كارم يحيى يكتب عن محرقة الجنود المصريين بالقدس في 67: إنها “مذبحة اللطرون”.. ننتظر إجابات عندنا هنا أيضا
مر اليوم الجمعة 15 يوليو 2022 أسبوع كامل على كشف واحد من المؤرخين الجدد “آدم راز” واثنتان من كبريات الصحف في إسرئيل مستعينتين بتسجيلات مصورة لشهود عيان عن مقبرة جماعية لنحو ثمانين من جنود الصاعقة المصريين في حرب 1967 ، وعن فرض السرية لنحو 55 سنة على دفنهم في مقبرة جماعية في منطقة “اللطرون” بالقرب من القدس المحتلة.
خلال هذا الأسبوع وتحديدا بعد يومين من نشر النبأ في إسرائيل، صدر بيان مقتضب للمتحدث باسم وزارة الخارجية المصرية، وتلاه فقرة متأخرة في تصريح للمتحدث باسم الرئاسة المصرية عن مبادرة رئيس الوزراء الإسرائيلي الجديد ” يائير لبيد” الاتصال هاتفيا بالرئيس عبد الفتاح السيسي. ومن كلا الحالتين / النصين لدينا ثلاث ملاحظات على المعالجة الرسمية عندنا في القاهرة: الأولى أن الكلمات المستخدمة من قبيل ” ماتردد.. وما تم تداوله في الصحافة الإسرائيلية” تعكس حالة من التشكيك وتبني عدم اليقين في أن الأمر قد وقع بالفعل. والملاحظة الثانية تتعلق بالعجز في تقدير وأهمية هذا الكشف، وذلك تعكسه عبارات بعيدة عن التعريف والتحديد تكررت في النصين من قبيل ” إتصالا بوقائع تاريخية حدثت في حرب 1967″ . والثالثة وهي بمثابة محصلة لماسبق حين يتم التعويل على تحقيق السلطات الإسرائيلية المتورطه بالأصل في إخفاء المقبرة الجماعية لجنودنا ولكل هذه السنوات.
وإذا كان هذا هو حال رد الفعل الرسمي إلى الآن ، فعلينا أن نتذكر وقائع مشابهة خلال عهد “مبارك”. وحينها كان لنا ـ على الأقل ـ أن نسمع أصواتا قوية متفاعلة سريعة بشأن الكشف عن مقابر جماعية لجنودنا المصريين في سيناء من أحزاب سياسية ومنظمات المجتمع المدني، مشفوعة بنقاشات وندوات ومؤتمرات. وأيضا بالشروع في اتخاذ إجراءات أمام القضائين المحلي والدولي. وهي جهود من حق الرأي العام اليوم الإطلاع على نتائجها والعراقيل التي اعترضتها والاستفادة من دروسها.
ومن موقع مساهمتي في موسوعة ” اليهود واليهودية والصهيونية ” للدكتور “عبد الوهاب المسيري” الصادرة عام 1999 بكتابة مداخل الإرهاب الصهيوني والإسرائيلي ولقد عملت على تقصى العديد من المذابح وتفكيك عناصرها وإعادة بنائها وفق نموذج تفسيري في هذا السياق، استطيع القول بأننا إزاء ملامح ما يمكن تسميته بـ ” مذبحة اللطرون”. فمن جانب استخدم الجيش الإسرائيلي أسلحة محرمة ” قنابل فسفورية” في إحراق وقتل الجنود المصريين جماعيا. ومن جانب آخر، ثمة دلائل وفق ما أفصحت عنه المصادر الإسرائيلية تفيد بنفاد ذخيرة هؤلاء الجنود وانقطاع الإمدادات عنهم .
وتأتي حقائق الدفن الجماعي للجثث المحترقة وعدم إبلاغ الهيئات الدولية المعنية كالصليب الأحمرالدولي بتسلم رفات شهدائنا وفرض الرقابة العسكرية الإسرائيلية المشددة لإخفاء وقائع هكذا قتل ومقبرة جماعيين لكل هذه السنوات لتؤكد أننا فعلا إذا مذبحة أجتهد القتلة على إخفائها. هي “مذبحة اللطرون” التي تستحق أن تأخذ مكانها في كتابة تاريخ الإرهاب الصهيوني الإسرائيلي. وهكذا لتسبق مذابح كعلامات في الذاكرة الحية للمصريين. ولعل من أشهرها : مصنع أبي زعبل ومدرسة قرية بحر البقر 12 فبراير و 8 أبريل 1970 و إسقاط الطائرة المدنية الليبية في 21 فبراير 1973 فوق سيناء المحتلة، ومعها 106 شهداء، من بينهم المذيعة المحبوية الشهيدة “سلوى حجازي”.
وأعود اليوم إلى مداخل الإرهاب الصهيوني والإسرائيلي في موسوعة الدكتور ” المسيري” فيتضح أن ماورد بها يمنح الكشف الجديد عن المقبرة الجماعية لجنود الصاعقة المصريين سياقا. و يشير أيضا إلى أنها مذبحة جرت في سياق مذابح عديدة واكبت حرب يونيو 67 وأعقبتها. ففي الأسابيع والسنوات التالية تكشفت واحدة تلو أخرى تفاصيل مجموعة من المذابح ارتكبها جيش الاحتلال خلال حرب الأيام الستة لاخلاء عدد من القرى ومخيمات اللاجئين في الضفة الغربية وقطاع غزة. وأيضا في محاولته المبكرة تفريغ محيط القدس المحتلة من أهلها الفلسطينين بهدم مئات المنازل. وكل هذا يدخل تحت تعريف ” إرهاب دولة منظم”. وقد وثقت تقارير مراقبي الأمم المتحدة وهيئة غوث اللاجئين العديد من هذه المذابح حينها. وقد يفيد إحكام إخفاء وقوع وتفاصيل”مذبحة النطرون” مقارنة بتكشف غيرها ضد ابناء الشعب الفلسطيني سريعا بأنها شهدت فظائع أكثر هولا مازالت خافية إلى الآن.
و حتى بعد مضي كل هذه السنوات على مذبحة اللطرون (55 سنة )، هل يمكن لعاقل وجاد التعويل على تحقيق تجريه وتستأثر به السلطات الإسرائيلية؟. وببساطة : هل لقاتل مجرم أن يدين نفسه ؟. وبمزيد من التفصيل والإيضاح فإن الصهيونية العنصرية ، التي تدفع للإرهاب والمذابح وممارسات الأبارتهايد ومازالت ـ هي نفسها عقيدة ” إسرائيل ” ومؤسساتها لليوم. كما أن للسلطات الإسرائيلية تقاليد راسخة مرعية للآن في الاحتفاء بالإرهابيين الصهاينة القتلة وتخليد ذكراهم و أفعالهم.
في مصر اليوم يأسف المتابع للشأن العام لتدهور أحوال المجتمع المدني والسياسي. وقد جاءت أنباء “مذبحة اللطرون” لتؤكد ما وصل إليه من تهميش وعجز.. بل وعواقب تحطيمه تحطيما خلال السنوات القليلة الماضية على نحو خاص. لكن لعل المذبحة المكتشفة مؤخرا ضد جنودنا المصريين تدفع لطرح أسئلة تنتظر إجابات من الجهات المعنية المسئولة عندنا . فـ”الواجب” إزاء ذكرى هؤلاء الشهداء ضحايا الإرهاب الإسرائيلي يتعين القيام به وإنجازه هنا في القاهرة. وهذا قبل التعلق “بحبال تل أبيب الدايبة “، أو الوهمية بالأصل. وهي أسئلة من قبيل :
1ـ ألا يستوجب الكشف في إسرائيل عن “مذبحة اللطرون” بحثا وتحقيقا في ملفات وزارة الدفاع ( الحربية سابقا ) عندنا عن شهداء الصاعقة هؤلاء ومصير وحدتيهم هاتين ( وكما قيل أنهما من وحدتين للصاعقة )، مشفوها بتحديد المسئولية عند القياديتن العسكرية والسياسية لما جرى لهم ، وإعلان نتائج هذا البحث والتحقيق للرأي العام ؟
2 ـ ألا يستحق هؤلاء الشهداء إعلان قائمة بأسمائهم ؟ .. وتكريمهم عبر عائلاتهم وذويهم ؟ .. واقامة مقبرة أو نصبا تذكاريا يخلد ذكراهم بعد نقل ما تبقى من رفاتهم وبقاياها ؟.
3 ـ بعد مضي كل هذه السنوات على هزيمة يونيو 1967 ، أليس من الواجب إعلان قائمة كاملة بأعداد و بأسماء مفقودينا .. وأخرى بأسماء شهدائنا؟.
4 ـ ألم يحن الآوان بعد ومع مضي كل هذه العقود لإتاحة الجهات المعنية والمسئولة عندنا وثائق حرب 1967؟ . وقد أجهد المؤرخون والكتاب دون طائل المجاهرة بهذا المطلب المشروع دون استجابة. وهنا أتذكر وأترحم على المؤرخ الدكتور عادل غنيم رئيس لجنة كتابة ” موسوعة مصر والقضية الفلسطينية ” المشكلة بقرار من مجلس الوزراء والتابعة لوزارة الثقافة، والذي أبلغني بأنه كتب قبل وفاته بسنوات معدودة وفي سياق إعداده لأجزاء حرب 67 إلى الجهات المعنية من دار الوثائق إلى وزارات وجهات سيادية كى تسمح بالإطلاع على ما لديها، من دون أن تتفضل جهة واحدة بالاستجابة. بل ان العديد من الجهات تجاهلت الرد بالأصل على مكاتباته. وهذا ما دونت وسجلت في مقال بعنوان ” المؤرخ عادل حسين وحديث الوثائق ” بجريدة ” الأهرام ” بالعدد 13 أكتوبر 2015.
نعم .. لا يتعلق الأمر وحسب بحقنا كمواطنين مصريين أن نعلم وأن نعرف حقائق تاريخنا ومصائر آبائنا وأجدادنا وذوينا، وأن نسائل السلطات المسئولة المعنية عن أدائها تجاههم: أجادت أو قصرت وأساءت. ففي صميم هذه القضايا تكمن نظرة السلطة عندنا إلى قيمة المواطن المصري واحترامها حقوقه كإنسان. ولنقارن كيف كان رئيس الوزراء الإسرائيلي “مناحم بيجين” ووفده المفاوض في “كامب ديفيد” وبعدها يلح ويقاتل من أجل استعادة رفات آخر جندي إسرائيلي. بل ويتمسك ـ من غير وجه حق ـ بإبقاء قبر للجندي الإسرائيلي المجهول في منطقة ” الحسنة ” بسيناء، ويؤمن ضمانات زيارة مواطنيه له . ناهيك عما يسمى بـ ” صخرة ديان” شرقي سيناء كنصب تذكاري مدون عليه أسماء عدد من الطيارين الإسرائيليين القتلى.
.. سلام وتقدير لأرواح شهدائنا المصريين في حرب 67 وغيرها، فهم وذووهم يستحقون ما هو أفضل .