مجدي عبد الحميد يكتب “اللعبة” قصة قصيرة (إبداعات)

مهما طال به الزمن لا يستطيع أن يفارقها، و كيف وهي ملازمة له منذ ان وعي علي الدنيا، منذ ان ادرك و عرف اللعب والألعاب.

هي اللعبة الوحيدة التي استعصت عليه منذ الصغر و لم يستطع حل ألغازها حتي الان، وربما يسألني سائل و لماذا لم يستشر احد أو يطلب المساعدة لفك طلاسمها، الم يكن ذلك الخيار متاحا له طوال تلك السنوات الطويلة ؟

و رغم بداهة السؤال و بساطته إلا أنه للاسف صعب بل مستحيل تقريبا، ذلك ان هذه اللعبة بالذات مصممة بحيث ان الوصول الي فك طلاسمها يعتمد علي اللاعب فقط دون سواه، وكل لاعب له أسئلته الخاصة به هو وحده و تنتقل به اجابة السؤال الي ما يليه من أسئلة و في حالة العجز عن الإجابة تتعقد اللعبة و غالبا ما تعود بصاحبها الي نقطة البداية ليعاود اللعب من جديد.

و هكذا استمر الحال، كل مرة كان يحاول فيها الاقتراب منها إما أن يصيبه الزهق أو تتعقد منه اللعبة فيجد نفسه مطالبًا بأن يبدأ من جديد أو أن ينشغل عنها بأشياء أخري غالبًا ما كان يعتقد بأنها أكثر أهمية فينحيها جانبًا و ينساها تمامًا لفترات تطول أو تقصر الي ان تقع عليها عينيه صدفة وهو يفتش عن أشياء أخري أو يتذكرها فجأة و يشعر بالحنين اليها او عندما تقابله مشاكل كبري فيلجأ اليها لقناعة عميقة بداخله ان قدرته علي التعامل مع تلك المشاكل ستزداد و تتحسن كثيرا اذا ما استطاع حل الغاز تلك اللعبة شديدة التعقيد أولًا.

و رغم انه استطاع علي مدي سنوات عمره الطويلة ان يتعامل مع المئات، بل قل الآلاف من الألعاب التي كان يفككها ثم يعيد تركيبها بدرجة عالية من المهارة والتجويد في فنون اللعبة نفسها، و رغم نجاحه في مساعدة الكثيرين من اللاعبين و تقديم المشورة حول كيفية التعامل مع ألعابهم، البسيطة منها والمركبة و حتي شديدة التعقيد، الا انه عجز عن فهم قواعد لعبته، ذلك العجز الذي كان يصيبه احيانا كثيرة بالحنق والغضب الشديد منها لانها اللعبة الوحيدة التي كان كلما اقترب منها و حاول معها و مني بالفشل، تجسد له ضعفه أمام نفسه، ذلك الضعف الذي كان يداريه طول الوقت عن عيون الآخرين بمظاهر القوة والإرادة والقدرة علي تحدي الصعاب، كل الصعاب مهما بلغت شدتها، فكان احيانا يجلس أمامها حائرا يحدثها بصوت مرتفع وكأنها شاخصة أمام عينيه و احيانا كان ينتابه شعور غامض بانها ليست لعبة وإنما هي كائن به مَس من الجن، تحاوره بل و تخدعه احيانا  بان تأخذه بشكل قصدي في طريق مسدود، حتي انه كان يلقي بها علي طول ذراعه و يخاطبها كالمجنون، لا اريد ان اراك ثانية، أنت سبب شقائي في الحياة، انت الوحيدة التي اقف عاجز أمامها.

و رغم ذلك دائما ما كان يعاود البحث عنها و لا يهنأ له بال الا عندما يجدها، حتي لو لم يحاول معها، لكن مجرد وجودها معه كان يشعره دائما بالطمأنينة و يعطيه الامل من جديد في انه سينجح يوما في فك شفرتها، حتي لو كان ذلك اليوم هو اخر يوم في حياته.

والحقيقة التي أسر بها لي يوما و لا يعلمها احد سواه هي حرصه الشديد طول الوقت علي ان يصطحبها معه أينما حل، حيث كان يشعر بالخوف الشديد حتي الفزع والرعب من ان يفقدها مرة الي الابد و تنتهي حياته يوما دون ان يعرف كنهها و حقيقتها.

في الآونة الأخيرة و مع تعرضه لعدد من المشاكل والأزمات المتلاحقة و كما هي عادته في مثل هذه الظروف وجد نفسه يبحث عنها بشكل ملح، و ما ان وجدها حتي شعر بالارتياح قليلا و امعن النظر اليها ثم خطرت له فكرة، لماذا لا يأخذها و يبعد بها عن كل المؤثرات المحيطة بهما و ينفرد بها لمدة كافية

ريثما يستطيع هذه المرة ان يصل معها الي تفاهمات تساعدهما في فك رموزها ؟

و ما كان منه الا ان جمع سريعا و قبل ان يصيبه التردد المعتاد، كل الأشياء التي قد يحتاج اليها، و من فوره أخذ سيارته و انطلق بها الي ابعد مكان يمكنه الوصول اليه و كان حريصا طول الوقت ان يضعها علي المقعد المجاور له و كأنها كائن حي يؤنسه في تلك الرحلة.

امضي ثلاثة أيام بلياليها اغلق خلالها تليفونه المحمول و انقطع تمامًا عن سماع اي اخبار قد تتسبب في الشوشرة عليهما و أخذ يتأمل لعبته جيدا و بتركيز شديد و يناقشها بصوت مسموع علها تستجيب اليه، و بنهاية الايام الثلاثة شعر و لأول مرة بانه اقترب كثيرا من فهمها و اوشك ان يري طاقة النور التي يبحث عنها في عقله، و لكن التركيز الشديد كان قد وصل به الي ذروته بحيث شعر بإعياء شديد لم يستطع معه الاستمرار و سقط شبه مغشيا عليه.

في صباح اليوم الرابع قرر ان يلملم أشياءه و يعود لكن ليس من حيث اتي، فعلي الرغم من انه لم ينجز مهمته بالكامل الا انه شعر بالرضا عن نفسه هذه المرة و قال مخاطبا اياها، لقد انجزت الكثير و بات بيني و بين فهم مضمون اللعبة وفلسفتها الحاكمة القليل، بل ربما القليل جدا و شعر بنوع من الرضا وهو يردد لن ادعها تبعد عني كثيرا، سأحتفظ بها قريبة جدا مني حتي لا أفقد ما وصلت اليه هذه المرة في زحمة مشاغلي و اهتماماتي الكثيرة و سأحاول مرة و ربما مرات اخر الي ان اصل للحقيقة، حقيقة اللعبة التي أنهكه محاولة فهمها منذ ان وعي بها.

مجدي عبد الحميد

٩ ابريل ٢٠٢٠

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *