أحمد سعد يكتب: نعم.. دفاعًا عن المستنصر
تحت أنقاض الحياة يعيش المصريون، عبثًا يحاولون النجاة من أزمات تفاقمت، وحوادث توالت تباعًا ولاحقتهم كأنها ضباع تطارد الفريسة.. كأسطورة “أطلس” الذي عوقب بحمل “قُبة السماء” على كتفيه، عوقبوا هم بحمل “قبة الصبر”، حتى أوشكت جبال الصبر أن تتداعى وتنهار وهم من دونها يصرخون.
يُبدي البعض الآن تخوفهم من مصير “الشدة المستنصرية”، فمع زيادة الأسعار بصورة مبالغ فيها، ومع توقعات باستمرار ارتفاعها الشديد خلال الفترة القادمة، ومع خشية تأثيرات سد النهضة، تستعيد ذاكرة الأمة مخاوفها من لحظة بالغة القسوة عاشها أجدادنا وبقي أثرها داخلنا.. يخوض البعض في الحديث حول “سلبية” المصريين وطول صمتهم حين بيع الرغيف بخمسين دينارًا وحين أكلوا القطط والكلاب وذاقوا لحوم بعضهم.. لكنهم لا يتحدثون عن “الرخاء” ولا عن “الكوارث الإدارية”.
إن مما يُدهش حقًا أن “المستنصر” الذي شهد زمانه الشهدة الأقسى في تاريخ مصر، استمر على سُدة حكمه 60 عامًا، حسب بعض المؤرخين.. ويحلو للبعض أن يستشهد بذلك للدلالة على مدى سلبية الشعب المصري الذي تجرع مرارة الجوع لكنه لم يثر على حاكمه الذي كان سببًا في الأزمة.
لكن في رأيي فإن هذا محض افتراء على الشعب الذي لديه من الوعي ما يسمح له بالتفريق بين “الخطأ” و”الجريمة”، فقد قضى المصريون تحت ظل المستنصر تسعة عشر عامًا من الرخاء، رخاء حقيقي لا لبس فيه ولا جوع ولا شقاء، ارتفعت الدخول وتوفرت السلع في الأسواق.. غير أن خطأ كارثيًا كان وراء “المجاعة”، إذ اتخذ المستنصر قرارًا اقتصاديًا بتفريغ المخازن من الحبوب والغلال وطرحها بالأسواق -وهو الأمر الذي كان متبعا سابقًا لضبط الأسعار- لتوفير سيولة نقدية لخزينة الدولة مع استغلال المخازن في تخزين المعادن التي ستُدر ربحًا أعلى.
ومع تراجع منسوب النيل وزيادة الجفاف تفاقمت الأزمة خاصة في ظل قرار إخلاء المخازن من الغلال، فكان ما كان مما أورد المؤرخون.
لكن المستنصر شارك المصريون أزمتهم، لم يعش في برجٍ عاجي بعيدًا عن معانتهم.. فكما يصفه عددٌ من المؤرخين كان “متدينا، رحيمًا، زاهدًا في الدنيا ومتاعها الزائل، فتح باب قصره للمظالم، لكن حسن الظن أورده المهالك”، الأمر الأهم أن المستنصر شارك الشعب الصبر على الجوع وأنفق كل ثروته على تكفين الموتى ومساعدة المحتاجين في وقت كان يمكنه أن ينجو فيه بنفسه بالهرب إلى مركز الخلافة الفاطمية بالمغرب غير أنه لم يفعل، بل إنه حتى لم يقبض على من يثور غضبًا عليه وفق قول المقريزي.
لم يشتر المستنصر “طائرات رئاسية”، ولم يبنِ بأموال الشعب لنفسه ولذويه عاصمة فاضلة يتحصن بها ومن تبعه من ويلات المجاعة، لم يعمد إلى رشوة الدول من حوله بصفقات التسليح لوقف الحديث عن الحريات ولو كان على حساب الشعب، حتى أنه لم يلق القبض على من أعلن غضبته وثار عليه.
لأجل ذلك، وعلى الرغم من فداحة الأمر، تحمل المصريون ذلك “الخطأ الإداري الكارثي”، ربما لأنه لم يتحول إلى “جريمة”.. فالخطأ الذي سقط فيه المستنصر إنما كان مرده الرغبة في تنمية الموارد، فعل ذلك بجهل لكنه لم يفعله بـ”سوء نية” وإنما يشفع له سنوات “الرخاء” التي عاشها المصريون في ظل حكمه كما يشفع له أنه بقي في منصبه يشارك الناس أزمتهم متخليًا عن الملذات.
قد يكون الشعب قصّر في (محاسبة) المستنصر على قراراته، لكن ليس من الإنصاف أن يوصف الشعب بـ”الخنوع”، ذلك أن لديه من الوعي الجمعي الموروث عبر الذاكرة الحضارية ما يسمح له بالتفريق بين من يخطئ ومن يُجرم، بين من صبر معهم وبين من ألقى عليهم كل الأعباء، بين من تعامل مع الفقراء بالرفق وبين من رأهم أموال أولى بها خزينة الدولة.. بين من يستحق أن يبقى في موقعه ومن يستحق أن يرحل.