في ذكراه الثانية.. رجائي الميرغني فارس معارك الصحافة ومقاوم التطبيع.. محطات في حياة “المناضل المثال” (بروفايل)
كتب- محمود هاشم
“مُحارب قديم خاض المعَـارك وفَدا بِدَمُّه الوطن، لَا خَد نِيشان، وَلَا عُمرُه فَكَّر في المُقابِل والتَمن”، لم يكن الكاتب الصحفي الكبير والقيادي النقابي الراحل رجائي الميرغني، يعلم أنه بينما كان يكتب هذه الكلمات كأنما كان يتحدث عن نفسه، حيث كان طوال حياته مثالا للمعلم النبيل صاحب الضمير الحي والمواقف الصلبة، حاضرا وموجها في جميع معارك المهنة، ومخلصا لقضاياها حتى النفس الأخير.
عامان مرا على رحيل الميرغني، لكن بالتأكيد فإن سيرته أكبر من أن يمحوها الزمن ليظل تاركا بصمته كأحد العلامات المضيئة في تاريخ شيوخ المهنة ومناضليها، فلم يكن الميرغني مجرد كاتب صحفي قدير – رغم ثراء محطاته في هذا المجال – فقد تنوعت هذه المحطات بين جولات مهمة في الذود عن المهنة واستقلالها وخاض في سبيل ذلك جولات وجولات،، وفوق هذا كان إنسانا متجردا متفردا في رقيه وإنسانيته مع الجميع، وكان زوجا وأبا وصديقا استثنائيا وبارا، جسد كل المعاني الراقية في هذا السياق”، هكذا كتبت الكاتبة الصحفية الكبيرة خيرية شعلان عن زوجها الكاتب والنقابي الذي رحل عن دنيانا في الثالث من يونيو 2020.
خمسون عاما قدمها الكاتب الصحفي الراحل في خدمة الصحافة ودورها والعمل النقابي، منذ بدأ العمل رسميا محررا بقسم الأخبار بوكالة أنباء الشرق الأوسط عام 1970 وحتى وفاته، حيث لم يتخلف يوما عن المعارك والنضالات الصحفية والنقابية، سواء على المستوى المصري أو العربي، ايمانا منه بأهمية حرية الصحافة ودورها في خلق مجتمع عادل ومتقدم.
ورجائي الميرغني من مواليد 25 سبتمبر 1948 بمحافظة المنيا، تخرج في قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام 1970، وبدأ حياته المهنية محررًا بقسم الأخبار بوكالة أنباء الشرق الأوسط في العام ذاته، وتنقل بين مختلف إدارات التحرير ثم تخصص في الشئون الفلسطينية والعربية وعمل نائبا لرئيس التحرير اعتبارا من عام 2007.
ينتمى رجائي لأسرة وطنية لها دور بارز في تاريخ مصر، حيث كان والده الشيخ محمد الميرغني واحدا من قادة ثورة 1919 بمحافظة المنيا، واختير عضوا في اللجنة الوطنية التي أدارت شئون بندر المنيا أثناء أحداث الثورة ، وخاض الميرغنى الكبير انتخابات مجلس النواب وتصدر الدعوة إلي الأفكار الاشتراكية ضد الفقر والجهل والمرض بالمحافظة ، وكان شديد الإيمان بالوحدة الوطنية فكان يلقى خطبه في الكنائس والمساجد على السواء، كما حصل على شهادة العالمية من الأزهر الشريف في 3 فبراير 1938 وعمل محاميا شرعيا بعد الحصول عليها.
وشارك الكاتب والقيادي النقابي الراحل في حرب أكتوبر عام 1973 أثناء فترة تجنيده منذ عام 1972 وحتى 1975، وقاتل ضمن صفوف اللواء 16 مشاة في معركة “المزرعة الصينية” بالدفرسوار، وأصيب بشظية مدفعية خلال هذه المعركة.
وارتبط الميرغني بتاريخ مؤسسي ونقابي كبير، فعلى مستوى وكالة أنباء الشرق الأوسط، شارك مع زملائه في حملة رفض إلحاق الوكالة بوزارة الإعلام عام 1984 والتي انتهت بإعلان الحكومة تخليها عن هذه الفكرة.
وعلى المستوى النقابي، انتخب عضوا في مجلس نقابة الصحفيين لدورتين متتاليتين لمدة 8 سنوات بدءا من عام ١٩٩٥ وحتى عام ٢٠٠٣، حيث ساهم في معارك كبرى للدفاع عن حرية الصحافة واستقلال النقابة من بينها معركة قانون اغتيال الصحافة رقم 93 لسنة 1995 أثناء حكم الرئيس المخلوع حسني مبارك، كما ساهم في إعداد “مشروع قانون الصحافة” فى مواجهة مشروع القانون الحكومى مع لجنة ضمت العديد من الصحفيين والحقوقيين المخضرمين مثل أحمد نبيل الهلالي، عبدالعزيز محمد، مجدي مهنى، صلاح عيس، حسين عبدالرازق، وآخرين.
كما شارك، مع القياديين النقابيين حسين عبدالرازق وصلاح الدين حافظ، في صياغة مشروع ميثاق الشرف الصحفي الذى أقرته الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين فى يونيو 1996، وعقب ثورة يناير تم انتخابه كمنسق عام لأهم مبادرة أهلية ومدنية لإصلاح وتطوير الإعلام المصري، وهي ”الائتلاف الوطنى لحرية الإعلام”، التي ضمت العشرات من الصحفيين والصحف والمؤسسات الحقوقية المعنية بحرية الصحافة والصحفيين المستقلين.
كما تولى الميرغني مسئولية الحفاظ على تراث النقابة من الدوريات التي يرجع بعضها لزمن الثورة العرابية وكذلك الكتب القديمة والتاريخية التي ضمتها مكتبة النقابة، وقام بمساعدة أساتذة من كلية الفنون الجميلة بفك ونقل جدارية الفنان فتحي محمود، التي كانت تزين مدخل مبنى النقابة القديم، وصيانتها والحفاظ عليها بالمقر المؤقت للنقابة بالأزبكية حتى تم إعادتها إلى المبنى الحالي وتركيبها في قاعة الاجتماعات الرئيسية بالدور الرابع بالنقابة.
وضمن العديد من الخبرات والتجارب التي تركها الراحل، دليل المعايير الموضوعية والقانونية الذي أعده الراحل بعنوان ” تصحيح مسار التنظيمات النقابية للصحفيين، الذي يتضمن صياغات محددة لمكونات النظم الأساسية واللوائح الضرورية والنموذجية للتنظيمات النقابية للصحفيين العرب.
وساهم الميرغني أيضا أعمال اللجنة المكلفة بإعداد مشروع قانون إلغاء العقوبات السالبة للحرية في جرائم النشر، التي أشرف عليها الدكتور أسامة الغزالي حرب، ورأسها المستشار عوض المر رئيس المحكمة الدستورية الأسبق.
كما أعد خطة في سنة 2012 مفصلة لإنشاء هيئة وطنية للتنظيم الذاتي للصحافة ووسائل الإعلام المصرية بالتنسيق بين نقابة الصحفيين ومكتب اليونسكو بالقاهرة، تعد الأولى في مجالها في مصر، لإيمانه بضرورة تكوين هيئة مستقلة للإعلام غير تابعة للدولة وتكون كل الصحف والمنظمات الإعلامية مرتبطة بهذه الهيئة، وتابع من أجل ذلك تجارب الدول التي أسست هذه الهيئة، والتي تبلغ أكثر من 80 هيئة حول العالم، كما نظم عددا من ورش العمل في نقابة الصحفيين وبعض المؤسسات الصحفية للتدريب على هذا النظام.
معركة أخرى خاضها الميرغني ضد التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، حيث دافع عن قرارات الجمعيات العمومية لنقابة الصحفيين بخصوص رفض التطبيع، فأشار الى أول قرار ضد التطبيع إتخذته الجمعية العمومية للصحفيين فى مارس 7 مارس 1980، حيث نص على عدم إجراء اتصالات مهنية أو شخصية مع الصحفيين والإعلاميين والمؤسسات الإسرائيلية إلا بعد تمام الحل الشامل للقضية العربية، وفى مارس 1982 جاء قرار مجلس النقابة بتأكيد رفض التطبيع في أعقاب الغزو الإسرائيلي لجنوب لبنان والعدوان على الشعب الفلسطيني.
ودأبت كل الجمعيات العمومية بعد ذلك على تأكيد رفض التطبيع و83 و85 و86 وفى مارس 87 كلفت الجمعية مجلس النقابة بوضع أسس المحاسبة والتأديب لمن يخالف القرارات المتتالية لها، وظلت الجمعيات العمومية المتوالية تؤكد رفض التطبيع فى كل إنعقادتها العادية وغير العادية حتى أصبح بندا ثابتا فى كل قرارات الجمعيات العمومية المتعاقبة.
ونوه الميرغني، في مواقفه وكتاباته، إلى المادة 47 من قانون النقابة التي تنص على أن : مهمة مجلس النقابة تنفيذ قرارات الجمعية العمومية ووضع خطة العمل السياسي ومتابعة تنفيذها.
كما كان الراحل من أبرز المدافعين عن رفض حبس الصحفيين، ومصرية جزيرتي تيران وصنافير، حيث كتب في 2016، مدينا صدور الأحكام “التاريخية” بحبس يحيى قلاش نقيب الصحفيين الأسبق، وجمال عبدالرحيم سكرتير عام النقابة الأسبق، وخالد البلشىي مقرر لجنة الحريات بالنقابة سابقا، عامين وكفالة 10 آلاف جنيه لكل منهم بتهمة إيواء مطلوبين للعدالة بمقر نقابة الصحفيين، في قضية اتهام الزميلين عمرو بدر ومحمود السقا بنشر دعوة للاحتجاج على اتقافية التنازل عن تيران وصنافير.
