سنوات التفاوض والمماطلة.. مسار التعنت الإثيوبي منذ بداية أزمة سد النهضة: اجتماعات ولقاءات والنتيجة صفر

كتب – أحمد سلامة

في شهر نوفمبر عام 2010 أعلنت الحكومة الإثيوبية الانتهاء من تصميم سد النهضة، كاشفة عن اعتزامها التنفيذ في وقت قريب.. وعلى ضفاف النيل الأزرق، بالقرب من الحدود السودانية، بدأ بناء سد النهضة الإثيوبية عام 2011 والذي تقدر تكلفته الفعلية بحوالي 4.6 مليار دولار.
مع اكتمال عمليات الإنشاء سيكون أكبر كهرومائي في القارة الإفريقية بطاقة توليد تصل إلى 6 آلاف ميجاوات بينما تبلغ مساحة البحيرة الصناعية نحو 246 كيلومترا بما يتسع لنحو 74 مليار متر مكعب.
خبراء في الري والموارد المائية والقانون الدولي حذروا من مخاطر كارثية قد تنتج عن تشغيل سد النهضة الإثيوبي، وتأثيره السلبي على دولتي المصب (مصر والسودان) والإضرار بأمنهما المائي، وتأثيرها على الشح المائي والزراعة في مصر، وهو ما قد يضطر مصر إلى التصرف من مخزون السد العالي لتوفير التزاماتها، وبالتالي تقل قدرته تمامًا خلال سنوات الجفاف، إضافة إلى حدوث احتمالات حدوث انهيار جراء الفيضانات بما يطيح بالسودان وأجزاء من مصر.
ورغم مخاطر السد على مصر، إلا أنها قررت الدخول في جولات تفاوضية مرت بعدة محطات رئيسية، تلك التفاوضات التي تلقى في جانب منها مماطلة إثيوبية وخطاب “حُسن نية” تبنته مصر.

**المحطة الأخيرة.. عودة لنقطة الصفر

مساء أمس أعلنت وزارة الموارد المائية والري أنه اختتمت المحادثات الخاصة بسد النهضة الإثيوبي التي استمرت على مدار 11 يومًا برعاية الاتحاد الإفريقي وبحضور وزراء المياه من الدول الثلاث وممثلي الدول والمراقبين بهدف التباحث حول اتفاق ملء وتشغيل سد النهضة.
الوزارة قالت في بيان أصدرته إن “اجتماعات للجان الفنية والقانونية من الدول الثلاث عُقدت بغرض الوصول إلى تفاهمات بشأن النقاط العالقة في المسارين، وتلى ذلك اجتماع لوزراء المياه تم خلاله استعراض مناقشات اللجان الفنية والقانونية والتي عكست استمرار الخلافات حول القضايا الرئيسية بشأن قواعد ملء وتشغيل سد النهضة”.
واختتم البيان: “في نهاية الاجتماع اتفق الوزراء على قيام كل دولة برفع تقريرها النهائي عن مسار المفاوضات غدًا إلى دولة جنوب إفريقيا بوصفها الرئيس الحالي للإتحاد الإفريقي، تمهيدًا لعقد القمة الإفريقية المصغرة” .
10 أيام تفاوضية شهدت استمرار الخلافات بين مصر والسودان وإثيوبيا حتى الآن حول ملء وتشغيل سد النهضة، طرحت مصر، خلالها، صياغات بديلة بخصوص إجراءات التعامل مع حالات الجفاف الممتد والسنوات شحيحة الإيراد في كل من مرحلتي الملء والتشغيل، بالإضافة إلى قواعد التشغيل السنوي وإعادة الملء.
مصر رفضت مقترحا من أديس أبابا، بتأجيل (البت في النقاط الخلافية في عملية التفاوض الحالية) بشأن سد النهضة.. ويقضي المقترح الإثيوبي بإحالة المسائل الخلافية إلى اللجنة الفنية التي من المقرر تشكيلها بموجب الاتفاقية، لمتابعة تنفيذ بنود الاتفاق الذي لم يتم التوصل إليه بعد، فيما ترى مصر أن هذه المسائل تمثل “العصب الفني” للاتفاق.
وزير الخارجية سامح شكري، قال إن مصر تفاعلت بإيجابية وحسن نية ورغبة وإرادة سياسية كاملة للتوصل لاتفاق حول سد النهضة الإثيوبي وإن المواقف لم تتحرك بالقدر الكاف من قبل الشركاء الآخرين في المفاوضات للتوصل للغاية المأمولة.
وأضاف شكري، خلال مداخلة هاتفية مع برنامج “على مسئوليتي” المذاع عبر قناة “صدى البلد”، أن مصر ستقدم تقريرا نهائيا عن جولة المفاوضات لرئيس الاتحاد الإفريقي وأنه سيكون هناك اجتماعا آخر لمكتب الاتحاد على مستوى القمة بمشاركة الدول الثلاث مصر والسودان وإثيوبيا للتداول في الأمر وتقييم المرحلة الراهنة ووضع رؤية للخطوات القادمة، لافتًا إلى تقديم مصر خلال 6 سنوات من التفاوض مواقف تتسم بالمرونة إدراكا منها للاحتياجات التنموية لإثيوبيا.

**التصريحات الإثيوبية.. الرغبة في إفشال التفاوض

التصريحات الإثيوبية كانت دلالة واضحة على فشل التفاوضات، أو الرغبة في إفشالها، فالتصريحات التي تتابعت حملت دلالات واضحة على استغلال المفاوضات للمماطلة ليس إلا.
وزير الخارجية الإثيوبي غيدو أندارجاشو، قال في تصريح أدلى به في 20 يونيو، إن بلاده ستمضي قدما وتبدأ ملء خزان سد النهضة “حتى دون اتفاق”، وأضاف في مقابلة مع وكالة “أسوشيتد برس”، أنه “بالنسبة لنا ليس إجباريا التوصل لاتفاق قبل البدء في ملء الخزان، وبالتالي سنباشر عملية الملء في موسم الأمطار المقبل”.
لكن الأمر تجاوز حد حجج أديس أبابا بالرغبة في التنمية كغطاء للمماطلة في التفاوض، إنما تعدى ذلك إلى اتهام مصر بأنها تحاول التحكم بكل روافد نهر النيل.
مساء أمس، اتهم، الدكتور يعقوب أرسانو مستشار وزير الري الإثيوبي وأحد أعضاء فريق التفاوض، مصر بمحاولة التحكم بكل روافد نهر النيل، وزعم أنها طلبت في المفاوضات الحالية “أن تتحكم ليس في مياه نهر النيل فقط بل وفي جميع الروافد التي تدعم نهر النيل”.
وفي مقابلة مع وكالة الأنباء الأثيوبية الرسمية، زعم أرسانو أن “مصر دائما تسعى للسيطرة على نهر النيل متجاهلة مصلحة جميع دول حوض النيل وبهذا تريد أن يكون لها سلطة منفردة على نهر النيل”.
واتهم مصر بأنها “تسعى دائما للسيطرة على نهر النيل متجاهلة مصلحة جميع دول حوض النيل وبهذا تريد أن يكون لها سلطة منفردة في نهر النيل”.
وذكر أرسانو: “أن الموقف الإثيوبي في جميع المفاوضات يتمثل بأن لبلد منبع النهر وكذلك لبقية الدول الأخرى حق الانتفاع المتساوي بين جميع الدول على حد سواء، وهذا يضمن حق انتفاع جميع دول حوض النيل ودول الممر والمصب أيضا”.
هذه التصريحات دفعت وزير الخارجية المصري سامح شكري إلى الرد قائلا “إن مصر ليس لديها هدف بالسيطرة على نهر النيل وإن النيل ملك لكافة الدول التي يمر في أراضيها وإن كل دولة لها حقوق والتزامات وفقا للقانون الدولي، وفي ضوء الاستخدام العادل لهذا المورد دون إحداث أي أضرار للدول الأخرى”.

**أبرز محطات سد النهضة (فلاش باك)

(الإعلان/عمليات المسح والتصميم/ضربة البداية)
لم يكن مشروع سد النهضة وليد السنوات الأخيرة، وإنما امتدت الفكرة لعقود، لكنها تجددت في عام 2001 حينما أعلنت إثيوبيا عن نيتها إنشاء عدد من المشروعات على أنهارها الدولية، وذلك في استراتيجية وطنية للمياه كشفت عنها حكومتها حينذاك.
وفي مايو 2010 تم توقيع اتفاقية بين ست دول لحوض النيل، هي إثيوبيا وأوغندا وكينيا وتنزانيا ورواندا وبوروندي، عرفت باسم اتفاقية عنتيبي، وقوبلت برفض شديد من مصر والسودان. حيث أنه بموجب الاتفاقية، تنتهي الحصص التاريخية للأخيرتين وفقا لاتفاقيات عامي 1929 و1959.
في أغسطس عام 2010 أعلنت الحكومة الإثيوبية الانتهاء من عملية مسح موقع السد، ثم في نوفمبر من العام نفسه كشفت الانتهاء من تصميمه وأعلنت اعتزامها التنفيذ.. وفي شهر أبريل 2011 أعلنت أديس أبابا تدشين مشروع إنشاء سد النهضة لتوليد الطاقة الكهرومائية.
في سبتمبر 2011 اتفقت السلطات المصرية والإثيوبية على تشكيل لجنة دولية، تدرس آثار بناء سد النهضة، وبدأت عملها في شهر مايو عام 2012 بفحص الدراسات الهندسية الإثيوبية، ومدى التأثير المحتمل للسد على مصر والسودان.. ثم أصدرت تقريرها بعد عام، في مايو 2013، بضرورة إجراء دراسات تقييم لآثار السد على دولتي المصب. وقد توقفت المفاوضات بعدما رفضت مصر تشكيل لجنة فنية دون خبراء أجانب.
لكن المفاوضات كان لابد أن تستمر، ففي يونيو 2014 اتفقت السلطات في القاهرة وأديس أبابا على استئناف المفاوضات مرة أخرى، ثم اتفقتا في شهر أكتوبر من العام نفسه على اختيار مكتبين استشاريين، أحدهما هولندي والثاني فرنسي لعمل الدراسات المطلوبة بشأن السد.

(اتفاقية المبادي/ وثيقة الخرطوم/التقرير المبدئي)
في عام 2015 وبالتحديد في شهر مارس قام الرئيس عبدالفتاح السيسي بالتوقيع مع نظيره السوداني، عمر البشير، ورئيس وزراء إثيوبيا هايلى ديسالين في العاصمة السودانية الخرطوم وثيقة “إعلان مبادئ سد النهضة”، والتي تضمنت تضمنت الوثيقة 10 مبادئ أساسية، والتي نصت على أن “تقوم الدول الثلاث بتسوية منازعاتهم الناشئة عن تفسير أو تطبيق هذا الاتفاق بالتوافق من خلال المشاورات أو التفاوض وفقاً لمبدأ حسن النوايا؛ إذا لم تنجح الأطراف في حل الخلاف من خلال المشاورات أو المفاوضات، فيمكن لهم مجتمعين طلب التوفيق، الوساطة أو إحالة الأمر لعناية رؤساء الدول/رئيس الحكومة”.
في سبتمبر من العام نفسه انسحب المكتبان الاستشاريان لـ”عدم وجود ضمانات لإجراء الدراسات بحيادية”، ثم في شهر ديسمبر وقع وزراء خارجية مصر والسودان وإثيوبيا على وثيقة الخرطوم، التي تضمنت التأكيد على اتفاق إعلان المبادئ الموقع من قيادات الدول الثلاث، وتضمن ذلك تكليف مكتبين فرنسيين بتنفيذ الدراسات الفنية الخاصة بالمشروع.. لكن إثيوبيا أعلنت في مايو 2016 أنها على وشك إكمال 70 في المئة من بناء السد.
شهد شهر مايو 2017 الانتهاء من التقرير المبدئي حول سد النهضة، حيث وقع خلاف بين الدول الثلاث على التقرير، لكن بحلول شهر أكتوبر أعلنت مصر موافقتها على التقرير المبدئي، لكن وزير الري المصري أعلن في نوفمبر 2017 عدم التوصل لاتفاق، بعد رفض إثيوبيا والسودان للتقرير المبدئي، والحكومة المصرية تعلن أنها ستتخذ ما يلزم لحفظ “حقوق مصر المائية”.

(رفض التحكيم/الاجتماع التساعي/تعهدات شفهية)


في ديسمبر من عام 2017 اقترحت مصر على إثيوبيا مشاركة البنك الدولي في أعمال اللجنة الثلاثية، التي تبحث في تأثير إنشاء سد النهضة الإثيوبي على دولتي المصب، مصر والسودان، لكن رئيس الوزراء الإثيوبي هايلي مريم ديسالين أعلن في يناير 2018 رفض بلاده دعوة مصر لتحكيم البنك الدولي.
في أعقاب ذلك، وبالتحديد في أبريل 2018، عُقد الاجتماع التساعي الأول لوزراء الخارجية والمياه ورؤساء أجهزة المخابرات، في مصر والسودان وإثيوبيا، لكن التصريحات التي تلته أكدت عدم الوصول إلى اتفاق في تلك الجولة من المفاوضات.
في واقعة شهيرة، دعا الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد إلى أن يقسم أن أديس أبابا لن تضر بمصالح مصر ولا بالشعب المصري بسبب بناء سد النهضة، كان ذلك في يونيو 2018.
ثم في سبتمبر من العام نفسه عقد وزراء الري من البلدان الثلاثة إجتماعا للجنة الفنية، وأعلنوا عدم التوصل لنتائج جديدة وإرجاء المفاوضات إلى وقت لاحق.
وفي فبراير 2019 التقى قادة الدول الثلاث على هامش القمة الإفريقية، المقامة في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. والرئاسة المصرية تقول إنهم توافقوا على عدم الإضرار بمصالح شعوبهم، كأساس تنطلق منه المفاوضات، وكذلك التوافق حول جميع المسائل الفنية العالقة.
ثم في سبتمبر من العام الماضي أعلنت وزارة الري المصرية تعلن تعثر مفاوضات وزراء الري بين الدول الثلاث بالقاهرة، والفشل في الوصول إلى اتفاق لـ”عدم تطرق الاجتماع للجوانب الفنية”.

(صدمة الخارجية/واشنطن تدخل على الخط/تفاوضات دون اتفاقات)
في 22 أكتوبر2019 أعربت الخارجية المصرية عن صدمتها، إزاء تصريحات إعلامية منسوبة لرئيس الوزراء آبي أحمد أمام البرلمان الإثيوبي، بأنه “يستطيع حشد الملايين على الحدود، في حالة حدوث حرب.. وأنه لا توجد قوة تستطيع منع بلاده من بناء سد النهضة”.
وفي السادس من نوفمبر دخلت واشنطن على خط الأزمة حيث استضافت ممثلين عن الأطراف الثلاثة (مصر، السودان وإثيوبيا) بوجود وزير الخزانة الأمريكية، ورئيس البنك الدولي للمرة الأولي. وصدر بيان مشترك جاء فيه أنه “تقرر عقد أربعة اجتماعات عاجله للدول الثلاث، على مستوى وزراء الموارد المائية وبمشاركة ممثلي الولايات المتحدة والبنك الدولي، تنتهي بالتوصل إلى اتفاق حول ملء وتشغيل سد النهضة خلال شهرين، بحلول منتصف يناير 2020″، ثم في 15 و16 من الشهر نفسه انعقدت الجولة الأولى من الاجتماعات المشار إليها، بحضور ممثلين عن وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي في أديس أبابا، واتفاق على “استمرار المفاوضات والمناقشات الفنية حول آليات تشغيل وملء السد، خلال الاجتماع الثاني للجان الفنية”، وفي الثاني والثالث من ديسمبر انعقدت الجولة الثانية من تلك الاجتماعات بالقاهرة، تلتها جولة ثالثة في 21 و 22 ديسمبر حول المشاورات والمناقشات الفنية حول كافة المسائل الخلافية تنعقد في الخرطوم.
في يومي الثامن والتاسع من يناير 2020 عقد الاجتماع الرابع لوزراء الموارد المائية والوفود الفنية من الدول الثلاث، بالعاصمة الإثيوبية أديس أبابا، وبمشاركة البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية، ومصر وإثيوبيا تعلنان إنه انتهى دون اتفاق.
في منتصف الشهر ذاته استضافت واشنطن وفود الدول الثلاث، لتقييم نتائج الاجتماعات الأربعة السابقة، وخرجت المفاوضات بتوافق مبدئي على إعداد خارطة طريق، تتضمن 6 بنود أهمها بالنسبة لمصر تنظيم ملء السد خلال فترات الجفاف والجفاف الممتد، لكن الأمر قوبل بمماطلة إثيوبية فاستضافت واشنطن في 28 يناير وفود الدول الثلاث مجددا، بحضور ممثلين عن وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي، في محاولة لحل الأزمة.

