محمد رفاعى يكتب عن حالة انسانية ثقافية: مهدى الحسينى.. “مدرسة السامر” قراءة في كتاب أحمد خميس “سيرة مسرحية”

كتاب الناقد والمسرحى “أحمد خميس” الصادر حديثا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب “سيرة مسرحية”، هو حوار طويل امتد  قرابة عشر سنوات مع  حالة ثقافية وإنسانية اسمها “مهدى الحسينى” لا قت من التهميش والعنت والمنع مع التواصل مع الناس ، ومنع أفكاره وتجاربه . وكانت له رؤى فنية وثقافية نحو الفنون الشعبية والموسيقى والمسرح  ومحاولاته فى تقديم ونقل  خبراته فى الأماكن التى أتيح العمل فيها وسط  الطبقات الشعبية.

 مسرح  السامر هو ذلك المكان الموجود على شاطى نيل العجوزة الذى كان يوما ما مسرحاً عامراً بكل الفنون والسير الشعبيبة وأرتبط بتقاليد الألعاب المسرحية الشعبية المعبرة  عن التنوع الثقافى فى  أقاليم مصر. وكان أبرز  نجومه ـ  الفلكلورى النادر زكريا الحجاوى ومكتشف عدد من المداحين والفنانين الشعبيين  وأُطُلقّ اسمه فترة محدودة  على مسرح السامر ـ  والمخرج عبد الرحمن الشافعى الذى يقدره الحسينى، وترك تأثيرا عليه إذ  يقول:”بنيت فوق مابنى وأنشأت فوق ما أنشأ” وكان من الممكن أن يكون لهذا المسرح مدرسة لها كيان وكذلك الهيئة التى تديره وهى الثقافة الجماهيرية وكانت ذات يوم مدرسة وبل جامعة شعبية لها كيان ومنهج.

  الكتاب سيرة ذاتية مسرحية ، شهادة على زمنه ، ولد “مهدى الحسينى” عام 1940 ،وعاش زمن شبه لبيرالى أيام الأحتلال والملكية مروراً  بزمن المشروع القومى  الناصرى ،فيه تمدّد دور الدولة الخدمى والثقافى إلى زمن الأنفتاح وتبعاته،تقلصت فيه الخدمات والضروريات وصارت لها أسعاراً لا يقدر عليها الكثيرين.

    يكشف الحوار الطويل عن الوجه الحقيقى للفنان والناقد مهدى الحسينى ، يديره كاتب متمرس  يعرف منهجه ومبتغاه، وراسماً صورة بانورامية للوضع الثقافى والفنى فى مصر أقاليمها، وكانت أغلب تجاربه فى  مسرح الثقافة الجماهيرية . وكما هو المعروف عن ذلك المسرح ولمن يملك الرأى والمعرفة . أن المخرج لايتعامل مع فرقة محترفة يتعامل مع الهواه  من الفلاحين أو عمال أو الحرفيين أو الصيادين أو الطلبة .يقوم يتجميعهم وإختيارهم ويتدريبهم ،أى يفجر طاقاتهم الإبداعية ويتعايش معهم ويوجد كياناً من لا شىء ويكون قادرة على الاستمرار وقادر على إكتشاف مواهب حديدة.

    فى الواقع مهمة الثقافة الجماهيرية الأساسية والجوهرية هى إكتشاف كافة الطاقات الإبداعية والفنية فى كل المجالات وكل الأعمار.

      تفتح وعى مهدى الحسينى مبكراً بإنتمائه إلى تيارات فكرية محملة بنقد الواقع الإحتماعى والسياسى ونقد الإبداع الفنى والأدبى والمسرحى ، من خلال مشاهداته وقراءته للمسرح استطاع الولوج إلى رحاب المسرح ، منذ إلتحاقه بمعهد الفنون المسرحية عام 1958 وكانت اللجنة التى أختبرته تضم عدد من أساطين النقد والثقافة والمسرح وهم: محمد مندور الناقد والمفكر السياسى ،ودرينى خشبة المترجم والمثقف المرموق ، ومصمم الديكورات لويس مليكة وكامل يوسف وعبد الرحمن صدقى ومحمد كامل حسين.

  ويدين “الحسينى” بالفضل لعدد من الأساتذة  فى مقدمتهم : محمد مندور الفنان الذى ربط الفن بالسياسة  وفخرى قسطندى المعلم القبطى الذى يحفظ القرآن الكريم الذى نمى الحس الإنسانى بجانب الحس النقدى عن طريق  إدراك المقارنة الكامنة فى الدراما ،ورشدى صالح عالم الفلكلور الذى يلقى أفكاره بحكمة وبساطة و يدرك اعماقها المقصودة فى التو ، والفنان الكبير محمود مرسى صاحب اللقاءات الإنسانية والثقافية الذى يتمتع بسعة الآفق ودفء الحوار المتبادل بسماحة وندّية ، ونعمان عاشور الذى درس له حرفية التأليف المسرحى بشخصيته البسيطة الأنسانية التى تجذب إليه الطلاب.

 تخرج الحسينى من المعهد عام 1968، وكان قد تعرض للإعتقال أستمر أربع سنوات قضى معظمها قى الواحات وهى فترة شكّلت وعيّه السياسى والثقافى حيث سجن معه عدد من الكتاب والنقاد منهم: الفريد فرج ومحمود أمين العالم وصلاح حافظ وحسن فؤاد وغيرهم . وانشأوا مسرحا وقدموا عدداً من العروض الناجحة.

   بدأت علاقة مهدى الحسينى بمسرخ الثقافة الجماهيرية من خلال مشاركته فى لجان المتابعة والندوات ولجان التحكيم واختيار النصوص والعروض التى تشارك فى المهرجانات ، ولقد اشترك فى أكثر من خمسين ندوة فى مسرح السامر عام 1984 فى مهرجان مائة ليلة.

اختصر”الحسينى” تجربة المخرج فى الثقافة الجماهيرية فى أن المسالة ليست مجرد اختيار نص وإجراء البروفات وانجاز عرض مسرحى إنما فى اختيار وتدريب أعضاء الفرقة المسرحية وتهيئة البيئة الفنية المناسبة للعرض المسرحى.

    بدأ الإخراج للمسرح عام 1986 لفرقة سوهاج بنص “منين اجيب ناس” للشاعر نجيب سرور.والمعرف أن مخرجى مسرح الثقافة الجماهيرية  المتعاملين مع موظفى الهيئة ،بعض العاملين و الرواد همهم الأول إفشال أى تجربة مسرحية وفنية باعتبار أن “المسرح وجع دماغ على الفاضى” وبعض الموظفين والرواد لديهم من الجدية والحماس لإنجاح أى تجربة خلفها مخرج جاد وموهوب ،أن تجربة الحسينى الأولى فى سوهاج أستمرت 6 شهور من المعايشة مع الفرقة وأختيار العناصر الجديدة والبحث عن العنصر النسائى ،وتركها بعد نجاح العرص وترك خلفه فرقة مسرحية من عناصر موهوبة وعدد من الموظفين المؤهلين لإدارة العمل المسرحى.

  أخرج  الحسينى عملاً واحداً  فى القاهرة ، لفرقة السامر أو الفرقة المركزية  وتتغير المسمى لنفس الفرقة وهى تابعة للثقافة الجماهيرية، وقام الحسينى بإعداد عرض “يعقوب صنوع ” من خلال نصوصه وكتابات نقدية  عنه مثل : كتاب عن يعقوب صنوع من تأليف نجوى عرنوس ،وبعض الكتابات المتناثرة عنه وعن مسرحه وهى عادة ومنهج لمهدى الحسينى إذ يبحث على رؤية متكاملة فيعيد تقديم وخذف بعض المشاهد أو تقديمها وتأخيرها .ولم يعتمد على هذا العرض من أعضاء فرقة المركزية وأغلبهم من الفنانين المحترفيين  وكانت البطولة  فرقة مسرح الطليعة .

