أشرف إبراهيم يكتب: حريق البيانات.. ماذا يكشف تعطل البنية الرقمية عن شكل الدولة في مصر؟

تعطل البنية الرقمية في مصر لم يعد مجرد خبر تقني عابر، بل صار لحظة كاشفة عن شكل الدولة؛ دولة تمسك بمفاصل الشبكة حتى آخر كابل، لكنها تقبل أن تتوقف الحياة تقريبًا بسبب «نقطة عطل واحدة» في سنترال أو تحديث فني غير مُعلن بما يكفي. حين يحترق سنترال رمسيس أو يتعطل الإنترنت الأرضي لساعات، تظهر على السطح أسئلة لم تعد تقنية: من يملك البيانات؟ من يملك الكابلات؟ ومن يدفع ثمن هشاشة بنية تم تقديمها طويلًا كإنجاز سيادي وتحديثي؟​​.

حريق البيانات كلحظة كاشفة

  • حريق سنترال رمسيس، بوصفه أحد أهم مراكز الاتصالات وحفظ البيانات في القاهرة، أدى إلى تعطّل واسع لخدمات الاتصالات، ماكينات الصراف الآلي، الشبكات البنكية، خدمات الإنترنت، وحجوزات القطارات والمدفوعات الإلكترونية؛ أي أن «حريقًا واحدًا» أظهر كيف يمكن لحدث موضعي أن يشلّ مدينة كاملة.​​
  • أعطال الإنترنت الأرضي المتكررة، والتي برّرتها «المصرية للاتصالات» بتحديثات تقنية لتحسين جودة الشبكة، كشفت بدورها عن غياب الشفافية المسبقة، إذ لم يُعلن للمستخدمين حجم التأثير المحتمل، ما فتح باب الشك والغضب ومطالبات بتعويضات.​​

»نقطة الفشل الواحدة»: شكل البنية، شكل الدولة

  • تقارير تحليلية تشير إلى أن «المصرية للاتصالات» تحتكر فعليًا البنية التحتية الأساسية للإنترنت في مصر: الكابلات البحرية والبرية، السنترالات الرئيسية، البوابات الدولية، وشبكات الألياف والكابلات النحاسية، بينما تكتفي شركات المحمول باستئجار الخدمة منها بالجملة.​
  • هذا النموذج يخلق «نقطة فشل واحدة»؛ فمركزية الحركة في سنترال أو مسار بعينه تعني أن أي حريق أو عطل أو خطأ في التحديث يمكن أن يهدد الشبكة كلها، كما حذّر حتى البنك الدولي من أن الاعتماد المفرط على هذه المركزية يمثل تهديدًا للأمن الرقمي والاقتصادي.​

احتكار البنية: سيطرة بلا مسؤولية متناسبة

  • احتكار الدولة (عبر ملكية أغلبية أسهم «المصرية للاتصالات») للبنية التحتية يمنحها قدرة شبه مطلقة على ضبط حركة البيانات، مراقبتها، أو حتى قطعها، لكنها في المقابل لا تساءل بنفس الدرجة عن هشاشة هذه البنية أمام الأعطال والحرائق.​
  • في لحظات الأزمات، يتوجه الغضب إلى الشركة الفنية، بينما يبقى السؤال عن القرار السياسي بعيدًا عن النقاش: لماذا صُممت الشبكة بهذا القدر من المركزية؟ لماذا لم تُبنَ بدائل احتياطية حقيقية، ومسارات متوازية تقلل أثر أي عطل؟​.

