أحمد سعد يكتب: حبة فوق.. وحبة تحت.. وحبة تحت قوي
مع أوائل سبعينات القرن الماضي، ظهر الفنان أحمد عدوية بلون جديد من ألوان الغناء الشعبي.. قوبلت أغنياته بالرفض والانتقاد في البداية، إلا أن نجمه لمع مع بداية حركة الانفتاح التي أطلقها الرئيس أنور السادات، ارتفع اسمه وارتفعت كذلك أسهمه حتى تحولت أغنياته -بمرور السنوات- إلى (كلاسيكيات الزمن الجميل).
عبّر عدوية عن طبقة جديدة كان لها اختياراتها وتأثيراتها ومكاسبها التي تحققت من “السداح مداح”، لكنه استطاع تجاوز تلك الطبقة محققا الاختراق في صفوف فئات وطبقات أخرى.
لا أعرف ما الذي يمكن أن يقوله منتقدو عدوية إذا انتقل بهم الزمن إلى ٢٠٢٠ ليستمعوا إلى مطربي المهرجانات، ربما ألقوا باللائمة عليه مدعين أنه السبب في وصول الفن الشعبي إلى هذا المستوى.. وربما صنعوا له تمثالا من ذهب إذا ما قارنوه بمن لحق به.
لكن الذي لا شك لديّ في أنهم سيفعلونه، هو أنهم سيقومون على الفور بتغيير كلمات أغنيته “حبة فوق.. وحبة تحت”، فلم يعد الأمر قاصرا على “من فوق” و “من تحت”.. جرت في النهر مياه كثيرة منذ السبعينات، فأصبح هناك “فوق” و “تحت” و “تحت قوي”.
ثلاثة مشاهد مرت بها مصر خلال الأيام الماضية، قد تكون سببا في تغيير التقسيم الهرمي لأغنية عدوية.
( 1 ) حبة فوق
في مدينة الجونة، وعلى شاطئ البحر الأحمر، اجتمعت الـ”حبة فوق”.. مهرجان فني ضمهم جميعًا على أرض مازالت مصرية، فحسب علمي لم تُعلن الجونة استقلالها بعد.
لكن ممارسات القائمين على المهرجان جاءت “انفصالية”، مستقلة عن الشعور الشعبي، ضاربة عرض الحائط بانتقادات الجماهير، فرغم حالة الغضب الكبير التي اجتاحت قطاعات كبيرة أصر المهرجان على تكريم ممثل فرنسي صهيوني، غير عابئ بقرار اتحاد النقابات الفنية بمقاطعة الصهيونية وكل داعميها.
لم تلتفت إدارة المهرجان إلى الغضب، تجاهلته تجاهلا كاملا، وسط إصرار على استكمال عملية التطبيع التي تجتاح العالم العربي ببوادر “تطبيع فني” قد يكون له ما له بعد ذلك.
قد نرى بعد سنوات تكريم فنانين إسرائيليين في الجونة، حينها ربما نترحم على أيام الزمن الجميل التي كان المهرجان فيها يُكرم داعمي الصهيونية فحسب.
يبدو أننا لا نساوي في نظر الـ”حبة اللي فوق” جناح بعوضة، ولا يمثل لهم رفضنا أي قيمة، ولا تعني لهم قرارات النقابات سوى مجرد أوراق متراصة في مكاتب الحفظ.
“حبة فوق” يفعلون ما يحلو لهم في مدينتهم المغلقة، لا تسري عليهم القرارات ولا تنطبق عليهم القوانين.. وليس تكريم “الممثل الصهيوني” سوى مرآة يمكنك بسهولة أن ترى فيها كيفية إدارتهم لمصالحهم لتحقيق مكاسب قد نعلمها وقد لا نعلمها.
( 2 ) حبة تحت
وفي الوقت الذي بدا فيه أن “الحبة اللي فوق” في الجونة وصلت إلى ما تنشده، فباتت تقيم بنفسها ولنفسها “علاقات دبلوماسية” بشكل أو بآخر، ظهرت من دونهم طبقة أخرى تسعى -حسبما يبدو- إلى الوصول إلى المكانة ذاتها ولكن بصورة أخرى.
بعد التصريحات المسيئة للإسلام التي أطلقها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على خلفية الرسوم المسيئة للنبي مُحمّد، انطلقت حملات لمقاطعة المنتجات الفرنسية، لكن “مشايخ السلطان” كان لهم رأي آخر.
أحد هؤلاء “المشايخ” تخلى تمامًا عن نصائحه المعتادة يوميًا بضرورة فصل الدين عن الدولة، فوجئت به يتحدث عن حجم التبادل التجاري بين مصر وفرنسا، مُحذرًا من الانسياق خلف دعوات مشبوهة!.
أنا هنا لست معنيٌ بحملات المقاطعة، ولا بالدعوات المضادة لها، وبلا أدنى شك لا يمكنني تبرير أي جريمة قتل تقع في أي بقعة في العالم تحت أي ظرف وأي مسمى.. أقصد تلك الجريمة التي تجددت بسببها الأحداث الأخيرة.
لكنني معنيٌ بموقف المشايخ أنفسهم، مواقف متضاربة، لا تحمل أي قدر من ثبات المبادئ، فبدلا من اتخاذ موقفا “دينيا” تفرضه عمائمهم، رأيتهم يتخذون موقفا “سياسيًا” غضت عنه الطرف ضمائرهم.
حسب تصوير بعضهم، فإن الغضب الشعبي من إهانة النبي مُحمّد هو مجرد “حملات مشبوهة”؛ المهم هو الإبقاء على المصالح الاقتصادية.. ولست أعرف يقينًا ما هو حجم انتفاعهم من تلك المصالح الاقتصادية، لكنني أعرف أن هناك “مصلحة ما” دفعتهم إلى ما نحذر منه دوما.. خلط الدين بالسياسة.
( 3 ) حبة تحت قوي
في القاع، وفي أدنى الهرم يأتي من هم “تحت قوي”، فقراء غاضبون مهمشون، يبيعون أصواتهم الانتخابية نظير مائة جنيه أو أقل.
شكاوى متعددة، من مواطنين ومرشحين، حول تداخل المال السياسي في العملية الانتخابية القائمة، واستغلال بذئ لاحتياجات الناس بـ”كراتين” من السلع التموينية.. لكنها كالعادة شكاوى ليس لها سوى التجاهل.
في القاع يأتي “الغلابة”، التعساء الذين يحاولون التمسك بقيم تخلى عنها الـ”حبة اللي فوق” والـ”حبة اللي تحت”، حتى وإن اضطرتهم الظروف إلى أمور لا يرضون عنها.
“حبة تحت قوي”، غاضبة من الصهيونية فيقوم “حبة فوق” بتكريم أحد داعميها، “حبة تحت قوي” غاضبة من إهانة نبيها فيقوم “حبة تحت” بمحاولة إقناعهم أن الحفاظ على العلاقات السياسية والاقتصادية أهم من “الحملات المشبوهة”.
“حبة تحت قوي”، غاضبة من الفقر والجهل والمرض والفساد، فيقوم “حبة فوق” بشراء أصواتهم بجنيهات قليلة أو بسلع تموينية.. ليتحول المبدأ الانتخابي إلى “الصوت مقابل الغذاء”.
يقيني أن “اللي تحت قوي” أشرف وأطهر، حتى وإن بيعت أصواتهم في المزادات الانتخابية.. ليس شراء الأصوات إدانة لهم بقدر ما هو إدانة لمن تخلوا عنهم وتركوهم في غياهب الفقر ليتفرغوا لـ”التطبيع” ومكافحة “الحملات المشبوهة”.
أو كما قال عدوية “يا أهل الله ياللي فوق.. ما تبصوا ع اللي تحت”.