أحمد رمضان يكتب: رحلة في تاريخ الكوميديا الشعبية.. من إسماعيل يس وحتى الخليل كوميدي.. الضحك في مواجهة الأزمة!
يدخل إسماعيل ياسين من بوابة المتحف، ومعه عبد الفتاح القصري، في مشهد لا يتخطى الـ20 ثانية تقريبا، يجد القصري تماثيل شمع في كل مكان وينظر لأحدهم ويقول لزميله “إيه ده، تمثال محنط؟”، ليرد ياسين: “مُحَنّط عبد الوهاب”. المشهد السابق لـ”ألشة” عمرها نحو 65 عاما، منذ تاريخ صدور فيلم “متحف الشمع” سنة 1955.
تعودنا في أفلام إسماعيل ياسين سماع كثير من «الألشات» غير المشهد السابق، مثل جملته المشهورة في فيلم “ابن حميدو”، عندما كان يتحدث عن تاجرة المخدرات “لاتانية”، فقال “لا تانية ولا تالتة”.
منذ ذلك الوقت، أي خمسينيات القرن الماضي، شهدت الكوميديا صعودًا وهبوطًا، خصوصًا في ما يتعلق بالسينما الكوميدية. السؤال هو: هل توقف الناس عن الضحك؟ أم أن المعروض من الفن الكوميدي لا يفي بالغرض؟ هل المزاج الشعبي العام، الذي يتبدل بسرعة بتغيير أنواع الكوميديا المقدمة، فشل في استيعاب أنواع جديدة؟ ماذا عن “الألش”؟.
متخصصون يعتبرون أن فن النكتة بدء في التراجع في مواجهة مواقع التواصل الاجتماعي وما تقدمه من مواد كوميدية، كالكومكيس مثلا أو مقاطع فيديو مشاهير السوشيال الميديا، أو حتى التعليقات التي تشبه النكت إلى حد كبير، لكنها بِنْتُ واقعها.
المونولوج: عروض للضحك
يعد الفنان إسماعيل ياسين والفنان محمود شكوكو والفنانة ثريا حلمي، أشهر من قدموا المونولوج على المسرح، كانت عروض المونولوج عبارة عن أغنية كلماتها كوميدية ذات إيقاع سريع، تعتمد أيضا على حركة المونولوج والعروض الفنية المرافقة له.
مونولوجات إسماعيل ياسين هي الأشهر والأبرز، على رأسها “هي إيه معنى السعادة”، و”العقلاء” من فيلم “المليونير”، وأيضا “متستعجبش متستغربش”.
لكن هذا النوع من الفن تراجع بشكل ملحوظ للغاية مع دخول الستينيات وظهور المسارح الكوميدية بشكلها الواسع وتعددها، خصوصًا مسرح الدولة الذي ضم عددا من الفنانين الشباب في ذلك الوقت، عادل إمام ويونس شلبي وسعيد صالح، وما قدموه بعد ذلك من مسرحيات كوميدية حازت إعجاب المشاهدين، وأثرت سلبا في شيوع المونولوج.
إلا أن الفترة بين منتصف الستينيات وحتى أواخر الثمانينيات، وإن تراجع فيها المونولوج بشكله التقليدي، أي العروض التي تقدم على المسارح وفي الملاهي الليلية، فإنه عاد للظهور مرة أخرى في شكل جديد: عروض النكت.
النكتة: هيا بنا نضحك
كان الراحل حمادة سلطان رائد ذلك النوع من العروض الكوميدية، خصوصًا مع ظهوره في نهاية الستينيات ومشاركته الدائمة في عروض «أضواء المدينة»، التي كان ينظمها اتحاد الإذاعة والتليفزيون بشكل دوري في عدة محافظات، بمشاركة فنانين ومطربين، بدءا من عبد الحليم حافظ وفريد الأطرش ونجوم المونولوج، حتى مدحت صالح وأنغام وغيرهم.
يعود انطلاق حفلات «أضواء المدينة» إلى منتصف الخمسينيات، لكنها توقفت في صيف 2007، ثم أُعيد إحياؤها من جديد في أغسطس 2017 بمحافظة مطروح، تحت رعاية “تحيا مصر”، الصندوق الحكومي المخصص لجمع التبرعات.
واجه حمادة سلطان أزمة في البداية، هي عدم اعتياد رواد المسرح ذلك النوع من الفن الكوميدي، خصوصًا بعد أن ترك فن المونولوج واتجه إلى المسرح الكوميدي الشبابي، لكن سلطان بموهبته وخفة دمه استطاع أن يحصل على مساحته لدى الجمهور، حتى لقب بـ”صاروخ النكتة”.
مع إعجاب الناس بعروض وحفلات النكت، ظهر نجوم آخرون قدموا الكوميديا على طريقة حمادة سلطان، أشهرهم على الإطلاق عادل الفار ومحمود عزب.