الشفافية المؤجلة وإدارة الأزمة

  • في أزمة الانقطاع الواسع للإنترنت، لاحظ المستخدمون أن بيان الشركة تحدّث عن «تحديثات تقنية» دون تحذير صريح من احتمال توقف الخدمة، ما كرّس شعورًا بأن الدولة تتعامل مع البيانات كبنية داخلية لا كخدمة عامة تمسّ العمل والتعليم والصحة.​​
  • بعد حريق سنترال رمسيس، تأخرت أيضًا التفاصيل حول حجم الضرر وما مسّه الحريق داخل المبنى، رغم أن الموقع يضم «أكبر مراكز حفظ البيانات»، بحسب تقارير إعلامية، ما يعمق المخاوف بشأن مصير بيانات حساسة تخص ملايين المستخدمين ومؤسسات مالية وحكومية.​​

الدولة الرقمية: أمن المعلومات أم أمن السلطة؟

  • النموذج القائم يربط الأمن الرقمي بأمن السلطة أكثر مما يربطه بأمن المواطنين؛ مركزية البوابات الدولية والسيرفرات الكبرى في يد كيان واحد تملكه الدولة تجعل القدرة على المراقبة والحجب وقطع الخدمة عالية، لكنها تجعل القدرة على حماية المستخدم من الانقطاع أو التسرب أقل وضوحًا.​
  • يتجلى هذا في خطاب رسمي يركز على «حماية الشبكة من الهجمات» و«تأمين الاتصالات» دون أن يقابله خطاب موازٍ حول حقوق المستخدم في التعويض، المعرفة المسبقة بالانقطاعات، أو الحق في تعددية حقيقية في مزودي البنية التحتية نفسها، لا فقط في شركات التجزئة.​

الاقتصاد المعتمد على الشبكة: من يدفع ثمن العطل؟

  • مع توسع العمل عن بُعد، التجارة الإلكترونية، الدفع الرقمي، والمنصات الحكومية الإلكترونية، صار أي عطل واسع للإنترنت يترجم فورًا إلى خسائر مالية لأصحاب الأعمال الصغيرة والعاملين الحرّ، فضلًا عن تعطّل خدمات حيوية تتعلق بالبنوك والنقل.​​
  • ومع ذلك، لا توجد آلية تعويض مؤسسية واضحة؛ ما يُطرح غالبًا مقترحات جزئية مثل سعات إضافية أو تخفيضات محدودة في الفواتير، بينما يظل الأثر الأكبر على الفئات الأضعف اقتصاديًا التي لا تملك بدائل اتصال متعددة أو خطوط موازية.​

البنية كمرآة لنمط الحكم

  • بنية رقمية مركزية، محتكرة، قليلة الشفافية، تقبل توقفًا شبه كامل مع كل عطل كبير، تعكس نمط حكم يميل إلى التركيز والضبط من الأعلى، ويؤجل دائمًا فكرة توزيع السلطة والموارد والمسؤولية على أكثر من مركز.​
  • بهذا المعنى، «حريق البيانات» ليس حدثًا عارضًا بل صورة مكثفة لدولة تريد أن تمسك بكل شيء في يد واحدة، فتجعل هذه اليد نفسها نقطة ضعف استراتيجية؛ دولة تضع خرائط الكابلات والبوابات في مكان واحد، ثم تكتشف متأخرة أن النار أو الخلل التقني لا يعترف برواية القوة والسيطرة.​​

ما الذي ينبغي تغييره؟

  • على المستوى التقني، يتطلب الأمر تفكيك نموذج «نقطة الفشل الواحدة» عبر:
    • تنويع مراكز البيانات والسنترالات المحورية.
    • فتح المجال لمزودي بنية تحتية جدد بضوابط تنافسية واضحة.
    • تسريع التحول إلى شبكات ألياف ضوئية أكثر أمانًا وتوزيعًا.​
  • وعلى المستوى السياسي، يصبح ضرورياً إعادة تعريف «الأمن الرقمي» بوصفه أمن المجتمع لا أمن السلطة فقط: حق الجمهور في الشفافية، في التعويض عند الأعطال الكبرى، وفي الرقابة المدنية على ما يُبنى من بنى رقمية باسمه ومن ماله العام.​

بهذا، يكشف تعطل البنية الرقمية في مصر عن دولة ما زالت تفكر في الشبكة بوصفها سلكًا يمكن فصله من مركز واحد إذا لزم الأمر، أكثر مما تراها حقلاً عامًا يتطلب توزيعًا للدخول والقرار والمسؤولية؛ دولة قوية على الكابل، لكنها هشة أمام حريق واحد في غرفة أجهزة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *