“حكايتنا على الربابة”| فيديو.. فهد جمال صانع الربابة وآلات الموسيقي الشعبية.. العزف على أوتار “لقمة العيش”

كتب – محمود هاشم

تزخر الثقافة الشعبية المصرية بتاريخ حافل من الحرف المؤصلة لهويتها، لكن فارقا ضئيلا بات يفصل بين مقاومتها الاندثار وغيابها الاضطراري بفعل الزمن، ومع ذلك ما يزال أصحاب هذه الحرف مستمسكين بالعزف على “الوتر المتبقي” من لحنها الأخير، وهذا ما يعول عليه فهد جمال، صانع الربابة، الذي يصر على ديمومة الفن الشعبي، رغم ما يواجه من عثرات.

يعيش جمال، الشهير بـ”أبي مريم”، 33 سنة، على بيع الربابة والآلات الشعبية، سارحا بها في شوارع القاهرة والجيزة، خاصة في السيدة زينب والمنيل والدقي، يعزف للمارة ألحانه المليئة بالشجن، آملا في بيع آلة أو اثنتين، يساعد ثمنهما أهل بيته في البقاء يوما جديدا على قيد الحياة، يعزف فيه مجددا على وتر “لقمة العيش”.

برفقه ابنته الكبرى التي لم تتخط عامها العاشر، يتجول “أبو مريم” في أزقة حي السيدة زينب، بزيه الصعيدي الشهير، “على حسب الرزق وحسب ما رجلي توديني، ربنا بيكرمني بـ50 أو 60 جنيها في اليوم، لكنها لا تكفي لاحتياجات أسرتي الكبيرة وتكاليف إيجار المنزل والفواتير والطعام والشراب، وغير ذلك من الالتزامات والمصاريف”، يقول جمال لـ”درب”.

ورغم احتراف المهنة صانعا وعازفا في الوقت الحالي، لم تكن لجمال علاقة سابقة بآلات الفن الشعبي – سوى نشأته الصعيدية – لكنه أجادها بالفطرة: “قبل عملي في صناعة الربابة وبيعها، كنت مقاولا في شركة للصرف الصحي من الباطن، إلا أن توقف العمل بها منذ فترة، وتزايد الأعباء المالية على كاهلي، دفعني لتعلم صناعة الربابة من “عديلي” زوج شقيقة زوجتي، كحرفة تساعدني على التكفل بمصاريف أسرتي، وهواية أيضا، خاصة أنني من محافظة سوهاج في صعيد مصر، والربابة من أشهر أدوات الموسيقى الشعبية لدينا”.

ويضيف: “ظللت فترة أتابع “عديلي” في مراحل تصنيع الربابة والعزف عليها حتى أتقنت الحرفة، منذ حينها بدأت عملي الخاص بتصنيعها من داخل منزلي، ثم بيعها للمارة في الشوارع”.

وعن أدوات تصنيع الآلة، يقول: “الخامات بسيطة وسهلة، فهي تتكون فقط من خشب، وعلب سلمون أو فول، بالإضافة إلى الأوتار، التي كان الصانع يحصل عليها من فترة من دون مقابل، باعتبارها بقايا خشب مستعمل، ومخلفات، إلا أنها في الفترة الأخيرة بدأت تباع مقابل مبالغ معينة، بعدما بات النجارون يستخدمونها في أعمالهم”.

تختلف جودة الربابة باختلاف سعرها والخامات المكونة لها، فضلا عن استخدامها، بحسب “أبو مريم”، حيث تباع القطع المخصصة للأطفال من 5 إلى 10 جنيهات، وهي تفتقر إلى الإتقان الجيد، بحكم ثمنها الزهيد، واستعمال الخشب البياض في تصنيعها، وهو رخيص نسبيا، كل بائع يحتفظ في حقيبته بأنواع أخرى ذات إمكانيات أعلى نسبيا لبيعها للزبائن الباحثين عن الجودة بشكل أكبر، وتبدأ أسعارها مما يقارب 50 جنيها وأكثر.

ويتم شراء خامات وقطع تصنيع الربابة على حدى، سواء الأوتار أو الألوان أو الأخشاب، لكن معظمها من منطقة العتبة، ليتم بعد ذلك تصنيعها يدويا في ورش داخل المنازل، لتخفيض تكلفتها، وبالتالي تشجيع الزبائن على شرائها، بدلا من الربابة الجاهزة التي تباع بمبالغ أكبر نسبيا.

مع ذلك يرى أن الاهتمام بالربابة قل كثيرا في الفترة الأخيرة نظرا لارتفاع سعر الخامات وبالتالي ارتفاع سعر الآلة نفسها، فضلا عن انخفاض جودة بعضها، “البياع نفسه الحاجة تبقى رخيصة علشان يقدر يطلَّع ويبيع، لكن عندما تزداد عليه التكلفة يضطر للبيع بسعر أعلى، خاصة مع تحمله تكاليف الخامات والمواصلات والنقل وغيرها”.

“الألحان الحزايني” التي يعزفها “أبو مريم” ليست مجرد وسيلة لبيع منتجه الفني، بل تبدو كأنها طريقته المهذبة للتعبير عن معاناته التي يعيشها يوميا في سبيل رعاية أسرته بما يمتلك من موهبة: “لدى  5 شقيقات يتيمات، اضطر إلى “بيع عفش منزله” والاستدانة” لتزويجهن، ويعيش حاليا مع شقيقه الوحيد، الذي يبلغ من العمر 12 عاما، بالإضافة إلى زوجته و3 أطفال، في شقة إيجارها 600 جنيه شهريا، بخلاف فواتير الكهرباء والغاز والمياه، في منطقة أوسيم بمحافظة الجيزة، “قاعد فيها على البلاط”، حسبما يحكي.

ويتابع: “كنت من أسرة ميسورة الحال، إلا أن الأعباء بدأت في التزايد على كاهلي بعد وفاة والدي في حادث سيارة، قبل أن تلحقه والدتي التي وفيت بسبب ورم سرطاني، بعد شهور من المعاناة مع المرض، واضطررنا أيضا إلى بيع منزلنا الذي نسكن فيه لتغطية تكاليف علاجها، قبل وفاتها”.

ويستكمل: “لجأت للاستدانة من معارفي لأستطيع سد حاجات الأسرة، ووقعت وصل أمانة لأحد أصدقائي بمبلغ 6 آلاف جنيه، ولا أعلم كيف سأستطيع سداده، وبت يوميا أتخوف من أن يتقدم بشكوى ضدي في أي وقت قد يتم سجني بسببها، تاركا شقيقي وزوجتي وأطفالي الثلاثة للزمن يتكفل بهم، لكنني في حاجة ماسة لعمل ثابت آكل منه عيش، ويعينني وأسرتي على ما نعانيه من أعباء الحياة. ولا يضطرني إلى اللف في الشوارع”.

مع بداية أزمة كورونا، قدم جمال طلبا للحصول على منحة العمالة غير المنتظمة، كما قدم أوراق حالته في مشروع “تكافل وكرامة”، خاصة أنه لا يمتلك ملفا تأمينيا، إلا أنه لم يتلق ردا حتى الآن، ويضيف: “أنا حتى لا أمتلك بطاقة تموين حتى الآن”.

معاناة “أبو مريم” في أعباء الحياة، لم تمنعه من إظهار شغفه الواضح بالمهنة، وحرصه على استمرارها وإدراك قيمتها الكبيرة، ويستكمل: “الفن الشعبي يحتاج إلى قدر أكبر من الاهتمام به، خاصة أنه يعد رمزا حيا من رموز مصر، وأحد الشواهد الدالة على هويتها التراثية وتاريخها الفني، السياح لما بيشوفونا بنعزف بيبقوا مهتمين يعرفوا أكتر عن الربابة، وبيحكوا لأصحابهم عنها بفخر وسعادة، وبياخدوها هدايا في بلادهم، حرام نسيب تراث زي ده يموت ونردم عليه”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *