أحمد سعد يكتب: أثرياء الفهلوة.. استنساخ دناءة الماضي والحاضر
من كان يملك درهمين تعلمت شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهـمه التي في كيسه لرأيته شرُ البــرية حـالا
أبياتُ شعرٍ قال البعض إنها لـ”مُحمد بن القاسم بن خلاد” مولى أبوجعفر المنصور المُكنى بـ”أبو العيناء”، بينما نسبها البعض للإمام علي بن أبي طالب.
ليست المشكلة الآن في نَسب هذه الأبيات إلى قائلٍ بعينه، لكن المشكلة التي تعنينا هي سلوك بعض الأثرياء في كل الأزمنة.. فسلوك أحدهم يتغير على حسب درجة انتفاخ جيبه؛ كُلما امتلأ كلما تورمت ذاته، وانعزل عن مسببات نجاحه وتكبر عليها.
الشاعر العظيم، أبو الطيب المتنبي، بدأ حياته مُتمردًا مع القرامطة، ثم ما لبث أن سعى إلى مواكب السلاطين بحثًا عن منصب أو ثروة، رحل من العراق إلى الشام ومن الشام إلى مصر، يمدح هذا ويهجو هذا حتى جمع الكثير والكثير من المال طوال سنوات سخر خلالها ذكاءه وموهبته في خدمة من يدفع، ولما عاد إلى العراق بعد عقود كان أول من يتصدى للقرامطة ويحاربهم بسيفه.. أسباب كثيرة دفعته لتغيير موقفه، لكن الثروة التي أضحت في خزائنه جاءت على رأس هذه الأسباب.
هل تتخيل يا عزيزي أن ذلك كان موقف المتنبي الذي بدأ غاضبًا ثوريًا، فما بالك بـ”رجل أعمال” بدأ حياته نصابًا “فهلويًا”.
بعد قرون، ظهرت في مصر طبقة من “الأثرياء” إذا وُضِع “أبو الطيب” بينهم لصار نبيًا وليس متنبيًا.
كان المتنبي “رجل أشعار”، فبرغم فظائعه كان على قدر من المبادئ، قد يكون احتفظ ببعضها لنفسه فظهرت في بعض أفعاله، لكن “رجل أعمال” العصر لم يستنسخ عن المتنبي سوى سوءاته.. حقق المتنبي ثروته بموهبة حقيقية امتلكها، بينما حقق معظم أثرياء الحاضر ثرواتهم بالزيف والتدليس.
“رجل أعمال” الحاضر لم يستنسخ عن المتنبي سوى الانتهازية والغرور، لذلك ليس غريبًا عليه أن يضع أمواله في كفة وحياة الناس كلهم في كفة، فترجح كفة استثماراته.
ليس غريبًا أن يخرج علينا رجل أعمال العصر ليقول “رجعوا الناس للشغل فورًا.. لما شوية يموتوا أحسن ما البلد تفلس” أو أن يقول “إحنا بنعاني وحد يقولي اتبرع، آسف مش هتبرع” أو أن يطالب العاملين الفقراء بالتنازل عن جزء من رواتبهم تحقيقا لمصالح الشركات، أو أن يقوم بالفعل بتخفيض الرواتب إلى النصف.. ليس غريبًا على الإطلاق ألا تعني حياة الناس بالنسبة له غير فرصة لتعظيم ملايينه من الدولارات.. ليس أمرًا يثير الدهشة أن يطالب بعضهم بدهس العامل تحت عجلات وباء متفشي يجتاح العالم كله فالمهم هو أمواله واستثماراته.
وللأسف، لم يتوقف “رجال المال” في مصر عند استنساخ سوءات أثرياء الماضي فحسب، لكنهم -بلا حياء- استنسخوا مثالب أثرياء الحاضر أيضًا.
فعلى الرغم من الدور الاجتماعي الكبير الذي يقوم به رجال الأعمال في أمريكا وأوروبا، وعلى الرغم من دعمهم المستمر للتنمية البشرية، إلا أن رجال أعمالنا يصرون على استنساخ الأسوأ من تجاربهم.
خلال الآونة الأخيرة، بدأ بعض “رجال الأعمال” في الغرب في التبرع بقسط كبير من أموالهم لصالح أعمال الخير، لكن “رجال المال” في مصر لا يفعلون هذا إلا تحت ضغط سلطة أو رأي عام، وإن واتتهم الفرصة ألا يفعلوا فلن يتوانوا.. ولن يحرموا أنفسهم من قطع أرزاق العاملين الذين قضوا في خدمتهم سنوات إذا ما سبب لهم ذلك مُتعة تنمية الثروة لتعويض التبرع الذي قدموه.
تركيبة نفسية ركائزها الأنانية والانتهازية والغِلظة، ساهم في تضخم تلك التركيبة السيئة تدليل الأنظمة المتعاقبة لهم بزعم أنهم قاعدة “الرأسمالية الوطنية”، فالأراضي مجانية، والقروض المليارية متاحة، والمرافق تصل لمصانعهم خلال أيام، والضرائب مُخفضة ومع ذلك يتهرب بعضهم منها.. الرأسمالية الوطنية لا تلتف على مصالح الوطن والمواطن.
لقد استنسخ “رجال المال” في مصر مساوئ الماضي والحاضر، شبوا على الانتهازية فشابوا على الاستغلال، ألِفوا الربح السريع، اعتادوا أن يكونوا أطفال الأنظمة المدللين.. فجاءت تصريحاتهم لتُعريهم وتكشف حقيقتهم.
وبرغم وجود بعض النماذج المشرفة من رجال الأعمال الذين رفضوا الانصياع لشهوات المكسب وحسابات الخسارة، إلا أنه أصبح هناك ضرورة لمراجعة الموقف من “رجال المال” الذين باتوا يعتقدون أنهم شبكة مصالح ترتقي إلى كونها دولة داخل الدولة.. دولة لا تطالها أيادي العقاب إن أخطأوا، ولا عدالة القانون إن أجرموا، و”من أمن العقاب أساء الأدب”.
علينا أن نراجع أنفسنا، وأن نُعيد تقييم وطنيتهم الزائفة وإنسانيتهم الواهية، وألا نُصدق كل ما يقولون، فالاستغلاليون منهم لا يصدقون القول ولو أقسموا على قبور آبائهم، علينا أن ننزع عن أعيننا غمامة الإعجاب بالأموال في أيديهم ونصم آذاننا عن رنين الذهب في جيوبهم.. حين ذلك، وحين ذلك فقط، سنراهم على حقيقتهم وسنعلم أنهم “شر البرية حالا” أو كما قال الشاعر:
من كان يملك درهمين تعلمت شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهـمه التي في كيسه لرأيته شرُ البــرية حـالا