سيبقى الفكر وإن غاب المفكر| باحثون ومفكرون ينعون د. حسن حنفي: مشروعه التنويري سيظل علامة فارقة.. ومنهجه لن يغيب
مدحت الزاهد: علمنا كيف نفكر وننقد ونبحث ونتعلم والكلام .. غادر دنيانا منذ ساعات وستبقى أعماله وذكراه ومنهجه حياة لا تغيب
كارم يحيى: ستظل مواقفه المحترمة في مواجهة السلطة الغشوم والعدوان على الحريات وحقوق المواطنين مضيئة ناصعة.. يكفيه أنه لم يبرر يوما لظلم أو قهر
كتب – أحمد سلامة
“إن الإسلام لا يفهم إلا في إطار تاريخي زماني مكاني، ومن ثم ما يسمى بالإسلام السياسي هو استعمال ما يفهمه الناس على أنه الإسلام أي التراث لتحقيق غايات سياسية، معظمها تأييد لنظم الحكم، دينيًا كان أم علمانيًا.
الإسلام السياسي ربما نجده في ما فعله عرابي وعمرو بن العاص وأبو ذر الغفاري مطالبا عثمان بن عفان بأخذ أموال الأغنياء وتوزيعها على الفقراء فنفاه إلى ربوة الغبراء في بلاد الشام، لكن للأسف لا أحد يأخذ هذا المعنى من الإسلام السياسي، وإن فعلت فأنت مٌتهم من الإسلاميين بأنك شيوعي متخف، ومن العلمانيين بأنك إسلامي متخف”.
صاحب هذه الكلمات هو الفيلسوف والمفكر الكبير حسن حنفي، الذي غيبه الموت، عن عمر ناهز 86 عامًا.. لكن الموت الذي غيّب جسده لن يُغيب أفكاره ولا أطروحاته ولا مشروعه الفكري الضخم، ولا الأثر الكبير الذي ظهر جليًا في مشاعر الحزن التي انتابت كثير من الباحثين والمفكرين والشخصيات العامة والقراء.
عشرات الكتُب والموسوعات، ومئات المقالات، تركها الراحل تضئ الطريق للباحثين عن أجوبة.. مشروع فكري جاد وقوي، لا يملك حتى المختلفون معه سوى النظر إليه بعين الاحترام والتقدير لذلك الجهد المضني الذي بُذل فيه، ولتلك الرؤية الواضحة التي تحتويه.
في أحد حواراته الأخيرة، قبيل وفاته، يوضح المفكر الكبير تفاصيل مشروعه فيقول “مشروعي هو التراث والتجديد، اكتبه على ثلاث مستويات، مستوى علمي للمتخصصين اسمه التراث والتجديد، وسؤاله الرئيس: التراث القديم كيف أجدده وأبدع تراثا جديدا يتفق مع أهداف العصر؟ في هذا السياق أصدرت عدة مؤلفات (من العقيدة إلى الثورة) في علم الكلام، و(من النقل إلى الإبداع) في علوم الحكمة، و(من الفناء إلى البقاء) في علم التصوف، و(من النص إلى الواقع ) في علم أصول الفقه، و(من النقل إلى العقل) في العلوم الكلية الخمسة التي تركناها في أيد الخطباء والجماعات الدينية، أعني علوم القرآن والحديث والسيرة والتفسير والفقه، و(مقدمة في علم الاستغراب) ويعكس موقفي من تراث الغرب ضد من يريدون الانتقال من تقليد القدماء إلى تقليد المحدثين، ثم – وهو الأهم- “التفسير الموضوعي للقرآن الكريم” الذي صدر لي مؤخرًا، كي نتجاوز القراءات النصية التي تعتمد على قال ويقول، لا فرق في ذلك بين قال الله وقال الرسول، وقال الرئيس وقال الأمير، وقال العمدة وقال شيخ القرية، وقال الأب وقال المدرس وقال الأخ الأكبر إلى آخره. السؤال هو: ما الذي يستطيع العقل أن يقوله؟ فالقول في حاجة إلى فهم وتكوين وإرجاع إلى المناسبة التي قيل فيها، إلى تحكيم العقل، والعقل هنا يشمل التجربة والحس والمشاهدة، فالمبدأ الأول في العقيدة الإسلامية هو (أشهد أن لا إله إلا الله)، أشهد أي أشاهد أو أرى، كالشاهد في المحكمة فإذا شاهدت شيئا وقلت بلساني شيئا آخر أكون قد كذبت على العدالة. هذا هو المستوى الأول”.
ويضيف “المستوى الثاني هو المستوى الثقافي العام، وفي هذا السياق تأتي مؤلفات مثل “قضايا معاصرة”، “هموم الفكر والوطن”، “شخصيات وقضايا”، “حوار الأجيال”، “جمال الدين الافغاني” وهي أيضا محاولة لنشر أفكار التراث والتجديد بين المثقفين”.
أما عن المستوى الثالث فقال حنفي “هو المستوى الشعبي، بث الثقافة السياسية الشعبية، وتضمنتها مؤلفات مثل: “من منهاتن إلى بغداد”، “وجوه التسلط وآفاق الحرية”، “الدين والثورة في مصر”، “الثورة المصرية في أعوامها الخمسة الأولى”، والجزء الثاني “الثورة المصرية في أعوامها السادس والسابع والثامن”، “الدين والثقافة والسياسة في الثقافة المصرية””.
كان المفكر حسن حنفي يتعامل مع “اليسار” باعتباره مطلب عصري إذ يقول “أنا أحاول أن أوزع وأنوع خطابي للناس، فاليسار الإسلامي هو جزء من الخطاب الشعبي العام، به أفكار التراث والتجديد للمتخصصين وبه تحليلات ثقافية للمثقفين، لكن النداء الأول هو للناس، أي كيف أستطيع أن أحافظ على هويتي التي هي الإسلام بصرف النظر عن تفسيره، وفي نفس الوقت ألبي مطالب عصري وهو اليسار؟ بالمعنى العام، كيف أستطيع أن اعيد توزيع الدخل القومي في مصر، وهو مطلب رئيسي، ابتداءً من ثقافتي الشعبية، وما يشعر به الناس، ومما قاله الافغاني: “عجبت لك أيها الفلاح تشق الأرض بفأسك، ولا تشق صدر ظالمك”. وأيضا الدفاع عن الحرية، بالرواية التي كنا نسمعها في المدارس ونحن صغار، عندما ضرب ابن عمرو بن العاص أحد المصريين، اشتكى المصري لعمر بن الخطاب، فقال له: اضرب ابن الأكرمين، متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا. أو عندما وقف عرابي بحصانه في قصر عابدين أمام الخديوي توفيق، يقول له: إن الله لم يخلقنا تراثا أو عقارا كي نورث، والله لا نستعبد بعد اليوم”.
ويضيف “تراثنا الشعبي قادر أن يكون حاملا للمطالب الوطنية في التنمية والعدالة الاجتماعية والاستقلال والوحدة والدفاع عن الهوية. أنظر الآن إلى كل ما يسمى الأبنية الحديثة، العاصمة الإدارية والأبراج العالية، وأتساءل كيف أنها تبنى كعلب كبريت ومربعات، وكأن القوس الهندسي في العمارة الإسلامية لم يوجد؟”
وولد الدكتور حسن حنفي بالقاهرة عام 1935، وتخرج فى كلية الآداب، قسم الفلسفة جامعة القاهرة عام 1956، سافر إلى فرنسا في نفس العام على نفقته الخاصة للدراسات العليا، حيث حصل على الماجستير ثم درجة دكتوراة الدولة من جامعة السوربون عام 1966، عمل حنفي بجامعة محمد بن عبد الله بفاس لمدة عامين (1982-1984)، ثم بعدها انتقل للعمل بجامعة طوكيو باليابان في الفترة بين (1984-1987)، كما عمل مستشارا لبرامج البحث العلمي لجامعة الأمم المتحدة في طوكيو أيضا. عاد حنفي إلى القاهرة عام 1987، حيث أشرف مع آخرين على إعادة تأسيس الجمعية الفلسفية المصري عام 1989 وشغل منصب السكرتير العام للجمعية منذ هذا التاريخ.
وترجع جذور مشروع التراث والتجديد عند حنفي إلى مرحلة الدراسة لدرجة الدكتوراة في باريس، ويتكون مشروع “التراث والتجديد”، كما يبين حنفي، من جبهات ثلاثة: موقفنا من التراث القديم، موقفنا من التراث الغربي، موقفنا من الواقع (نظرية التفسير)، يبين الدكتور حنفي كيف تم اختيار “علم الأصول” موضوعا للدكتوراة في باريس عام 1956، ويوضح مساره الفكري في مرحلة التكوين ابتداء من التأثر بفكر الإخون المسلمين ثم الحوار والتلاقح مع أساتذته في السوربون ما أنتج التصورات النهائية للمشروع.
التأثير العميق، والأسف لرحيل مفكر بقدر وقامة الدكتور حسن حنفي دفع الكثيرين إلى التعبير عن مشاعر الحزن التي اعترتهم، فكتب مدحت الزاهد رئيس حزب التحالف الشعبي الاشتراكي قائلا “وداعا د. حسن حنفي.. علمنا كيف نفكر وننقد ونبحث ونتعلم والكلام عن د. حسن حنفى الذي غادر دنيانا منذ ساعات وإن بقت اعماله وذكراه ومنهجه حياة لا تغيب”.
ويضيف الزاهد “كانت كل أسئلته في الامتحانات تدور حول ما رأيك في… ؟ ولم يكن يجدي مع هذه الطريقة لا كتاب سلاح التلميذ ولا مذكرات تتضمن الإجابات النموذجية، وهو لم يكتب يوما هذه المذكرات وكان على كل طالب أن يكتب بنفسه مذكراته.. ومحاضرات د. حسن نفسها كانت عامرة بالأسئلة، بأكثر من الإجابات ولذلك لم يجد غضاضة أن يخبرنا بأسئلة الامتحانات بعد كل فصل وهي في الحقيقة كانت تكليفا ببحث ومعه قائمة مراجع ليس بينها مذكرات الدكتور ولا سلاح التلميذ وما بين ٤ أو ٥ طلاب ينالون تقدير جيد جدا أو امتياز والأغلبية ما بين جيد ومقبول.. وقد سار د. حسن على قاعدة ديكارت: أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود.. ولم ترهبه أو يرهب طلابه بمسلمات بل علمهم النقد والتفكير وكرههم في الحفظ والسمع والطاعة والتلقين.. ولو كان هذا كل حصاده فهو يكفيه لكن حصاده كان أعظم بكثير.لروحه السلام ولحنين وأسرته الفاضلة وطلابه وعارفه فضله خالص العزاء وأثره لن يغيب”.
أما المحامي عبدالستار البلشي فقد نعى الراحل بالقول “منذ ثلاثة أيام فقط.. أحسست برغبة في قراءته، وبدأت في قراءة المجلد الأول من كتابه (من النص إلى الواقع)، وتركت الكتاب مفتوحا على المكتب ونزلت البلد لحضور جلسة في شبين الكوم، والآن أقرأ خبر وفاته فى بوست لأحد الأصدقاء.. رحم الله الدكتور/ حسن حنفى، آخر أكبر المفكرين العرب ومن أهم المفكرين المصريين فى تاريخ مصر”.
كارم يحيى الكاتب الصحفي، كتب ناعيًا “رحل المفكر، أستاذ الفلسفة المرموق والمثقف المنحاز للناس.. رحمة ونور لأبرز من علمني وأجيال فضائل التفكير النقدي وإعلاء العقل والاستقلالية عن السلطة والاستقامة.. شخصيا كنت أغادر مدرجات كلية إعلام جامعة القاهرة في النصف الثاني من السبعينيات لالتحق بمحاضراته في كلية الآداب.. وإلى هذه السنوات تعود إسهاماته الشجاعة من أجل العقل والتنوير والحرية والديمقراطية التي أشعت على نطاق جماهيري بمجلة روزاليوسف”.
ويضيف يحيى “رحمه الله سيظل مشروعه التنويري علامة فارقة في فكر ووجدان أجيال.. وظلت مواقفة المحترمة في مواجهة السلطة الغشوم والعدوان على الحريات وحقوق المواطنين مضيئة ناصعة إلى آخر ما جاهر به وكتب ونشر ويكفيه أنه لم يبرر يوما لظلم أو قهر.. وخالص العزاء لتلامذته و احبته وقرائه وعارفي فضله”.
أما الباحث عمار علي حسن فقد كتب “كل مرة قابلت فيها الفيلسوف الكبير حسن حنفي، الذي فارقنا اليوم، حرصت على مشاكسته، فهذه طريقة جيدة لإخراج بعض الساكن في رؤوس العلماء. كان رحب الصدر مُحبا، وكنت قد تعلمت من كتبه، وأعرف قدره، وأن تأثيره في شرق آسيا كبير، وإن ظل مستبعدا في بلده.. تتفق أو تختلف معه فتعويض مثله صعب”.
رغم غياب جسده، سيبقى حسن حنفي حاضرًا في عقول وقلوب تلاميذه وقراءه والمتأثرين بفكره ومنهجه، وسيبقى مشروعه الفكري ضوءًا قد يرشدنا للخروج من نفق الجهل المظلم.