أحمد طه النقر يكتب: الأم المثالية..ليلى سويف
ومَن غيرُها يمكن أن تكون اُماً مثالية؟!، إذا كانت إيزيس قد صنعت اُسطورتها من رحم التضحية والمعاناة الطويلة، بعد أن جابت ربوع المحروسة لجمع أشلاء جثة زوجها وحبيبها أوزوريس، لتُبعث فيه الحياة من جديد وتُنجب منه حورس، الذي قتل سيت إله الشر، واسترد منه عرش أبيه، ليعم الخير والعدل والنماء أرض مصر، فإن الاستاذة الدكتورة ليلى سويف تكرر أسطورة إيزيس في القرن الواحد والعشرين وتسطر ملحمة جديدة من التضحية والمعاناة والنضال، غير أن ملحمة الدكتورة ليلى لم تقتصر على شخصها وإنما هى ملحمة عائلية ممتدة بقدر ما هى قاسية وتاريخية ومُلهمة!!
كانت أول مرة أسمع فيها اسم عائلة سويف عندما التحقتُ بقسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب/ جامعة القاهرة، مطلع سبعينات القرن الماضي..وكان القسم في ذلك الوقت مُدججاً بأسماء أساتذة بارزين ليس على مستوى الجامعة فقط، ولكنهم كانوا نجوما في الحركة الثقافية، والمجتمع عموماً، مثل المفكر الكبير الدكتور مجدي وهبة، والدكتور رشاد رشدي، وعلى رأس هذه الكوكبة من النجوم رئيسة القسم الاستاذة الدكتورة فاطمة موسى، زوجة الاستاذ الدكتور مصطفى سويف، رائد علم النفس ومؤسس أكاديمية الفنون ورئيسها لمدة ثلاث سنوات.. وكانت أيقونة القسم وموضع فخر طلابه، عندما التحقتُ به، الطالبة أهداف سويف التي عرفنا أنها تخرجت للتو وحصلت على الليسانس بتقدير امتياز في جميع المواد، وذلك حدث نادر في قسم انجليزي، وتأكدنا في نفس الوقت أن هذا التفوق لا علاقة له من قريب أو بعيد برئاسة والدتها للقسم لأن أهداف كانت فلتة بمعنى الكلمة..
دارت الأيام، وتخرجتُ في القسم عام 1974، وانقطعت صلتي بالدكتورة فاطمة موسى، حتى التقيتُ بها لآخر مرة عام 2003 في حفل تكريم أوائل كليات جامعة القاهرة، حيث كانت ابنتي مريم الأولى على قسم اللغة الإنجليزية.. وكم كنتُ فخوراً وممتناً بالذهاب إليها وتحيتها، وكانت من جانبها سعيدة بتفوق مريم.. وبعد أربع سنوات، غيب الموت الدكتورة فاطمة موسى ولكن أسماء نجوم العائلة لم تغب عن المشهد العام.. إذ واصلت الدكتورة أهداف سويف تألقها في دنيا الإبداع وفازت بالعديد من الجوائز الأدبية وخاصة في أوربا، بينما برز نجم جديد من الأسرة على الساحة هو علاء عبد الفتاح، ابن الدكتورة ليلى سويف، والحقوقي البارز أحمد سيف الإسلام عبد الفتاح، المحامي وأحد مؤسسي مركز هشام مبارك لحقوق الإنسان.. لمع اسم علاء مع ظهور المدونات إذ أسس مع زوجته منال حسن مدونة شهيرة بإسم “منال وعلاء” كان لها دور مشهود في الحراك السياسي والحقوقي الذي شهد ولادة حركة “كفاية”، وحركة 6 ابريل، والجمعية الوطنية للتغيير، وتوُجَ بإندلاع ثورة 25 يناير.. وخلال المخاض الذي سبق الثورة برز الدور الحقوقي والنشاط السياسي للدكتورة ليلى، وزوجها واولادهما علاء وسناء ومنى، وهو ما دفعوا ثمنه غالياً ومازالوا يدفعونه حتى كتابة هذه السطور!!..