فترة التسعينات حتى أوائل الألفية الجديدة كانت فترة سطوع نجم الفار وعزب، وأصبحوا نجوما دائمين في كل الحفلات الفنية ومسارح «أضواء المدنية»، وانتقلا إلى تقديم برامج تلفزيونية والمشاركة في أعمال فنية سينمائية.
محمود عزب، المعروف بـ”عزب شو” بسبب شهرة برنامجه الكوميدي الساخر الذي انطلق في 1998، وكان عبارة عن تقديم عروضا كوميدية على الهواء، كان الأكثر تأثيرا، وهو من انتقل بعروضه من إلقاء النكت على المسرح إلى التلفزيون، وأشهر برامجه “حكومة شو” و”عزب شو”.
عزب شو: الموضوع كبير
هل توقف الناس عن الضحك؟ يجيب محمود عزب بأن “الأمر مرتبط ارتباط وثيق بالظروف الاقتصادية والاجتماعية الصعبة التي تمر بها مصر خلال الفترة الحالية، وأتصور أن هذا سبب رئيسي في عدم قدرة الناس على الضحك أو التفاعل مع الكوميديا بشكل أو أخر”.
يوضح عزب أن “الكوميديا ترتبط دومًا بالأحداث العامة، باعتبارها فنًّا يأتي من الناس وإلى الناس، وترتبط كذلك بالإعلام وما يصدِّره، وبالأوضاع في البلد عموما، الأمور لا تنفصل أبدا”.
زمن الألش الجميل: “أي كلمتين”
“الألش” هو فن إسقاط الكلمات العادية على غيرها طالما كانت تحمل نفس المنطوق مع اختلاف أحرف قليلة، مثلما قالها إسماعيل ياسين في فيلم متحف الشمع، “محنط عبد الوهاب” على وزن “محمد عبد الوهاب”، وهو فن لا يتطلب خفة دم أو مجهود من صاحبه سوى سرعة البديهة وقليل من الذكاء.
يقول حسن، وهو شاب عشريني مصري: “أواجه الألش عشرات المرات في اليوم الواحد، كل شيء أصبح قابل للألش والسخرية، بدءا من كلمة صباح الخير وحتى تصبح على خير، طالما أنك جيد في الحفظ وذاكرتك حاضرة، تستيطع أن تألش على أي وكل شيء حولك”.
يضيف حسن: “هناك نوعان من الضحك على الألش الذي نسمعه يوميا، الأول ضحك حقيقي عندما نتفاجأ بألشة أو إسقاط لم يكن في الحسبان، كلمة جديدة مثلا أو طريقة إلقاء مختلفة، والثاني يكون من افتقار الألشة ذاتها إلى أي أسباب تؤدي للضحك، أي الضحك من سخافتها”.
التكنولوجيا: هل تغير شكل النكتة؟
يرى حسن الخولي، أستاذ علم الاجتماع في جامعة عين شمس، أن التكنولوجيا سبب رئيسي في تراجع النكتة الشعبية بمفهومها التقليدي، بالإضافة إلى ظهور “الألش” عوضا عنها، خصوصًا أن التكنولوجيا “أسهمت في تفكيك طبيعة وتفاصيل النكتة”.
بحسب الخولي، تعتمد النكتة على عوامل عدة: «سرعة الأداء، وطريقة الإلقاء، بالإضافة إلى التجمع البشري الذي يزيد من كوميديا النكتة، لكن التكنولوجيا أدت إلى عكس ذلك تماما، بسبب عدم التزام منتجي الكومكس مثلا أو مقاطع الفيديو بهذه التفاصيل”.
استعمل المصريون النكتة في كل شيء، كما هو معروف منذ عقود طويلة، في مواجهة الاستعمار والاستبداد والفقر والقمع، استغل المصري النكتة وطوّعها كما يريد، حتى تفرّد وحده بالسخرية على نفسه وواقعه، وهو ما يؤكده أستاذ علم الاجتماع.
المصريون وخفة الدم: عرض مستمر
الفتاة التونسية أنيسة تقول إن الكوميديا المصرية متغلغلة في الثقافة العربية والشمال إفريقية، وبخاصة التونسية، نتيجة تصدُّرها وقوتها: “المصريون معروفون بخفة دمهم وكوميديتهم، سواء كانوا يحكون نكاتًا أو ألشات مصرية لا يفهمها غيرهم، لكنك ستعرف المصري وسط مجموعة من العرب من خفة دمه وحضوره”.
تغير شكل الكوميديا الشعبية في مصر بقوة، وربما تكون الحالة المزاجية والاقتصادية سببًا في ذلك التغيير أو التطوير. وربما تغير شكل النكتة وطريقة إلقائها، لكن الفكرة لا تزال موجودة.
ولازال الناس يضحكون ويخترعون ويبدعون أدواتهم التي تساعدهم على الضحك، في مواجهة كل الظروف التي تستهدف سعادة الناس وبحثهم عن الضحكة.
النكتة في مواجهة الأزمة
يربط الدكتور عبدالوهاب الروحاني، الباحث ووزير الثقافة اليمني، في دراسة أعدها لصالح مركز “الوحدة” للدراسات في صنعاء، ويعود تاريخ صدورها إلى مارس 2015، بين الأزمات وقدرة الناس على إنتاج النكتة، ضاربنا المثال بالشعب المصري الذي وصفه بـ”أكثر الشعوب العربية إنتاجا للنكتة”.
ويقول الروحاني: “عندما تشتد أوجاع الناس وتطحنهم الأزمات يهربون عادة إلى نسج النكات وإنتاج القصص الطريفة التي تضحكهم وتخفف من معاناتهم وتروح عنهم من قسوة وبطش هذه الأزمات والمتاعب التي يواجهونها”.
الأزمات السياسية والقمع والاستبداد وغياب مساحات العمل السياسي، مادة خصبة للنكتة الشعبية وانتشارها، إلا أن التطور الزمني قد يغير أدوات إبداع وصناعة النكتة، ومثلما كان الحال حتى التسعينيات، عروض مباشرة للمونولوج، أصبحنا أمام جيل جديد من الكوميديا.
الخليل كوميدي.. لماذا نضحك؟
في حساب على “فيسبوك”، يضم عشرات الآلاف من المتابعين، يطل الخليل كوميدي “أصل الضحكة في مصر” – كما يعرف نفسه – بفيديوهات وتدوينات تحمل “ألش”، يتفاعل الناس مع ما يقدمه الخليل، إما بالضحك أو السخرية، المهم أن الجميع يتفاعل.
يكتب بلال فضل عن الخليل كوميدي فيقول: “ليس من السهل أن ترتقي في مدارج السالكين، فتعرف قدر فيديوهات الخليل كوميدي بسهولة، وتلتقط رسائله الخفية التي ربما ظننت أنه يخاطب بها أكواناً أخرى، وأجيالاً قادمة، لكنك ربما وجدت نفسك بسهولة، وقد أدمنت فيديوهاته، كما فعل صديق أصبح يعتبرها وسيلة علاج نفسي مجاني، تذكّره بأنه لا يزال بخير، مهما تدهور به الحال”.
ويتحدث هنا فضل عن نوع جديد من الكوميديا وجد طريقه لدى الناس، كوميديا يقدمها الخليل، تحمل ما أسماه في باقي مقاله المنشور على موقع “العربي الجديد”، شيء من “الغتاتة”.
وارتباط الخليل كوميدي ومحتواه بـ”الغتاتة”، جعل من السهولة استخدام نفس الوصف مع المحتوى الذي يقدمه الخليل حتى وإن كان على يد آخرين، وبين “الغتاتة” و”الألش”، ظل النوع الجديد من الكوميديا، والخاص بالمصطلحات الشعبية وإطلاقها على كل ما يحدث حولك، أمر مستساغ بين الناس.
كوميديا الـ”فيسبوك”.. في المنتصف بين “الغتاتة” والضحك!
استطاع الخليل كوميدي أن يخرج بتجربته من فضاء الفيسبوك إلى التلفزيون، والتي وصلت حد الظهور في مسلسلات تلفزيونية، كما حدث في مسلسل “ريح المدام”، والذي يظهر في مقطع لا يزيد عن 4 دقائق، ويطالبه بطل المسلسل بـ”أن يقول نكتة حلوة”.
ولكن في الوقت نفسه، ظهرت صفحات ومنابر مختلفة تقدم الكوميديا، تشبه الخليل كوميدي في الفكرة، ولكن قد تختلف في المحتوى المقدم، ليست نكتة ولا ألشة ولا “غتاتة”، أهمها وأشهرها صفحة “الورقة- مع إسلام جاويش”، الشاب الذي يقدم اسكتشات كوميدية على ورقة مصحوبة برسومات ما.
وأيضا ظهرت كوميديا الـ”الكوميك”، وهو عبارة عن تعليقات ساخرة على صور للأفلام، أو حتى جمل تحمل نفس وزن أو فكرة الإفيه في الفيلم نفسه، ولاقت هذه النوعية من الكوميديا رواجا كبيرا.
وفي النهاية، نعم تغير شكل الكوميديا على مدار العقود الماضية، ولكن الأكيد أن الناس أبدعت في استغلال هذا النوع من الفن، في مواجهة أزماتهم ومشاكلهم اليومية والاجتماعية.