أحمد سعد يكتب: الصين والمد القعمي.. مخاوف مشروعة
حققت الصين نجاحا مُبهرًا في محاصرة فيروس “كورونا”، تمكنت من السيطرة على انتشار الوباء رغم الكثافة السكانية المخيفة، شيدت المستشفيات في أيام معدودة، واستخدمت تقنيات حديثة ووسائل تكنولوجية مُبهرة في المراقبة والتتبع وحتى تقديم الخدمات الصحية.. لكن على الرغم من ذلك تظل الصين مصدرًا للقلق والمخاوف المشروعة.
في أواخر خمسينات القرن الماضي، وبالتحديد في عام 1958، وضعت بكين بقيادة ماو تسي تونج ما أسمته “القفزة العظيمة إلى الأمام” وهي خطة كانت ترتكز على تحويل البلاد من مجتمع زراعي إلى مجتمع صناعي، ولعدة أسباب -ليس هذا محل عرضها- سقطت الصين في هذا التحول، لتنتج عنه أكبر مجاعة شهدها العصر الحديث راح ضحيتها نحو 40 مليون نسمة، ربما كان ذلك سببا في تغييرات كثيرة طرأت على سلوكيات الشخصية الصينية تتعلق في جزء منها بطبيعة الأطعمة التي يتناولها الصينيون لكنها في جزء آخر تتعلق بإدارة الأزمات.
الأزمات الكبرى التي خاضتها الصين على مدى عقود من القرن الماضي، بداية من الحروب المختلفة أمام اليابان مرورًا بـ”القفزة العظيمة إلى الأمام” وانتهاء بالثورة الثقافية التي كان هدفها القضاء على “البرجوازية” فأفضت إلى كثير من المذابح.. كل ذلك أدى إلى قدرة صينية استثنائية على إدارة الأزمات ظهر ذلك عندما اندلعت الأزمة المالية الآسيوية عام 1997 واحتواء الأزمة المالية العالمية عام 2008 ثم في 2020 محاصرة فيروس كورونا (حتى الآن).
أبدت بكين اهتمامًا كبيرًا بالتكنولوجيا والتطوير العلمي، واقترب عدد الدارسين بالخارج منذ أواخر سبعينات القرن الماضي وحتى الآن من 3 ملايين دارس، بالإضافة إلى استقدام الخبرات العلمية من الخارج وهو ما يقدم لها عددًا كبيرًا من الخبراء والكفاءات ممن لديهم منظور دولي وهو ما قد ينعكس خلال وقت قصير على “التنظير العلمي”، بدت بوادر ذلك في التطبيق التكنولوجي المبُهر في أزمة كورونا من حيث المراقبة والتمريض الآليين.
حافظت الصين على معدلات اقتصادية مرتفعة وصلت إلى 9% سنويًا منذ عام 1979 وحتى عام 2013، لكنها في المقابل حافظت على “الشخصية القمعية” لم تفارقها ولم تقبل بالابتعاد عنها وتمسكت بها.
تخلت الصين بشكل شبه كامل عن (الاشتراكية الحقيقية)، فيما حافظت على مُعادلة (رأسمالية الدولة/القمع لأجل الحكم)، يتبيّن هذا بوضوع في التفاوت المتزايد في الدخول، فالنجاح الاقتصادي الذي حققته الصين لم يتوزع بشكل متساوٍ في بلد تعداد سكانه أكثر من 1,3 مليار نسمة.
عززت الصين ظاهرة “اللامساواة” والانقسام بين المُدن والريف، فروق واضحة بين نماذج الثراء الفاحش والطبقة الوسطى الصاعدة التي تتعايش مع مناطق ريفية محرومة من أبسط الحقوق إضافة لقوة عاملة لا تتمتع بالمهارات الضرورية وكبيرة العمر.. أشار إلى ذلك البنك الدولي في تقرير قال فيه إن “الدخل الشخصي في الصين ما زال في مستوى نظيره في الدول النامية، وهو يكاد يبلغ ربع الدخل في الاقتصادات المتقدمة”، في حين ارتفع عدد المليارديرات إلى 475 ملياردير في المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة الأمريكية التي بلغ عددهم فيها 585.
“ديكتاتورية البروليتاريا” و”بناء مجتمع اشتراكي متناغم” و”التمسك بالماركسية اللينينية”، الشعارات التي رفعتها الصين سابقا، تخلت عنها في سبيل اجتذاب رجال الأعمال وتنمية رؤوس الأموال، على حساب العدالة الاجتماعية.. لم يتوقف الأمر عن استغلال “المُحفزات الرأسمالية” وإنما تجاوزها إلى قسط كبير من “النيوليبرالية” جعل الصين لا تختلف كثيرًا عن الدول التي تخالفها أيديولوجياً حسب دعاية بكين المعلنة.
وبينما تركت الصين الرسمية السوق الداخلية للآليات الرأسمالية، واصلت نهجها القمعي فيما يخص شئون الحكم.. تغييب تام للديمقراطية ولا وجود للأحزاب وبالتبعية يجري تداول السلطة بين نخبة الحزب الحاكم بشكل شبه بيروقراطي وبتوازنات دقيقة للأجنحة المختلفة، ولكي يكتمل المشهد لا تعرف الصين صحافة حرة، وتغيب عن فضائها الإلكتروني مواقع التواصل الاجتماعي المعروفة عالميا.
وتحت القبضة الاستبدادية يخضع كل فرد لمراقبة مشددة باستخدام أدوات تكنولوجية حديثة ومتطورة، ومواقع التواصل الاجتماعي التي تديرها منظومة الدولة القمعية تشكل رديفا لأنظمة الرقابة المحكمة، ما اضطر عدد من الشركات الكبرى لرفض العمل رسميا في الصين.
المعادلة الصينية أصبحت أكثر وضوحًا وصراحة في العقود الماضية وامتلكت بكين الشجاعة الكافية لتقول للعالم: نترك لكم السوق بشكل “شبه كامل” وتتركون لنا الحكم بشكل “كامل” وكل ما يستتبعه ذلك من آليات تضمن إبقاء الأفواه مُغلقة والأعين مُغمضة،
وما عزز مكانة المُعادلة الصينية، نجاحها في حصار “كورونا”، فأصبحت مضربًا للأمثال والإشادات وحصدت الكثير من الإعجاب وباتت دليلا على نجاح “النظام/الدولة”.
احتلت الصين موقع الريادة في صناعة “التكنولوجيا الاستبدادية”، ما جعلها مثلا يُحتذى به في الأنظمة القمعية.. أدريان شهباز، مدير أبحاث التكنولوجيا والديمقراطية بمؤسسة فريدم هاوس، قال في دراسة استقصائية حول الروابط بين التكنولوجيا والاستبداد، إن “نموذج الصين” للتنمية الاقتصادية ومراقبة الإنترنت، أصبح أكثر جاذبية للزعماء المستبدين في جميع أنحاء العالم.
في كتابه “الحرب الباردة الكونية” يقول آود آرن وستاد، “كان كينيدي ومستشاروه يرون أن أهم ما يمكن لأمريكا أن تفعله للقضاء على الشيوعية ولتجنب الانهيار في العالم الثالث سيكون من خلال نجاحها التكنولوجي، المال في حد ذاته لا يمكن أن يقوم بالمهمة، فقط التكنولوجيا وما يصاحبها من معرفة يمكن أن تعبر بالعالم الثالث فترة اللايقين، كما أن استقبال دول العالم الثالث للتكنولوجيا الأمريكية كان يوحي بتقبل الدور الأمريكي الرائد في دفع العالم نحو الحداثة”.
الآن تنسحب الأرضية التكنولوجية في كثير من دول العالم من تحت الأقدام الأمريكية لصالح الصين.
في تقرير عن “الحرية على الإنترنت” صدر في عام 2018 عن فريدم هاوس، فقد قامت 18 دولة، من أصل 65 تم تحليل معلوماتها، بشراء أنظمة من شركات صينية مثل شركة ييتو وشركة هيكفيجن، وشركة كلاود ووك، وتجمع هذه الشركات بين “التقدم في الذكاء الاصطناعي وتقنية التعرف على الوجوه لإنشاء أنظمة قادرة على تحديد التهديدات التي تواجه (النظام العام).. وقد طورت جميع هذه الشركات تقنيتها، واستخدمتها في المراقبة.