**مصر تتوجه إلى مجلس الأمن

في 20 يونيو أرسلت مصر خطابا إلى مجلس الأمن الدولي التابع للأمم المتحدة، بخصوص ملف سد النهضة، لمواجهة الرفض الإثيوبي لتوقيع اتفاق ينظم عملية ملء السد وتشغيله، “بما يضمن مصالح مصر والسودان وإثيوبيا”.
وأكدت مصر في خطابها الموجه إلى مجلس الأمن، أن فشل المفاوضات بشأن سد النهضة يرجع إلى “سياسة إثيوبيا الثابتة في المراوغة والعرقلة”، مشددة على أن ملء وتشغيل إثيوبيا لسد النهضة “يمثل تهديدا”.
وأوضحت أنها اختارت إحالة هذه المسألة لـمجلس الأمن الدولي، “بعد أن بحثت واستنفدت كل سبيل للتوصل إلى حل ودي لهذا الوضع، عبر إبرام اتفاق بشأن سد النهضة الإثيوبي، يحفظ ويعزز حقوق ومصالح الدول الثلاث المشاطئة للنيل الأزرق”.
وأشارت إلى أنها “شاركت بحسن نية في جولات تفاوضية لا حصر لها لمدة عِقد تقريبا بشأن سد النهضة الإثيوبي، بيد أن هذه الجهود لم تثمر عن نتيجة بسبب النزعة أحادية الجانب لإثيوبيا، ورغبتها في فرض أمر واقع على دولتي المصب”.

وجاء في نص الخطاب..

