أحمد طه النقر يكتب : من وَحي محنة الكورونا؟!..
يقولون إن في كل محنة منحة.. ولعل محنة فيروس كورونا التي تهدد العالم وتفرض عليه اجراءات إحترازية استثنائية وغير مسبوقة، منها مثلاً أن نَلزَم بيوتنا كخيار أفضل وأكثر سلامة وخاصة لمن هم مثلي على المعاش وليسوا مُجبرين على الخروج إلا لظروف قهرية، تكون فرصة لإصطياد بعض المِنَح وما أكثرها.. ولأنني متفائل مُزمِن ، كما كان نقيبنا الراحل كامل زهيري يصف نفسه دائماً ، قررتُ أن أبحث عن بعض الجوانب الإيجابية في جائحة الكورونا التي أعلنتها منظمة الصحة العالمية “وباءً كونياً”..وأول الإيجابيات هو لم شمل العائلة وانتهاز فرصة “الإقامة الجبرية” التي فرضت علينا البقاء في منازلنا لإعادة تعرف افراد العائلة على ملامح بعضهم البعض بعد أن فرقت وباعدت بينهم وسائل الإتصال الحديثة (لاحظوا مفارقة ان وسائل الإتصال تفرق بدل ان تصل!!)..
فمنذ ظهور الهواتف المحمولة المتطورة والمعقدة ومعها الفيسبوك والواتس آب وإنستجرام وغيرها ، انشغل الناس حتى عن أقرب الناس اليهم وتحولنا الى شعب “محملق في الموبايل”!!..وتلك ظاهرة تشغل تفكيري منذ فترة طويلة ، إذ يشد إنتباهي أن الناس، وخاصة المراهقين والشباب، باتوا منكبين على موبايلاتهم طول الوقت، يتفرسون فيها حتى وهم يقودون السيارات!!..
هذه العادة صارت نوعاً من الإدمان الاليكتروني الذي أدي الى تدمير العلاقات الإجتماعية والاُسرية الى الحد الذي يتطلب تدخل الأطباء وخبراء علم النفس الإجتماعي.. إذ صار من المعتاد أن تجد أفراد الأسرة عندما يجتمعون ويلتئم شملهم (وذلك حدث نادر) يُسارع كل منهم الى إخراج موبايله والإنشغال تماماً بما يقرأه أو يشاهده دون أدنى إهتمام بالآخرين الذين لا يشعر بوجودهم إلا إذا نُودى عليه بالإسم اكثر من مرة!!..أما “البحلقة” والحملقة في الموبايلات أثناء قيادة السيارات فحدث ولا حرج..إذ يندر أن تجد سائقاً في شوارع المحروسة ، وخاصة من الشباب ، إلا وهو يُطالع شاشة الموبايل وهو ممسك بالدركسيون رغم صعوبة القيادة في شوارعنا أصلاً، ناهيك عن أن ذلك مخالف للقانون!!..وكم تمنيتُ أن تُفرض عقوبات قاسية على مَن يستخدمون الموبايلات بهذه الطريقة ، تصل الى سحب رخص القيادة نهائياً..
وهناك جانب إيجابي آخر في محنة الكورونا يتمثل في أن “الإقامة الجبرية” الإختيارية التي فرضها علينا الوباء، يمكن أن تكون فرصة هائلة للإستمتاع بالقراءة..فمَن أصابتهم “فتنة” القراءة مثلي يفرحون ويسعدون للغاية بأي فرصة للإنفراد بالكتاب “خير جليس”،وتعويض ما فاتهم من فرص التزود بالمعارف..وبعد إحالتي الى المعاش ، ومنعي من الكتابة في الأخبار بقرار من رئيس تحريرها عضو مجلس النقابة ، دخلتُ جنة القراءة بكل كياني وطاقتي وكلما قرأتُ كتاباً يتضاعف شعوري بجهلي وحاجتي لإلتهام المزيد من الكتب،والوم نفسي على أوقات طويلة ضيعتها بعيداً عن نور المعرفة وخاصة فترة الطفولة والمراهقة في القرية حيث لم تكن هناك مكتبات في المدرسة او خارجها .. بل كان من الممكن أن تضيع هذه الفترة من حياتي سُدى لولا خالي عبد الرءوف النقر ،رحمه الله، الذي ارشدني وعلمني الكثير ووفر لي بعض الكتب وخاصة مؤلفات العقاد الذي كان يحبه كثيراً..(ولدى حلم عزيز وقديم أرجو أن يتحقق قريباً ويتمثل في تكوين مكتبة عامة في قريتي تعوض الأجيال الجديدة عما فاتني ) فالقراءة نعمة ومتعة وفتنة بلا حدود وهى لمن اعتاد عليها رزق عظيم لا يجهله إلا الجاهل..وإذا كنا نقول رُبَ ضارة نافعة ،فإن القراءة في زمن الكورونا هى بالتأكيد النفع والخير العميم..
ومن إيجابيات محنة الكورونا كذلك أنها أوقفت النشاط الرياضي، وأعفتنا ولو الى حين من رياح الجهل والتعصب الفاسدة التي كانت تهب من القنوات والبرامج الرياضية ليل نهار، وتلفح وجوهنا وأسماعنا بكل ما يُشين ويُخجِل.. كما أنقذتنا من جهل وسماجة معلقين متخصصين في إفساد استمتاعنا بما نشاهده امامنا ولا يحتاج الى تعليق ، وذلك بسبب الأخطاء اللغوية الفادحة وسقم الذوق واستغلال الفرصة لنفاق رؤسائهم واحيانا لتحية أصدقائهم كما يفعل بعض معلقي كرة اليد والسلة بالذات!!.. وخطورة هذه القنوات والبرامج أنها تدخل كل البيوت وتخاطب أساساً فئة الشباب الذين يحتاجون الى قدوة لا يمكن أن يقدمها من يفتقدون الى أبسط قواعد حسن السلوك ولا يعرفون إلا فاحش القول وقبيح الشتائم..وكم صدمني ذلك الفعل الفاضح الذي أتاه لاعب كبير (في السن) على الملأ في دولة شقيقة وآذى به الملايين في الملعب وامام الشاشات ، لكن الصدمة الأكبر أن تجد مَن يحاول تبرير الفعل الشائن مما يجسد الإنحطاط الأخلاقي الذي انحدرت اليه منظومة الرياضة في بلادنا!!.. وسبق أن طالبت أنا وغيري بضرورة تأهيل القائمين على تقديم البرامج الرياضية وتثقيفهم وتدريبهم لأن مَن يُجيد اللعب بالأقدام ليس مؤهلاً بالضرورة للعمل في مجال الإعلام!!..
أما آخر مِنَح محنة الكورونا في رأيي فهى أننا أدركنا أخيراً ضرورة وقيمة النظافة للوقاية من “الكورونا” والفيروسات بشكل عام.. وربما يكون الوباء فرصة ذهبية للتخلص من بعض عاداتنا الضارة بالصحة كالأحضان الساخنة و”البوس” المتكرر ، ولبدء ثورة حقيقية للنظافة العامة..صحيح أننا تعلمنا منذ الصِغر أن النظافة من الإيمان وأن الوقاية خير من العلاج ، وقرأنا على أغلفة الكراسات والكتب الدراسية نصائح وعظات مكررة مثل “إغسل يديك قبل الأكل وبعده”، ولكن تعاملنا مع كل ذلك ظل سطحياً الى حد كبير مثل المعلومات التي نتلقاها في المدرسة ونحفظها عن ظهر قلب ثم ننساها ونلقيها خلف ظهورنا، فور مغادرة لجان الإمتحان!!..وذلك في رأيي واحد من أهم أسباب أزمتنا مع النظافة أو أزمة النظافة معنا..فنحن حفظنا ولم نفهم.. رددنا الكلام ولم نطبقه..
ولو مارسنا النظافة في بيوتنا ومدراسنا كسلوك يومي لما صارت بلادنا على هذه الصورة المُخجِلة، ولما بلغ المسئولون في بلادنا وخاصة مسئولي المحليات هذه الدرجة الكارثية من البلادة والإهمال والتعايش مع القذارة والتي جعلت أحد الصحفيين العرب يصف القاهرة بأنها “عاصمة قذرة”!!..يومها أحسستُ بالغضب الشديد وقررتُ كتابة مقال للرد على هذا “المتطاول الصفيق” بمجرد وصولي الى “الأخبار”.. وخلال رحلتي بالسيارة من البيت الى مقر الصحيفة تصادف أن شاهدتُ عربة كارو يجرها حصان هزيل ويفرش بفضلاته احد شوارع الزمالك ، ثم سائق سيارة مرسيدس يُخرج رأسه من النافذة ويبصق في الهواء ، وعندما اقتربت من نهاية مشواري ، صعقني منظر أكوام الزبالة حول مستشفى الجلاء للولادة وفي مدخل شارع الصحافة.. وكان من الطبيعي أن اشعر بالعار والخجل وأتراجع عن كتابة مقال للرد على صحفي قال “الحقيقة المُرة” ولو بطريقة قاسية وفجة!!..