الرئيس الصيني نفسه، شي جين بينغ، قال في خطاب ألقاه في العام 2017 أمام المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني إن “(المسار، والنظرية، والنظام) لنموذج الحكومة الصينية يوفر خيارًا جديدًا أكثر جاذبية للدول والبلدان الأخرى”.
كان ذلك قبل جائحة كورونا، وما زاد حاليا من تلك “الجاذبية” التي تحدث عنها الرئيس الصيني، ما قامت به الإدارة الصينية في مواجهة الفيروس المتفشي، ليس إجراءاتها الداخلية فحسب وإنما تجاوز ذلك وصولا إلى إرسال مساعدات إلى الدول المنكوبة.
السياسات الانغلاقية والانعزالية للرئيس الأمريكي دونالد ترامب -الذي قد يبقى لدورة انتخابية أخرى- تركت مساحة كبرى للصين لشغر هذا الفراغ الكبير، خاصة أن التراجع الأمريكي على الساحة الدولية (إلا مع الدول التي تمثل بالنسبة له مصدر دخل كبير) يستتبعه بالضرورة تراجع الاتحاد الأوروبي أيضًا تحت تأثير ضربات “كورونا”، وهو الاتحاد المتأثر أصلا بخروج بريطانيا.
انكفاء الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على مشكلاتهم، ترك للصين موطئ قدم في شرق وجنوب أوروبا، من خلال مساعدات لإيطاليا والتشيك وغيرهمها من الدول ما دفع الرئيس الصربي إلى شن هجوم حاد على الاتحاد الأوروبي بعد أن قرر عدم إرسال مُعدات أو أطقم طبية إلى الدول الأعضاء.
الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش قال، خلال استقبال طائرة مساعدات صينية بمطار بلجراد، إن المساعدات التي أرسلتها بكين لبلاده لمواجهة فيروس كورونا “ستساهم في إنقاذ حياة المئات وربما آلاف المواطنين الصرب”.. لكن الكلمة الأخطر التي قالها هي أن بلاده “لا ترد على ذلك فقط بشكل عاطفي بل بشكل عقلاني، وأنها لن تنسى هذا الموقف أبدًا”.
المشكلات التي تعرض لها النظام الاقتصادي العالمي وانهيار الأنظمة الصحية وعدم فاعلية الأنظمة “الديمقراطية” في احتواء الأزمات، جعل الصين جزيرة بمنأى عن تلك المشكلات والأزمات رغم أن الفيروس المنتشر خرج من أراضيها في الأساس، كل ذلك قد يجعل من (الصين) مركز جذب وثقل في تحويل بعض الأنظمة الحاكمة إلى المسار الصيني يدفعها لاحتذاء نموذجها من أجل الدعم والتعزيز، لتتحول بكين تدريجيا من ملاحقة الولايات المتحدة إلى قُطب ينافس واشنطن على زعامة العالم.. وربما هذا ما دفعها للبحث عن التلويح بـ”تصعيد الصراع” من أجل إثبات وجودها كقوة مكافئة لأمريكا.
الإدارة الصينية -وهي الإدارة الصموتة شديدة الحذر- لجأت إلى إصدار تصريحات على لسان المتحدث باسم وزارة الخارجية تشاو لي جيان، قال خلالها إن الجيش الأمريكي ربما جلب فيروس كورونا إلى مدينة ووهان الصينية، التي كانت الأكثر تضررا بسبب التفشي.. ونشر المسؤول الصيني تغريدة بالإنجليزية في حسابه على “تويتر” قال فيها: “متى ظهر المرض في الولايات المتحدة؟ كم عدد الناس الذين أصيبوا؟ ما هي أسماء المستشفيات؟ ربما جلب الجيش الأمريكي الوباء إلى ووهان.. تحلوا بالشفافية! أعلنوا بياناتكم! أمريكا مدينة لنا بتفسير”.
من الصعب أن يمر تصريح مثل هذا مرور الكرام، فهو تصريح يُنذر بتصعيد ضد الولايات المتحدة، بما ينقل الصين إلى مرحلة أخرى من مراحل الصراع مع واشنطن ففي حين اكتست حربهما الباردة خلال الفترة الماضية بغطاء من “المنافسة الاقتصادية” اتخذ الصراع شكلا جديدا بعد كورونا يحمل اتهامات متبادلة بـ”الحرب البيولوجية” وهو ما يعني أن الصين تُجهز نفسها سياسيا واقتصاديا وربما عسكريا من أجل تصعيد محتمل للصراع مع أمريكا.
تجهيزات بكين لتصعيد محتمل في الصراع مع واشنطن يدفعها إلى تحركات “دبلوماسية” من أجل استقطاب أنظمة تدين لها بالولاء.. أو على الأقل تضمن حيادها وبقاءها خارج إطار الصراع.
تحول مسار المساعدات التي تتلقاها الدول الأكثر احتياجا، من واشنطن إلى بكين قد يُغير وضعية التواجد الدولي الأمريكي، خاصة إذا ما استمرت إدارة ترامب الحمقاء في تجاهل التحذيرات الطبية بضرورة الإغلاق الكامل خشية تفشي كورونا في ظل رغبته في تلافي الخسائر الاقتصادية.
ترامب يدرك أن استمرار حالة الإغلاق سيتسبب في خسائر كبرى في الوقت الذي بدا فيه الاقتصاد الصيني تجاوز الأزمة وأرسل المساعدات وهو ما يعني أن يخرج المارد الصيني من الجائحة أقوى، لكن رجل البيت الأبيض لا يعلم أنه بإنهاء الإغلاق سيكون كمن يغوص في بحر من الرمال ويُصر رغم ذلك على الحركة.. كلما تحرك أكثر، غرق أكثر.. وبالتالي يترك مساحات أكبر للانتشار الصيني.
التراجع المحتمل لاقتصادات الولايات المتحدة، ومن خلفها الاتحاد الأوروبي، يضمن توسعًا اقتصاديا صينيا، وهو بالطبع لن يكون تحركًا مجانيًا، وبالقطع فإن هذا “التوسع الاقتصادي الصيني” لن يدعم أنظمة قد تتغير كل بضعة سنوات، الصين ترغب في أنظمة “مستقرة الولاء”.
ليست الأنظمة الغربية أنظمة ملائكية، هي بطبيعة الحال تضمن قدرًا كبيرًا من دعم الأنظمة القمعية، لكنها في حدها الأدنى تعزز التعددية وحرية الرأي والتعبير ولو صوريًا، لكن حتى هذه “الصورية” لا تعرفها الإدارة الصينية.
خلال الحرب الباردة بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية لعبت الأخيرة على وتر التناقضات، فبينما كان خطاب السوفييت الرئيس هو المساواة، أطلقت الولايات المتحدة مفهوم “حقوق الإنسان” وشنت في الوقت ذاته حربًا على إهدار موسكو لمبادئ الحرية، وخلال العقود الأخيرة وقعت الولايات المتحدة والغرب كله في ذات التناقض، فبينما ساد الحديث عن الحقوق والحريات كان الدعم يتدفق على أنظمة ديكتاتورية وغضت عواصم “العالم الحر” طرفها عن الممارسات الاستعبادية لبعض الحُكام تجاه شعوبهم.
تجاوزت الصين هذا التناقض، فمعادلاتها واضحة وصريحة، تتبنى رجال الأعمال لا تزعجهم بالحديث عن العدالة الاجتماعية والحُكم أحادي لا يسمح بالديمقراطية.. لا تناقض بين الأقوال والأفعال بعكس “العالم الحر”.
لذلك تمثل الصين مركز جذب، ليس للأنظمة الاستبدادية فحسب، ولكن لرجال الأعمال والمستثمرين و”الدولجية” الذين يحلمون بدولة مسيطرة تتجاوز بهم الأزمات والطوارئ حتى لو كان ذلك على حساب الحريات.. لذلك سيظل التخوف من المد القمعي الصيني تخوفًا مشروعًا، ما دُمنا نحلم بعالم أفضل تسود فيه العدالة الاجتماعية والحرية والمساواة.