   تمتع “الحسينى “بطافة مسرحية نادرة إلى جانب سعيه إلى المعرفة والإلمام برؤية وعرفية  شاملة الموضوع الذى يرغب فى عمله على الخشبة، وكانت أحد أحلامه الكتابة المسرحية ، وكانت بنيته الثقافية منتمية إلى الثقافة الشعبية وهى ثقافة واسعة وعميقة، وهذا النوع من الكتابة نشطت على يد نجيب سرور، وشوقى عبد الحكيم  رغم الإختلافات الفكرية بينهما وصرعاتهما الشكلية والجمالية والتجريبية وموضعاتهما الكثيرة ، ولكل حلم  الإبداع المسرحى للحسينى لم يتحقق حتى رحيله، سعى وسافر إلى قرى ومدن مصر للحصول على الوثائق والشهادات والمعرفة بالشخصيات الشعبية التى عزم على  كتابتها مثل : أدهم الشرقاوى، وياسين وبهية وكان يرى فى مسألة استلهام النصوص المسرحية من التراث العالمى والأساطير ودمجها لتكون جزء من التراث المصرى ،ويكون غالبا غير مكتمل وسطحى،إن الإستلهام يجب أن يتم بهضم كامل وتام للمادة التراثية وللأساطير،بحيث لاتظهر أو تشف فى النصوص الجديدة ، وكان يرى بشكل صريح قد يغضب بعض المؤلفين مثل: الفريد فرج ورأفت الدويرى ، ويرى النصوص يشف منها المصادر اليونانية والأغريقية ، وكان يرى أن جوهر الوعى اليونانى يسير فى إتجاه مضاد الوعى المصرى، وكتب “الحسينى” فى النشرة المصاحبة لمهرجان 100 ليلة مسرحية، ان العلاقة بين الحضارة المصرية والحضارة اليونانية هى علاقة الأبنة بالأم بإن الأبنة لا تشبه الأولى.

    مهدى الحسينى يقدر التراث والفنون الشعبية من المنشدين والمؤديين الشعبيبن وتعلم منه ،وخاصة الذين يدّركون قيمة  ثقافتهم وعمقها، وكان يوّد استمرار هذه الفنون وتنميتها فى بيئاتها الطبيعية بإقامة المدارس والمعاهد الفنية لصوّن التراث الثمين ، ولكن الأمور تدهورت، وكأن المؤسسات تخلى المجال لثقافة المستعمر. وكان “الحسينى” يقدم حلولاً لاستمرار الفنون الشعبيبة للحفاظ على الهوية المصرية.

      تنبه الحسينى إلى قانون الجمعيات الأهلية وفكر فى تأسيس جمعية أهلية لتنشىء مسرحا حرا ومستقلا ، وكان المسرح المصرى بعد تجارب متعددة منذ العشرينيات القرن الماضى إلى منتصف الخمسينيات التى تحكمت الدولة فى المسرح ثم هيمنت المسرح التجارى ثم جاءت حقبة المسرح التجريبى الذى اتجه إلى تغريب فنون العرض المسرحى . وكان الحسينى صاحب رأى حول هذا المسرح وغيره.

  كان مهدى الحسينى مؤمناً بأهمية العمل الثقافى القادر على التنمية البشرية الشاملة والمستدامة، فلم يكتفى بالعناصر المسرحية الموهوبة والهاوية ليقوم بتدريبهم على مهارات العرض المسرحى،بل تعدى إلى مناحى ثقافية متعددة ومتباينة، منها تنظيمه لورشة أطفال الموهوبين  من  مدارس التربية والتعليم فى دير مواس فى المنيا فى الصعيد مصر،وكان موضوعها عن  ذكرى أحداث البلد أثناء ثورة 1919 ،وتشجيعه لمدرسة موسيقى تقوم بتدريب وتعليم الموسيقى للأطفال  فى إحدى المدارس تحت سلم صغير بجوار دورة مياه، وبعد إغلاق الجماعات المتطرفة والمعادية للفنون قاعات الرسم والموسيقى والمعمل فى هذه المدرسة. وكأن المؤسسة التعليمية والثقافية تفقد الدوروالرسالة.

ومن أحلامه التى لم تتحقق ، حلمه فى تجميل أحد القرى فى الصعيد بالرسم على جدارنها وكنس شوارعها وتنظيف دروبها ، وكان حلمه لا يتعدى ثلاثة ألاف جنيها هى تكاليف شراء الدهانات والألوان وأدوات الرسم ومصاريف الانتقال ومكافاة رمزية للأطفال ومدرس الرسم ، وفشل هذه التجربة راجع إلى أن بعض الموظفين الذين صوروا الأمر لرئيس الأقليم الثقافى بأن  التكاليف تتعدى ثلاثون ألف جنيه.

  سعى لتكوين لفرقة فنون شعبيبة مكونة من أب وأبنه وبنته وقدم ليلة فى بيت الثقافة والفلاحون يستعدون للفرجة على التلفزيون أو النوم  مبكرين ، ثم انتقل بالفرقة إلى أحد المقاهى الشعبية وكان يحلم أن يطرد الفن الشعبى جهاز التليفزيون المسيطر على الناس فى المقاهى والبيوت.، كما شارك فى تأسيس كورال الطليعة مع صديقه الملحن عبد العظيم عويضة ومكون من شباب متحمس من معهد الموسيقى العربية وكلية التربية الموسيقية بالزمالك ،ولقد قدم عددا من العروض فى  بعض النقابات المهنية وكان آخر عروضه فى المسرح القومى لمناصرة القضية الفلسطينية.

إن المؤمن برسالة الثقافة صانعة الوعى والتنمية والذى يملك الرؤية والخبرة والكفاءة لا يحتاج الى أموال ليفعل  قصور وبيوت الثقافة وجعلها بيئات منتجة للفن وللجمال وللبهجة.

    يلقى الكتاب الضوء على الحسينى الناقد المسرحى ، وقد دوام على نشر مقالاته فى دوريات ثقافية متخصصة ،ولاحظ منذ السبعينيات وقبلها ، أن جهات سياسية سرية محسوبة على السلطة  تتدخل فى ضمير النقد وعملية النشر، ولاحظ من ناقد بعينه كتب هجموما على عرض مسرحية لصلاح عبد الصبور، وبعد اسبوع واحد كتب مقالا يمجد العرض المسرحى، ودلل الحسينى على ما كتبه نجيب سرور فى كتابه “حوار فى المسرح” وسخر من الذين لايؤمنون برسالة المسرح ولا بحق المجتمع على المبدعين.

   مع تراجع حركة النقد فى السبعينيات ، وخاصة النقد المسرحى بعد إن توقفت مجلة المسرح مرات كتب يقول:”إنهم يخشون الفن المسرحى  الحقيقى ، كما يخشون النقد الذى يملك القدرة على المواجهة والتوجيه ” . وداوم الحسينى على نشر مقال شبه شهرى فى مجلة الهلال العريقة  أيام الكاتب مصطفى نبيل.

يشيد “الحسينى” بعدد من التجارب النوعية التى تمت فى مسرح الثقافة الجماهيرية ويشيد بأصحابها وخاصة تجارب هناء عبد الفتاح ، وعبد العزيز مخيمون وتجربة الراحل “بهاء الميرعنى” الذى راح ضحية حريق مسرح بنى سويف وكان طاقة مسرحية فى التأليف والإخراج والتمثيل والنقد ومنشط مسرحى وعضو فى لجان المتابعة ، وخبير فى الإدارة الفنية والمالية ، وكانت هناك فرقاً مسرحية لا تملك دور للعرض ولا تملك من الأجهزة الصوت والاضاءة ـ  مازالت هذه العقبات قائمة ـ وتجارب لتفعيل مسرحة الأماكن المفتوحة والساحات الشعبيبة وهو جوهر الثقافة الجماهيرية وروحها.

 الكتاب يحوى على العديد من الافكار والمشاريع الثقافية التى تفيد الكاتب والمسرحى والناشط الثقافى المهموم بقضية الثقافة الجماهيرية وأوجاعها.

مهدى الحسينى صاحب رأى وفكر مستقل مبنى على محبته للوطن ورغبته فى تأكيد الهوية الثقافية تليق بمصر وحضارتها. التحية للكاتب أحمد خميس وصبره على إدارة الحوار الهادف والدقيق.

أرجوا أن يتحمس أحد الأصدقاء  أو الباحثين لجمع وانقاد تراث ومقالات مهدى الحسينى المتناثرة فى بطون الدوريات الثقافية.     

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *