أحمد سعد يكتب: عن شريف الروبي والحوار وبلاك ميرور!
يُحكم قبضته على شريحة الزجاج المكسور، يغرس نصلها في رقبته، ينظر إلى الجمهور الذي يتابعه عبر البث المباشر، يخاطبهم بحديث ثوري عن بؤس الحياة التي يحيونها وعن الأفضل الذي حُرموا منه، وعن الحياة التي يجب أن يعيشوها، يحدثهم عن دوامة العمل من أجل طبقة تستأثر بكل المكاسب بينما هم يُعانون ويموتون بالتصوير البطئ مع كل إشراقة شمس.
ينتهي البث المباشر، فيضع بطل قصتنا شريحة الزجاج في عُلبة عاجية غالية الثمن، ويرفع كأس العصير إلى فمه يرتشف منه، ثم يتجه إلى الشرفة البانورامية في محبسه الذهبي والترفيهي ليطالع مشهدًا من الأشجار والطيور والسماء الصافية كان محرومًا منه قبل أيام قليلة مثل كثير غيره ممن غيبتهم السجون.
لم يكن سجنًا بالمعنى الحرفي للكلمة، بل كانت حياة أشبه بالسجن وسجن كأنه الحياة، يستيقظ المسجون صبيحة كل يوم ليبدأ عمله على “درّاجة الطاقة” كآلاف غيره لإنتاج الطاقة مقابل نقاط يحصلون عليها ليشتروا بها أشياء غير حقيقية عبر تطبيقات فُرضت عليهم فرضًا وقنوات إعلامية بُثت إليهم بالأمر المباشر لترويج الإباحية الفكرية.
ثار الشاب حينما أجبروا الفتاة التي أعجب بها على العمل في الدعارة، استجابت لمطالب لجنة سُميت زورًا بـ”مسابقة البحث عن المواهب”، كانت تظن أنها بموهبتها قادرة على الهرب من البؤس الذي يلاحقها، لكنها سقطت في بؤس أكبر ومعها صديقها الشاب، الغضب الذي تمكن منه دفعه إلى التخطيط لعمل جريء، إذ عزم على التقدم إلى “مسابقة المواهب” لا لكي يقدم موهبته فحسب ولكن لكي يفاجئهم بأمر جديد عليهم وعلى مئات الآلاف من المشاهدين.
أمام اللجنة، بدأ الحوار.. في البداية أخرج الشاب الغاضب شريحة الزجاج المكسور ودفعها إلى رقبته مُهددًا بالانتحار إن لم يسمعه الجميع، تحدث عن الأحلام التي قتلوها وعن الحياة التي ليست حياة وعن الاستعباد من أجل ثراء فئة بعينها، وعن الزيف المسيطر على كل شئ، لا شئ من كل هذا حقيقي، ليست تلك هي الحياة التي يجب أن يحياها الناس ولا يجب أن تكون تلك أقصى أمانيهم، تحدث الشاب كثيرًا وأرغى وأزبد وأثار في صدور المشاهدين حماسة منقطعة النظير.. ليس المشاهدين فحسب ولكن أيضًا أعضاء اللجنة.
ما إن انتهى الشاب من حديثه، حتى فوجئ بإعجاب أعضاء اللجنة، يصبّون عليه الإشادات صبًا، حتى أن أحدهم وصف ما حدث بأنه “العرض الأكثر حماسة في تاريخ اللجنة”، لم ينته الأمر عند حد الإعجاب فقد قدموا له عرضًا سخيًا، كان العرض بسيطًا ومباشرًا، تقديم بث مباشر لمدة نصف ساعة مرتين أسبوعيًا، وليقل فيه الشاب ما شاء من ذلك الحديث الثوري، إما هذا أو العودة إلى “عجلات الطاقة”.على الرغم من الدموع التي امتلأت بها عينيه، وعلى الرغم من دهشته وعدم تصديقه، إلا أنه وافق، فأي شئ أفضل من العودة إلى تلك الحياة الرتيبة المُسممة.. كان نقيًا وغاضبًا لكنه لم يملك من أمره إلا الاستجابة إلى “التدجين” الذي فرضته اللجنة وفرضه الحوار، كان عليه أن يستجيب إلى “البراجماتية” التي دعته إلى قبول التفاوض.
في تلك الحلقة من مسلسل “بلاك ميرور”، هناك أشياء لم تُذكر، لكنها كانت حاضرة، فربما -مثلا- تذكر البطل الشاب المحبوسين وكيف تسير بهم الحياة، كان ذلك جليًا في مشهد النهاية حين وقف أمام المشهد البانورامي للغابة الشجرية، لكنه بالتأكيد لم يتحدث عن أولئك المحبوسين بعد ذلك، فربما كان الحديث عنهم مدعاة لعودته مرة أخرى إلى السجن.. ذلك تمامًا على عكس كثير من المتمسكين بمبادئهم -في الواقع وليس في المسلسلات- كالناشط السياسي المصري شريف الروبي.
فعلى الرغم من أنه خرج من محبسه في مايو الماضي، إلا أن شريف الروبي أصر على الحديث عن زملائه في الحبس، وما يلاقونه من معاناة، وهو ما أعادة مرة أخرى إلى دوامة الحبس والتدوير.. في القضية رقم ١٦٣٤ لسنة ٢٠٢٢ يواجه شريف الروبي كل الاتهامات الممكنة من بث ونشر وإذاعة أخبار وبيانات كاذبة، مرورًا بإساءة استخدام وسيلة من وسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك، وانتهاءً بمشاركة جماعة إرهابية مع العلم بأغراضها، وبلا شك تقرر حبسه 15 يومًا على ذمة التحقيق.
حبس الروبي يأتي في وقت تمتلئ فيه الصحف والقنوات الفضائية المحسوبة على النظام بالحديث عن “الحوار الوطني” وعن الإجراءات الجذرية المُتخذة من قِبل الحكومة في ملف حقوق الإنسان، وعن الأفضل الذي تأخر قليلا لكنه قادم لا محالة، وسط كل هذا يأتي حبس مواطن بعد أشهر قليلة من إخلاء سبيله، لا لشئ سوى أنه قرر الحديث عن معاناة شاهدها بعينه.
ربما يُدرك الشاب الغاضب من “بلاك ميرور” أن الحوارات ليست كلها جادة، بعضها يأتي بغرض التدجين والسيطرة، وبعضها الآخر يأتي بغرض التنفيس عن الغضب، أو يأتي كمناورة لتجاوز أزمة وقتية، وانحناءً للريح من أجل مرورها العاصف.. ربما يدرك الشاب كل ذلك أو لا يدركه، لا يعنينا ذلك، غير أن ما يعنيا وما يجب أن يعلمه علم اليقين أن الشواهد المحيطة بأي حوار هي أهم من الحوار نفسه لأنها ضمانة على الجدية، وإن غابت الجدية فلا جديد يُذكر ولا أمل يُرتجى.