وتساءل الكاتب الراحل حينها، موجها حديثه للقاضي الذي أصدر الحكم: “هل تصدق أن هؤلاء الزملاء بتاريخهم الوطني والنقابي وثقة جموع الصحفيين فيهم، انصرفت نيتهم بالفعل لإيواء وتهريب زملاء لهم من قبضة العدالة؟! وهل استقر في وجدانك كقاض أن أمثال هؤلاء قد اتفقوا على تجاوز وانتهاك الأعراف القانونية والنقابية المستقرة التي طالما احترموها في معالجاتهم للمئات من حالات إتهام الصحفيين في قضايا النشر.
وأضاف: “مقتضيات العقل والمنطق، وهى بالقطع أسمى وأرفع من أى أدلة صورية يمكن الاستناد إليها، أو أي نوايا ودوافع سياسية تعمل في إتجاه التنكيل بهم، تؤكد استحالة قيام هذا الاتهام المريض والمتهافت الموجه لقادة نقابة الصحفيين”.
كما ألف “الميرغني” العديد من الكتب أبرزها “الصحفيون في مواجهة القانون 1993” الذي صدر عن دار الهلال، وكتاب “نقابة الصحفيين” ضمن سلسلة النقابات المهنية التي يشرف عليها مركز الدراسات الاستراتيجية بمؤسسة الأهرام.
وللكاتب الراحل عدد كبير من المقالات والدراسات المنشورة بمختلف الدوريات حول قضايا الصحافة والتطور السياسي والنقابي.
نال الميرغني العديد من الأوسمة والدروع وشهادات التقدير من مؤسسات وهيئات مدنية وصحفية لدوره البارز في أنشطة المجتمع المدني المتصلة بقضايا حرية التعبير والصحافة وتطوير الإعلام وتكريما لمشواره النقابي، والصحفي المتميز وانحيازه لحرية الصحافة والدفاع عن حق التعبير والنشر.
وفي ديسمبر 2014، حصل على درع الشهيدة ميادة أشرف لـ “حرية الصحافة” من الاتحاد العربي للصحافة الإلكترونية بالتعاون مع نقابة الصحفيين الإلكتروني في ختام أعمال المنتدى الرابع للصحافة الإليكترونية تقديرًا لجهوده في العمل الإعلامي ومناصرة الحريات، بالإضافة إلى جهوده في وضع التشريعات الإعلامية والصحفية في مصر على مدار العقود الماضية.
كما كرمته الجمعية المصرية للنهوض بالمشاركة المجتمعية ضمن 34 شخصية عامة ساهمت في تعزيز جهود التحول الديمقراطي خلال العقد الأول من الألفية الثالثة (2010)، وأسهم في تأسيس الائتلاف الوطني لحرية الإعلام وتم اختياره منسقا عاما له في أبريل 2011.
ويعد الميرغني شخصية موسوعية بمعنى الكلمة، حيث تميز بجانب نبوغه المهني والصحفي بإبداعات في مجال الشعر “الرباعيات” وكتابة القصة “أكتوبر” وممارسة النقد الأدبي وله العديد من المقالات في هذا المجال ، وله العديد من اللوحات في الفن التشكيلي والرسم الجرافيتي داوم على إبداعها رغم انشغالاته وهمومه السياسية والمهنية الكبيرة.
*حفظ الميرغنى تجربته الثرية بمشاركته فى حرب أكتوبر 1973 فى عمل روائى طويل تناول بطولات الإنسان المصرى فى هذه الحرب وتحقيقه النصر، وقد نشرت فصول منها فى الصحف والمجلات ومواقع التواصل الإجتماعى فى مناسبات ذكرى أكتوبر خلال السنوات السابقة.
في سبتمبر 2020، أعلنت الكاتبة الصحفية الكبيرة خيرية شعلان، زوجة الكاتب الكبير الراحل، إنشاء موقع له على الإنترنت، متضمنا سيرته الذاتية وتاريخه النقابي والمهني وإبداعاته وكتاباته، في ذكرى ميلاده الـ72، بعد أقل من 4 أشهر على رحيله في 3 يونيو 2020.
تدشين الموقع جاء بمساهمة من أسرة الكاتب الراحل، وبمبادرة من المدير التنفيذي للشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان جمال عيد، حيث يعد أيضا نافذة للكتابة عن الميرغني لكل من عرفه وشاركه جانبا من مشوار حياته، وكذلك كلمات من كتبوا عنه ونعوه بعد الرحيل.
عامان مرا على رحيل الميرغني، لكن بالتأكيد فإن سيرته أكبر من أن يمحوها الزمن ليظل تاركا بصمته كأحد العلامات المضيئة في تاريخ شيوخ المهنة ومناضيليها.