سعادة المندوب الدائم،            
أكتب إليكم مرة أخرى اتصالا بسد النهضة الإثيوبي، وهو أمر جلل ذو تداعيات ضخمة على مصر، كما أشرت في خطابي السابق المؤرخ الأول من مايو 2020، فضلا عن طبيعته العاجلة في ظل مواصلة إثيوبيا إصرارها على بدء ملء السد بشكل أحادي الجانب خلال موسم الأمطار في شهر يوليو المقبل، بما يخالف التزاماتها القانونية الدولية، وهو ما تدلل عليه تصريحات علنية بما في ذلك تصريحات السيد رئيس الوزراء الإثيوبي بتاريخ 8 يونيو 2020.
بالنظر إلى خطورة الوضع، وفي ضوء التعنت المستمر لإثيوبيا، الذي قد يشكل تهديدا للسلم والأمن الدوليين، أكتب إلى سعادتكم لأطلب من مجلس الأمن الدولي أن يتدخل في هذه المسألة على وجه السرعة.
وقد اختارت مصر إحالة هذه المسألة لمجلس الأمن الدولي بعد أن بحثت واستنفدت كل سبيل للتوصل إلى حل ودي لهذا الوضع، عبر إبرام اتفاق بشأن سد النهضة الإثيوبي، يحفظ ويعزز حقوق ومصالح الدول الثلاث المشاطئة للنيل الأزرق.
خلافا للتأكيدات الواردة في الرسالة الموجهة إلى سعادتكم من قبل السيد وزير خارجية جمهورية إثيوبيا الديمقراطية الفدرالية في 14 مايو2020، فإن فشل المفاوضات بشأن سد النهضة يرجع إلى سياسة إثيوبيا الثابتة في المراوغة والعرقلة.
ونظرا لأن الغرض من هذا الخطاب ليس الانخراط في تفنيد مفصل لما ورد في رسالة وزير خارجية إثيوبيا من مغالطات وتشويه للحقائق، إذ أن هذا هو الغرض من المذكرة المرفقة (ملحق1)، فإنني أود أن أُبرز حقيقة أن مصر قد شاركت بحسن نية في جولات تفاوضية لا حصر لها لمدة عقد تقريبا بشأن سد النهضة الإثيوبي، بيد أن هذه الجهود لم تثمر عن نتيجة، بسبب النزعة أحادية الجانب لإثيوبيا ورغبتها في فرض أمر واقع على دولتي المصب.
خلال هذه العملية سعينا إلى التوصل لحل مرض لكافة الأطراف يحفظ ويعزز حقوق ومصالح دول النيل الأزرق الثلاث. لقد عملنا بلا كلل من أجل التوصل إلى اتفاق يحقق الأهداف الإنمائية لإثيوبيا، ويقلص من التأثيرات الضارة لهذا السد الضخم على دولتي المصب.
وفي دليل آخر على إرادة مصر السياسية الصادقة للتوصل إلى اتفاق يحقق المنفعة المتبادلة، دعت مصر أطرافا أخرى محايدة إلى المشاركة في المفاوضات، كما أعربت عن استعدادها لقبول أي اتفاقات أو صيغ توافقية مقترحة من قبل هذه الأطراف المحايدة.
وفي حقيقة الأمر، فإن مصر، تماشيا مع حسن نواياها، قبلت ووقعت بالأحرف الأولى في 28 فبراير 2020 على اتفاق بشأن ملء وتشغيل سد النهضة، تم إعداده تحت رعاية الولايات المتحدة الأميركية، وبمشاركة البنك الدولي (ملحق رقم 2).
لكن مع الأسف، قوضت إثيوبيا هذه الجهود الرامية إلى التوصل إلى اتفاق يحقق المنفعة المتبادلة بشأن سد النهضة. وبدلا من ذلك، تواصل إثيوبيا الإصرار على بدء حجز المياه في خزان السد بشكل أحادي الجانب، وهو الأمر المثير للقلق بشكل بالغ، على الصعيد السياسي، إذ يمثل محاولة خطيرة من جانب إثيوبيا لإقامة وممارسة سيطرة غير مقيدة على نهر حيوي عابر للحدود.
فضلا عن ذلك، فإنه سوف يشكل خرقا ماديا لاتفاق إعلان المبادئ بشأن سد النهضة، الذي أبرم بين الدول الثلاث في 23 مارس 2015، وينص على وجوب القيام بملء وتشغيل سد النهضة وفقا للمبادئ التوجيهية والقواعد التي سيتم الاتفاق عليها بين مصر وإثيوبيا والسودان (ملحق رقم 3).
كذلك، أدى موقف إثيوبيا المتعنت إلى فشل الجولات الأخيرة من المفاوضات التي عقدت بناء على مبادرة جمهورية السودان، والتي استمرت لعدة أسابيع.
وبينما شاركت مصر مرة أخرى في هذه المحادثات، للبرهنة مجددا على التزامها الصادق بالتوصل إلى اتفاق بشأن سد النهضة، تبنت إثيوبيا على مدار هذه المفاوضات نهجا مخالفا لالتزاماتها القانونية وغير بناء فنيا، حيث رفضت إبرام اتفاق ملزم بموجب القانون الدولي، واقترحت اعتماد ارشادات توجيهية وقواعد يحق لها تعديل مضمونها وفقا لسلطتها التقديرية.
كما صرحت بأن أي وثيقة يتم الاتفاق عليها بين البلدان الثلاثة لن تعرف حد الضرر الجسيم، ومن ثم تعفي نفسها فعليا من أي التزامات تجاه دولتي المصب، اللتين يوفر لهما القانون الدولي الحماية من الضرر الجسيم الذي تلحقه بهما دولة المنبع.
كما عارضت إثيوبيا تطبيق تدابير فعالة للتخفيف من آثار الجفاف والجفاف الممتد على المجتمعات المحلية بدول المصب، الأمر الذي يعرض مصر والسودان للآثار الاجتماعية والاقتصادية المدمرة الناجمة عن مثل هذه الظروف الهيدرولوجية الخطيرة.
إن هذه المفاوضات، التي عبرت إثيوبيا خلالها عن مواقفها وتقدمت بمقترحاتها، جرت في وجود مراقبين غير متحيزين حضروا هذه المداولات. (مرفق النصوص المقترحة من قبل إثيوبيا ـ ملحق رقم 4).
يعكس هذا الموقف الإثيوبي رغبتها في ملء وتشغيل سد النهضة دون أي تدابير حماية ذات مغزى، من شأنها أن تقلل من الآثار السلبية لهذا السد على دول المصب، فضلا عن تكريس حق غير مقيد ودون ضوابط في بناء مشاريع مستقبلية أعالي النهر، واستخدام مياه النيل الأزرق من جانب واحد، حتى وإن كان ذلك على حساب حقوق دول المصب.
بالنسبة لمصر، بلد بها أكثر من مائة مليون نسمة تعتمد بشكل كامل على نهر النيل كشريان للحياة وقضية وجود، فإن وضع كهذا لا يمكن احتماله.
علاوة على ذلك، فمن المثير للقلق البالغ أن يتم بناء سد النهضة دون استكمال الدراسات اللازمة حول الآثار الهيدرولوجية والبيئية لهذا السد، ودون الضمانات اللازمة لضمان سلامته الإنشائية، مما يهدد أكثر من 150 مليون مواطن مصري وسوداني.
إن استخدام موارد نهر النيل لابد وأن يكون محكوما بالقواعد المعمول بها في القانون الدولي، وعملا بالاتفاقيات التي تحفظ وتنمي حقوق ومصالح كافة الدول المشاطئة، ولا يجوز إخضاعها للسيطرة أحادية الجانب من إثيوبيا.

سعادة المندوب الدائم،

بينما تظل مصر ملتزمة ببذل كل جهد للتوصل إلى اتفاق عادل ومتوازن بشأن سد النهضة، يجب أن أؤكد أن ميثاق الأمم المتحدة يعطي الحق للدول الأعضاء في الأمم المتحدة في حماية مصالحها الوطنية الحيوية وضمان بقائها على قيد الحياة.
إن ملء وتشغيل مشروع ضخم مثل سد النهضة دون اتفاق وفي غياب أي ضمانات متفق عليها لحماية دول المصب من الضرر الجسيم المحتمل الذي قد يلحق بهما، يشكل خطرا واضحا وحاضرا على مصر، مما قد يكون له تداعيات خطيرة تهدد السلم والأمن الدوليين.
ومن ثم، أكتب إلى سعادتكم عملا بالمادة 35 من ميثاق الأمم المتحدة، التي تخول الدول الأعضاء في الأمم المتحدة تنبيه مجلس الأمن إلى أي موقف قد يؤدي إلى احتكاك دولي، أو من المحتمل أن يعرض صون السلم والأمن الدوليين للخطر.
كما أطلب أن ينظر مجلس الأمن الدولي في هذا الأمر على وجه السرعة في أقرب فرصة ممكنة، في إطار بند جدول الأعمال المعنون “السلم والأمن في إفريقيا”، وإن مصر لحريصة على أن تدعى للمشاركة في اجتماع المجلس الذي سيناقش هذا الأمر، عملا بالمادة 37 من النظام الداخلي لمجلس الأمن.
إنه لواجب على مجلس الأمن، والمجتمع الدولي، أن يحثا إثيوبيا على التحلي بالمسؤولية وإبرام اتفاق عادل ومتوازن بشأن سد النهضة، مع عدم اتخاذ أي تدابير أحادية الجانب فيما يتعلق بالسد، وأن تمتثل لالتزاماتها القانونية الدولية ومبادئ وقواعد القانون الدولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *