أحمد سعد يكتب: جحا يقتل حماره (إبداعات)
على ضفة النهر جلس، استند إلى الشجرة العتيقة.. كانت تشبهه تلك الشجرة، انحنت كما انحنى ظهره وتدلت فروعها الجافة كما تدلت التجاعيد على وجهه، يومًا ما كانت تقف منتصبة شامخة كما كان هو تماما منذ عقود، قبل سنوات كانت أوراقها تملأ محيطها صخبا إذا لامستها الريح، كذلك كان هو، يملأ الدنيا صخبا إذا مسته الأزمات، يتجاوز المحن بالضحكات والنكات، بالسخرية اللاذعة التي لا تبقي ولا تذر.
من بعيد لاحت له المدينة بأسوارها الشاهقة، كم أحب شوارعها وأزقتها وأسواقها، التفت إلى النهر الذي يجري، تساءل “كيف ابتعد النهر عن مدينتنا كل هذه المسافة؟ كيف لم نلحظ؟ هل غير مجراه؟!”.. ثم امتد بصره إلى الصخرة الكبيرة، تلك الصخرة التي واعد خلفها أولى حبيباته، ارتفعت زاوية فمه بابتسامة شاحبة حين تذكرها، كانت شفتاها تُشبه الرُمان، لكن بلا شك كان طعمها أحلى.
تذّكر كيف كان في أول شبابه صاحب نزوات وغزوات في الحب، اعتراه شيءٌ من الندم بعد ذلك، وكيف لا وهو حافظ القرآن، آه.. القرآن، كم عانى في كُتّاب الشيخ “الطودي”، ذلك الرجل فارع الطول، كثيف اللحية، مُخيف القسمات، كان ضريرًا لكنه كان يجيد استخدام الـ”فلكة” ويجيد معاقبتهم إذا ما قصّروا أو أخطأوا، صحيح أنه كان أكثر الطلاب تعرضًا للعقاب بسبب لسانه السليط كما كان يقول شيخه، إلا أنه برغم ذلك حفظ القرآن وهو ابن العاشرة.
التفت إلى حماره الذي هز رأسه وكأنه لا يوافقه على فخره ببعض ذكرياته، أومأ برأسه هو الآخر ثم قال “نعم يا صديقي، معك حق، صحيح أنني حفظت القرآن، لكنني لم أفهم كثيرًا منه، حفظته خشية العقاب”.. عاود النظر إلى المدينة البعيدة، ذاك قصر السلطان، لماذا ينبغي للقصر أن يكون على القمة دومًا؟!.
تراصت أمام مخيلته كل النكات التي أطلقها على السلطان الظالم، وعلى قائد العسس المتجبر، وعلى شاهبندر التجار اللص، ضحك، كم سرّه طوال حياته أن يكونوا محل سخرية الناس وضحكاتهم، تذكّر حين أتاه الشاهبندر غاضبا وسط رجاله وحراسه يسأله “جحا، يقول الناس أنك سببتني على الملأ فهل هذا صحيح؟”، ضحك الناس حتى كادوا يسقطون على الأرض حين أجابه “ولما لا أفعل، هل أنا ديوث؟!”.. لم يفهم الشاهبندر العلاقة بين الدياثة وبين السُباب، لكنه اعتبر إجابته وضحكات الناس من حوله كافية لكي يفعل ما أراد، أوعز إلى قائد العسس فألقى به في السجن خمسة أشهر قبل أن يتدخل الوسطاء.
عاود جحا الالتفات إلى حماره، ثم وقف، أخرج من جرابه وعاءً، وضع فيه طعامًا للحمار، ربّت على رقبته “كُل يا صديقي، كُل، هذا آخر ما استطعت توفيره لك من طعام، لم أعد أملك شيئا يا صاحبي، لا لي ولا لك”.
جلس إلى جوار حماره وعيناه تترقرق بالدموع، قال “هل تعلم يا حماري العزيز، لقد سهرت طوال الليل أخلط السُم بطعامك، نعم، لقد وضعت لك سُما، ليس لأنني أكرهك، أنت تعلم أنني لم أحب إنسانًا بقدر ما أحببتك”.
بدأ الحمار يلهج، وأنفاسه تتسارع، نظر إلى جحا، لم تكن نظرته تُعبر عن الألم في أحشائه قدر ما تُعبر عن الصدمة في صديق عمره، لقد حمله على ظهره سنوات، سار معه في طرقه، رافقه في أزماته، رضي بالقليل منه ولم يتذمر.
سقط الحمار، سكنت أنفاسه، وصوت جحا يعلو “أنا أريحك من الألم، هذه الحياة مؤلمة، أنت لا تدري أنها كذلك، أنت لا تدري لأنك ببساطة حمار.. لم يكن لدي بديل يا صديقي، صدقني، لا شيء يُجدي، لا إخلاصك ووفائك يجدي، ولا سُخريتي ونكاتي تُجدي، انظر.. انظر إلى تلك المدينة، غياب أي فردٍ فيها لن يُشكل فارقًا فما بالك بحمار مثلك ومثلي، قل لي ما الذي تغير في حياتك منذ أن ولدت، ما الذي استطعت أن تفعله، غير أن تحمل هذا على ظهرك وتتحمل ضرب هذا بالعصا؟ نم يا صديقي، نم، فغدًا تصحو بلا ألم”.
سقط جحا على الأرض، أهال على رأسه التراب، بللت دموعه لحيته، تساءل متى تحول قلبه إلى صخرة لم يمسسها ماء، متى تمكن اليأس منه، متى أصبحت الحياة لديه كالموت؟!.
هب واقفا على قدميه، أطاح بعمامته التي لازمت رأسه، خلع ملابسه قطعة تلو قطعة، ثم اتجه إلى النهر، ياللسخرية، كيف يكون النهر إلى جوار مدينته كل هذه السنوات ورغم ذلك لم يتعلم السباحة.. لامست قدماه الماء، التفت إلى المدينة كأنما يودعها، رفع كفه إليها لكنها لم ترد.
في المدينة بعد أيام، أثار اختفاء جحا علامات استفهام، تساءل الناس عنه، وحينما عثروا على حماره ميتًا وعلى ملابسه، أشارت أصابع الاتهام إلى أعدائه الذين طالما سخر منهم.. وفي الجمعة التالية، صعد شاهبندر التجار عقب الصلاة إلى المنبر، فحمد الله وأثنى عليه ثم تحدث عن مُعجزات الله وقدره، وقال إن ما حلّ بجحا هو غضبٌ من الله لأنه عادى أولياء الله، وذكرهم بقول الله تعالى “لا يسخر قومٌ من قومٍ” وأن هذا جزاء كل من يجهر بالسخرية.
كاد ما قاله الشاهبندر يستقر في عقول الناس، لولا أنه بعد عام، وفي نفس الليلة التي اختفى فيها جحا، تردد صوته الجهور في ظلمات الليل فأيقظ الناس من نومهم، خرج الناس يبحثون عنه فلم يجدوا شيئًا.
في الأعوام التالية تكرر الأمر، فأطلق الناس عليها “ليلة جحا”، باتوا في كل ليلة يتجمعون لكي يعرفوا السر ومن أين يأتي ذلك الصوت، يقضون ليلتهم بجوار سور القصر، فيتردد الصوت عند السوق، يتجمعون في العام التالي عند السوق فيتردد الصوت عند المخفر.. لكن الغريب لم يكن تردد صوت جحا المستمر، كان مثار دهشة الناس هو ما يقوله، لم يكن جحا يقول سوى جُملة واحدة فقط.. “لم يكن لدي بديل”.