التي تأثرت في أعقاب زلزال 1992 مثل مثلث ماسبيرو، وامتد مخطط الإزالات إلى مناطق حديثة نسبية، بعضها رسمي، وشبه رسمي، ووفقا لشوقي في مقابل إزاحة اجتماعية لمناطق سكنية شاملة، يتم انتهاج سياسة المضاربة العقارية، سواء كان ذلك عبر المستثمرين، او حتى بواسطة الدولة نفسها.
فالمسألة لم تعد مسألة تحضر، أو تطوير بقدر ما هو استغلال للأرض كمورد مهم للخزانة العامة للدولة، لتصبح الدولة أهم مضارب في سوق العقارات، ودون مراعاة للأضرار الاجتماعية، او حتى الاقتصادية لتلك السياسات، بحسب شوقي.
الثمن المجتمعي الباهظ للإزالات
يحذر الدكتور حسام مهدي من التأثير الكارثي للمنشآت الضخمة على البنية التحتية والشبكات والطرق، ويقول: الحقيقة إن تسمية هذا القرار «تخطيط» فيه ظلم كبير للتخطيط وإنما هو قرار «عشوائي» لا نعرف إلى ماذا سيؤدي إلا بعد اكتمال التنفيذ، أما التخطيط السليم فيسبقه دراسات متكاملة تحدد كل التأثيرات السلبية والإيجابية ليتم تعديل المخطط لمراعاة كل ذلك.
في حين يتساءل زعزع عن جدوى الأبنية الضخمة ذات «الطوابق اللانهائية»، في حين أن المعروض من الوحدات لم يباع، والتي لا يستطيع امتلاكها أكثر من نصف الشعب، لافتا إلى ضرورة النظر بشكل أعمق إلى الثمن الباهظ الذي يدفعه المجتمع كنتيجة لتلك السياسات، والذي يتوزع بين العديد من المشكلات، والمساوئ المترتبة على الاستمرار بذلك الشكل.
على سبيل المثال يذكر زعزع الأضرار البيئية لذلك التطوير المزعوم ففي حين يسعى العالم لتقليل نسب الهدم حفاظا على البيئة، ترتفع لدينا خطط الإزالات، كما ان الدراسات المهتمة أثبتت تناقص المساحة الخضراء في موجة التطوير الأخيرة بقدر 390 ألف متر، وبما يوازي مساحة 54 ملعب كرة قانوني، وفي حين يشير الدكتور عباس الزعفراني إلى أن نصيب الفرد عالميا يصل إلى 16 متر من المساحات الخضراء، فإن نصيب الفرد في مصر عام 2003 وقبل التطوير المزعوم وتناقص المساحات وصل إلى متر ونصف المتر.
وفي الشق البيئي، يشير مهدي إلى أن العالم يتوجه إلى التقليل من الهدم الذي لا لزوم له والاهتمام بإعادة التدوير بما في ذلك إعادة تدوير المباني بدلاً من هدمها وبناء مباني جديدة وذلك للتقليل من البصمة الكربونية للأنشطة العمرانية للتقليل من تأثير التغير المناخي الذي يهدد العالم والذي من المعروف أن مصر ستتأثر به بشكل كبير.
ولكن يأسف مهدي لأن مثل هذه القضايا وعلى أهميتها ليست أحد أولويات صانعي القرار، في ظل غياب الرؤية الاستراتيجية المتكاملة، وحساب المسئولية الأخلاقية قبل الربح المادي أو المكاسب السياسية.
وفضلا عن نزيف النسيج العمراني، و الاحترار المناخي الذي نعانيه كأحد مساوئ ذلك التطوير، ينبه زعزع إلى المسارات الاقتصادية لسكان المناطق التي يتم المساس بها، مثل إبعادهم عن أماكن أشغالهم، والمرافق المعروفة لهم، ويدلل على ذلك بسكان الأسمرات الذي أثبتت الدراسات زيادة الإنفاق لديهم نتيجة انتقالهم من أحيائهم، حيث أصبحت الأسواق أبعد مما يتطلب مزيد من الإنفاق على بند الانتقالات، كذلك الاسعار نفسها التي تختلف من مكان لآخر.
وفي حالة سكان مدينة نصر سوف تكون هناك مشكلات تتعلق بأصحاب المحال التجارية في المنطقة، وكذلك موقع أشغالهم، والتي غالبا لا تتناسب مع حجم التعويضات، خاصة أن الرجوع إلى نفس المنطقة يتطلب فرقا هائلا أكبر من إمكانيات أهالي المنطقة، ما يخلف المزيد من الإنفاق على بند السكن، وكذلك تجميد الاستهلاك، فضلا عن ارتفاع نسب البطالة.
البدائل
وفي كل الأحوال لا يجوز وضع مخطط لإزالة حي بأكمله من دون اتخاذ خطوات بعينها منها طرح الموضوع مجتمعيا بدأ من فكرة التطوير نفسها برمتها، ومدى الفائدة التي ستعود على السكان منها بكل وضوح وشفافية.
أما المسألة الأهم فهو وضوح البدائل وتنوعها – والكلام لزعزع – وفي حالة حي مدينة نصر، وطبقا للتجارب السابقة فالمسألة غير شفافة وغير مضمونة»، فعلى سبيل المثال تقترح الدولة منح السكان بديلا في مدينة السلام في حال لم يوافقوا على التعويض المادي، وهو حل «غير عملي» نظرا للبعد الجغرافي وكذلك الاختلافات المجتمعية بين المنطقتين.
كذلك فإن السكان مطالبين بدفع 60 ألف جنيه مقابل أثاث المنزل، وفي حالة استئجار وحدة مؤقتا فإن مستوى الإيجارات في المناطق القريبة غير محتملة بالنسبة لهذه الأسر نظرا لمستوى دخولها، كما أن وقوف التعويضات على مبلغ الأربعين ألف جنيه للغرفة مع عدم احتساب المرافق مثل المطبخ، والحمام أمرا غير عادل على الإطلاق، بحسب زعزع.
وفي هذا الشأن يلفت زعزع إلى ان طريقة حساب الحكومة في أغلب الحالات التي عايشها بنفسه تقوم على أساس تقييم حالة المبنى، غير مراعية لموقعه ومستقبله، وفي حالة الحي السادس مثلا فإن قيمة الموقع تتخطى حالة المباني حيث يقع على خط العاصمة الإدارية، ويمر به المونوريل، مع وجود كافة الخدمات.
وعن البدائل يؤكد باهر شوقي أهمية التشاور المجتمعي خاصة أن تلك الأحياء ليست بالمتهالكة كما الأمر مع حالات أخرى، فعمرها الذي لم يتخط الـ60 عاما، يمكنه بحسب المتخصصين تجاوز المائة عام على أقل تقدير؛ وعليه يجب مراعاة حجم الخسارة التي يجب حسابها بشكل أشمل بحيث يستطيعوا الانتقال إلى مجتمعات مشابهة، للحفاظ على النسيج العمراني للمناطق، فلا يمكن تصور أي تطوير غير مراعي لاحتياجات البشر.