أحمد سعد يكتب: أجور الصحفيين.. عندما يصبح الظلم طبيعيًا

لم تعد أزمة أجور الصحفيين أزمة عابرة ولا خللًا مؤقتًا في منظومةٍ مضطربة، بل تحولت إلى إهانة علنية لمهنة تقوم في جوهرها على حماية الحقيقة ونقلها للناس.

ما يحدث اليوم لم يعد مجرد تقصير إداري أو سوء تقدير، بل أصبح نمطًا راسخًا من الظلم المتعمد، تُدار به المؤسسات، وتُكسر به ظهور صحفيين يعملون ليلًا ونهارًا تحت ضغط دائم، بينما يُطلب منهم في النهاية أن يعيشوا برواتب لا تكفي الحد الأدنى من حياة كريمة.

الصحفي ليس متدرّبًا أبديًا، ولا عاملًا مؤقتًا في ورشة أخبار.. هو إنسان له بيت، وأسرة، والتزامات، ومسؤوليات لا تنتظر ظروف المؤسسة ولا بياناتها ولا تراخيها في استخلاص حقوق العاملين.. وحين تُعامل المؤسسة صحفييها كعبء يجب تقليص كلفته، لا كركيزة يقوم عليها وجودها، فإنها في الحقيقة لا تهين الأفراد فقط، بل تهين المهنة نفسها.. المرتبات الهزيلة لا تكسر معنويات الصحفي فحسب، بل تفتت روح الصحافة، وتحولها تدريجيًا من رسالة إلى وظيفة مُنهكة فاقدة للكرامة.

أزمة الزملاء في “البوابة” لم تكن حادثة عارضة، بل جرس إنذار حقيقي يقرع أمام الجميع.. صحفيون استمروا في العمل، ضغطوا على أنفسهم، وراهنوا على صبرهم المهني والإنساني، على أمل أن يأتي يوم يحصلون فيه على حق طبيعي وبديهي: أجر شبه عادل.

ومع ذلك، استُكثر عليهم هذا الحد الأدنى.. ورغم أن هناك بوادر لحل أزمتهم، إلا أن الحقيقة الأكثر إيلامًا أن الأزمة أعمق بكثير من مؤسسة واحدة، وأكثر انتشارًا من واقعة بعينها.

المشكلة أن هذا الواقع لم يعد صادمًا كما ينبغي، أصبح طبيعيًا، وتلك هي الكارثة الحقيقية.. حين يتحول الظلم إلى عرف، والاستغلال إلى “سياسة عمل”، والخوف إلى حالة دائمة يعيش فيها الصحفي حتى لا يفقد مصدر رزقه مهما كان ضعيفًا.. تأخير الرواتب، ضعف الأجور، خصومات ضريبية غير مفهومة، غياب الأمان الوظيفي، والتعامل مع الصحفي كرقم قابل للحذف والاستبدال، كلها لم تعد استثناءات، بل أصبحت القاعدة.

الصحافة لم تكن يومًا مهنة للترف، لكنها أيضًا لم تكن مهنة للإهانة.. هناك فارق شاسع بين أن تقبل بالمخاطر والتحديات من أجل الحقيقة، وبين أن تُجبر على ابتلاع الإهانة من أجل لقمة العيش.. الأجور الضعيفة ليست مجرد رقم في كشف الرواتب، بل رسالة قاسية تقول للصحفي: “أنت لا تستحق”، وتلك رسالة لا تليق بمهنة يفترض أن تكون ضمير المجتمع.

الخطأ الأكبر هو التعامل مع ما يحدث باعتباره “قضية البوابة” فقط، هذا تبسيط مُخادع للواقع ومُخل، القضية هي مهنة كاملة تتآكل ببطء، وصمتٌ عام يشارك فيه كثيرون؛ بعضهم خوفًا، وبعضهم يأسًا، وبعضهم اكتفاءً بتعاطف عابر على وسائل التواصل.. التضامن الحقيقي لا يكون بالمنشورات وحدها، بل برفض التطبيع مع هذا الواقع، ورفض اعتبار الظلم وضعًا طبيعيًا.

قد يكون ما نملكه من أدوات محدودًا، وقد يكون صوتنا أضعف مما نريد، لكن هناك شيء واحد لا يجوز أن نفعله.. الصمت.. لأن الصمت هنا ليس حيادًا، بل مشاركة غير مباشرة في استمرار هذا الانهيار وتراجع مهنة لا يدافع عنها أهلها، وتُترك لتواجه الموت ببطء، حتى لو بقي اسمها حيًا على اللافتات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *