أحمد النجار يكتب: الموازنة العامة للدولة كاشفة للأولويات وتعملق الديون
الموازنة العامة للدولة في أي بلد هي تجسيد للأولويات الاقتصادية والاجتماعية للنظام السياسي الحاكم وتعبير عن مستوى كفاءة الحكومة في إدارة المالية العامة للدولة وإيجاد المخارج لأزماتها. وبمناسبة بدء العمل بالموازنة العامة الجديدة للدولة المصرية عن عام 2023/2024 هناك بعض الملاحظات والدلالات المهمة لما تضمنه المشروع النهائي للموازنة الذي تغير كثيرا عن المشروع الأولى بالذات فيما يتعلق بالإنفاق العام على التعليم والصحة والتوقعات بشأن زيادة الصادرات. وكان المشروع الأولي يتوقع زيادة الصادرات السلعية من 44 مليار دولار عام 2021/2022، إلى 100 مليار دولار بحلول عام 2025، وهي تقديرات غير واقعية كليا، لكن أحد ما أكثر عقلا عدلها في المشروع النهائي ليصبح تحقيق هذا الهدف في عام 2030! على أي حال فإن المهم هو المشروع النهائي للموازنة العامة للدولة وهو ما سنحاول عرض وتحليل بعض جوانبه.
المستويات الأدنى للإنفاق العام على الصحة والتعليم كنسبة من الناتج
يشير مشروع الموازنة إلى أن الناتج المحلي الإجمالي سوف يبلغ 11841 مليار جنيه. وسوف يتم تخصيص نحو 230 مليار جنيه للإنفاق العام على التعليم الجامعي وقبل الجامعي (صـ123)، بما يعادل 1,9% فقط من الناتج المحلي الإجمالي وهي واحدة من أدنى نسب الإنفاق على التعليم في تاريخ مصر الحديث إن لم تكن الأدنى، علما بأن الدستور المصري الحالي يلزم الحكومة بتخصيص 6% من الناتج القومي الإجمالي على الأقل للإنفاق العام على التعليم الجامعي وقبل الجامعي. أي أن مخصصات الإنفاق على التعليم والبحث العلمي في موازنة عام 2023/2024 تقل عن 32% من النسبة التي يفرضها الدستور على الحكومة!! لكن الحكومة المصرية وخلافا للمتعارف عليه في المالية العامة نظريا وتطبيقيا في كل بلدان العالم بما فيها مصر نفسها، أضافت ما تسميه حصة قطاع التعليم من سداد القروض القديمة وفوائدها فأصبح الإنفاق العام على التعليم الجامعي وقبل الجامعي نحو 592 مليار جنيه (صـ56). وحتى هذا الرقم يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي، وليس 6% كما ينص الدستور!
أما الإنفاق على البحث العلمي بكل ما تم تحميله عليه فقد بلغ نحو 100 مليار جنيه تعادل 0,9% من الناتج المحلي الإجمالي بما جعله قريبا من النسبة التي حددها الدستور بـ 1%، لكن غالبيته الساحقة تذهب للإنفاق على الهيكل الإداري والأجور وليس على العلماء وتمويل الأبحاث.
وهذا المستوى من الإنفاق على التعليم والبحث العلمي يعكس تأخر ترتيبهما في جدول أولويات الحكومة التي لم تلتزم بالدستور في هذا الشأن. ولأن الاندماج في الوسط العلمي العالمي يتطلب أن يكون لديك ما تتبادله مع الآخرين، فإن مستوى الإنفاق على البحث العلمي، يعني أننا سنظل على الهامش ننتظر ما يتاح لنا من نتائج الإنجازات العلمية للآخرين، ومن التقنيات المبنية عليها، ولن نحصل بالتأكيد سوى على تقنيات الدرجة الثانية أو الثالثة طالما لا نملك تقنيات حديثة نتبادلها معهم. ولأن الشئ بالشئ يذكر فإن الكيان الصهيوني الذي نشأ بالاغتصاب ويستمر بالعدوان والذي يتلقى أحدث التقنيات من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا الغربية، لا يكتفي بذلك بل يخصص نسبة تتراوح دائما بين 4%، و 5% من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على البحث العلمي وحده، وهو ما مكنه من تحقيق إنجازات علمية وتقنية مدنية وعسكرية أهلته لأن يصبح مصدرا للسلع عالية التقنية ولبعض أنواع الأسلحة المتقدمة، بينما تنفق الدول العربية في مجموعها أقل من 0,2% من ناتجها المحلي الإجمالي على البحث والتطوير العلميين وكأنها تعادي العلم وأهله، أو في أفضل التفسيرات لا تهتم ببناء قاعدة محلية للتطور العلمي والتقني وتفضل الاستمرار في التبعية للخارج في هذا الشأن!!
وفي ظل هذا الوضع لا تنتظروا تطورا حقيقيا في التعليم أو البحث العلمي، بل مجرد السير بقوة الدفع الذاتي عند مستوى منخفض الكفاءة وتابع للخارج في المجال التقني بسبب ضعف التمويل بكل ما يترتب على ذلك من ظواهر مرضية في قطاعي التعليم والبحث العلمي.
أما الإنفاق العام على الصحة فسوف يبلغ 148 مليار جنيه (صفحة 123 من مشروع الموازنة) تعادل نحو 1,3% من الناتج المحلي الإجمالي في العام المالي 2023/2024 وفقا للتصنيف الوظيفي لمصروفات الموازنة وفقا لأنشطة الدولة، أي أن الإنفاق العام على الصحة نحو 43% من النسبة التي يحددها الدستور لهذا الإنفاق والبالغة 3% من الناتج.
لكن الحكومة وخلافا للعلم والمنطق وتقاليد إعداد الموازنة قبل العهد الحالي، أضافت مصروفات الصرف الصحي وحصة من سداد الديون والفوائد لمخصصات الإنفاق العام على الصحة!! وهذا الأمر غير العلمي والذي يتنافي مع القواعد النظرية والتطبيقية للمالية العامة، رفع رقم الإنفاق العام على الصحة بشكل مفتعل في موضع آخر من مشروع الموازنة (صـ 56) إلى 397 مليار جنيه بما يعادل 3,4% من الناتج المحلي الإجمالي مرتفعا عن الحد الأدنى الذي تضمنه الدستور والذي يلزم الحكومة بتخصيص 3% من الناتج المحلي الإجمالي على الأقل للإنفاق العام على الصحة.
الأجور الحقيقية تتراجع بسبب التضخم
يشير مشروع الموازنة العامة للدولة للعام المالي 2023/2024 إلى أن مخصصات الأجور وما في حكمها للعاملين بالدولة ستبلغ 470 مليار جنيه بزيادة 14,6% عن مخصصات العام المالي السابق، لكن التقديرات الرسمية للتضخم في عام 2023 والمنشورة في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الذي ينشره صندوق النقد الدولي تشير إلى أن معدل التضخم سوف يبلغ 21,6% عام 2023، وهو تقدير منخفض ومتواضع بالنسبة للغلاء الحقيقي. لكن حتى لو أخذنا به، فإنه يعني أن متوسط الأجر الحقيقي (قدرة الأجر النقدي على شراء السلع والخدمات) للعاملين بالدولة سوف ينخفض بنسبة 7% على الأقل.
الخصخصة للأجانب ليست استثمارا حقيقيا أو جديدا
أشار مشروع الموازنة إلى تحقيق أعلى حصيلة للاستثمار الأجنبي المباشر بلغت 9 مليارات دولار في العام المالي الماضي، وهو زهو في غير محله لأن ذلك الرقم يتكون بالأساس من حصيلة بيع الأصول العامة للأجانب وبخاصة للسعودية والإمارات، يعني بلاء وليس ميزة، وهي مجرد عمليات استحواذ أجنبية على أصول قائمة، ونسميها استثمارات أجنبية زائفة وليست عمليات استثمارية حقيقية تنشئ أصولاً جديدة. والاستثمارات الأجنبية الحقيقية التي تنشئ الأصول الجديدة ما زالت محدودة كما كانت، وعلى الوزارة أن تفرق بين حجم عمليات الاستحواذ الأجنبية على الأصول العامة، وحجم الاستثمارات الأجنبية التي أضافت أصولا جديدة للاقتصاد المصري حتى تتضح الصورة وتبلع زهوها غير المنطقي.
ويشير مشروع الموازنة إلى أن إصدار وثيقة سياسة ملكية الدولة وهي برنامج هائل لخصخصة ما تبقى من ملكيات الدولة في العديد من القطاعات، يفتح آفاقا جديدة لجذب استثمارات أجنبية مباشرة. والاستثمارات الأجنبية من هذا النوع هي مجرد عمليات استحواذ لا تضيف شيئا للاقتصاد بل تسلب جزءًا من الملكيات العامة لصالح الأجانب، وسوف يترتب عليها نزيف دائم للعملات الأجنبية من الداخل إلى الخارج لتحويل أرباح الأصول التي يتم بيعها للأجانب إلى بلدانهم الأصلية، يعني بلاء جديد وطويل الأجل!
تعملق الديون الداخلية والخارجية
أما الختام فهو الصورة القاتمة لحجم الدين العام المحلي الذي أوضحه مشروع الموازنة العامة للدولة للعام 2023/2024، حيث يشير إلى أن هذا الدين سوف يبلغ 70,2% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2023/2024، أي نحو 8312 مليار جنيه، علما بأن هذا الدين كان قد بلغ 1816 مليار جنيه منتصف عام 2014!! أما الدين العام الخارجي فقد بلغت قيمته 162,9 مليار دولار في بداية يناير من العام الحالي 2023، علما بأنه كان قد بلغ نحو 46,1 مليار دولار في منتصف عام 2014 عندما تولي الرئيس عبد الفتاح السيسي منصب الرئاسة!
وفي ظل تعملق الديون الداخلية والخارجية بصورة مكبلة للاقتصاد المصري وللحكومات والأجيال القادمة، قدر مشروع الموازنة العامة للدولة قيمة مدفوعات الفائدة عن الديون المحلية للعام المالي 2023/2024 بنحو 968 مليار جنيه. كما قدر مدفوعات الفائدة عن الديون الخارجية بما يعادل 152 مليار جنيه، بما مجموعه 1120 مليار جنيه.
ويضاف لمدفوعات الفائدة، مدفوعات هائلة أخرى هي مدفوعات سداد أقساط الدين العام المحلي والتي ستبلغ 1017 مليار جنيه في العام المالي 2023/2024 وفقا لمشروع الموازنة. ويضاف إليها أقساط سداد الدين العام الخارجي والتي ستبلغ نحو 299 مليار جنيه، ويمكن أن تزيد لو تعرض الجنيه المصري لأي انخفاض جديد في سعر صرفه مقابل الدولار. وبذلك تبلغ جملة سداد أقساد الديون الداخلية والخارجية نحو 1316 مليار جنيه. أما إجمالي مخصصات سداد فوائد وأقساط تلك الديون الداخلية والخارجية فيبلغ نحو 2436 مليار جنيه في موازنة عام 2023/2024. وهذه المدفوعات الهائلة لفوائد وأقساط الديون المحلية والخارجية تستنزف الإيرادات العامة وتشكل عاملا مهما في استمرار توليد وديمومة العجز في الموازنة العامة للدولة المصرية والاحتياج للمزيد من الاستدانة من الخارج بكل شروطها الاقتصادية والسياسية السلبية.
والمشكلة تكمن في أن النظام الحاكم مصر على المضي قدما في نفس السياسيات التي أوقعت مصر في أزمات الديون الداخلية والخارجية والغلاء وتزايد الفقر وأزمة الدولار وتراجع الجنيه أمامه، ناسيا أن إعادة إنتاج نفس السياسات وتوقع نتائج مختلفة هو أمر بعيد كليا عن الذكاء في إدارة الاقتصاد!