ولكن الثمن الأغلى والأقسى والأفدح كان من نصيب الزوجة والأم ليلى سويف ، عالمة الرياضيات المرموقة على مستوى العالم، التي شاء قدرها أن تتحمل مبكراً محنة سجن زوجها أكثر من مرة كان آخرها عام 1983 حيث أمضى خمس سنوات في سجن القلعة، بتهمة الإشتراك في تنظيم يساري.. حملت وطأة غياب شريك حياتها ومسئولية رعاية اسرتها الصغيرة بالإضافة إلى مهامها الأكاديمية.. ولكنها لم ترضخ أو تهتز بل واصلت رسالتها ومسيرتها النضالية التي بدأتها عام 1972، عندما كانت في السادسة عشرة من عمرها حيث شاركت في مظاهرة طلابية كانت تطالب السادات بأن يحارب لتحرير الارض المحتلة في حرب يونيو 1967.. ومن أبرز المحطات في رحلة نضال الدكتورة ليلى سويف، مشاركتها عام 2003 مع مجموعة من كبار أساتذة الجامعات المصرية، على رأسهم الدكتور عبد الجليل مصطفى، والدكتور محمد ابو الغار، والراحلة الدكتورة رضوى عاشور، في تأسيس مجموعة العمل من أجل استقلال الجامعات المعروفة إعلامياً بإسم “حركة 9 مارس”.. وهى الحركة التي دافعت عن الحريات الأكاديمية وحقوق هيئات التدريس ونجحت في إلغاء الحرس الجامعي بعد رفع دعوى قضائية امام مجلس الدولة..
غير أن محنة ليلى سويف “الأم”، ودراما ابتلائها الكبير وعذابها المقيم تصاعدت مع هجمة الثورة المضادة التي أعقبت “30 يونيو” حيث بدأت حملة تنكيل ومطاردة ممنهجة لمعظم القوى التي شاركت في ثورة 25 يناير، وخاصة شباب الثورة..
ولم ينس أركان دولة مبارك العميقة، الذين عادوا إلى قلب السلطة والأجهزة الأمنية على أجنحة الثورة المضادة، الدور الكبير الذي قامت به ليلى سويف وزوجها (حتى وفاته عام 2014)، وأولادها علاء ومنى وسناء، في مختلف الانشطة والفعاليات الثورية والحقوقية، وخاصة أثناء فترة حكم المجلس العسكري، وبالذات في حملة “لا للمحاكمات العسكرية”، التي عارضت محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهى الحملة التي شهدت حضورا لافتاً وقوياً ل”منى سيف”.. فقد اعتقلت منى مرتين، أما علاء فتم اعتقاله في أحداث ماسبيرو في 30 اكتوبر 2011 وولد ابنه خالد (على اسم خالد سعيد ايقونة ثورة يناير)، وهو رهن الحبس الإحتياطي، ورفضت السلطات التصريح له بحضور ولادة ابنه.. كما اعتقل علاء في نوفمبر 2013 .. وفي 2015 صدر حكم بسجنه خمس سنوات بتهمة التظاهر بدون ترخيص.. وبعد انقضاء فترة سجنه خضع لإجراءات احترازية تعسفية كانت تقضي بزيارة قسم الشرطة يوميا، ثم تم القبض عليه اثناء خضوعه للإجراءات الإحترازية!!..
وفي كل ذلك تحملت الأم المجاهدة الصابرة ليلى سويف، ما لم يتحمله بشر، إذ أمضت أغلب اوقاتها طوال السنوات العشر الماضية، ما بين السجون وأروقة المحاكم لزيارة اولادها، أو الدفاع عنهم وعن رفاقهم.. والأدهى من ذلك أنها تعرضت في ديسمبر الماضي لمحاولة قذرة ووضيعة من صحيفة “الجمهورية” لتشويه سمعتها هى وأسرتها، في واقعة هزت المجتمع ولم تتحرك نقابة الصحفيين لمعاقبة المجرمين للاسف الشديد!!..
إنها مسيرة نضال وتضحية وعذاب، ترفع ليلى سويف إلى مكانة إيزيس وزوجة نبي الله أيوب، وتؤهلها لتكون الأم المثالية، لكل المصريين وخاصة الأحرار منهم .. ولا نملك أخيراً إزاء صاحبة هذه الملحمة الإنسانية الفريدة إلا أن ننحني ونقول لها ، بمناسبة عيد الأم، “كل سنة وانت طيبة وحرة وعظيمة يا أم الأبطال”..