عشر سنوات على ثورة يناير.. إيمان عوف تكتب: الأيام المدهشة.. (ذكريات يناير)
“العيال دي اللي عاوزه تغير الكون”
سجانة سجن القناطر
أصوات عربات الشرطة، وقنابل الغاز، وهرولة كل من حولي، لم تكن كافية، لإقناعي أن عليّ الهروب معهم، كنت وصديقتي هدير المهداوي آخر من خرج من ميدان التحرير مساء يوم 25 يناير، يوم الدهشة الأكبر في حياتي، لم أصدق أن الآلاف الذين هزوا الأرض تحت أقدامهم يهرولون أمام قنابل الغاز، لم أصدق أن كردونات الشرطة التي انفكت أمامنا بسهولة تستطيع أن تهزم الجميع.
(1)
تابعت أخبار الثورة التونسية من خلال أصدقائي في تونس، فرحت معهم بسقوط “بن علي”، تمنيت أن تلحق مصر بتونس، تمنيت ثورة طالما بشرنا ومهدنا لها عبر حركتي “كفاية” و “شباب من أجل التغيير”، ولكن الشك في أن تحدث كان المسيطر عليّ، نزلت يوم 25 يناير مع زوجي صباحًا، كانت أقصى طموحاتي أن يجتمع مئات في الميادين مثل أي مظاهرة ناجحة شاركت بها طوال حياتي، توجهنا لمقر عمل زوجي، ثم نزلنا في الميعاد المحدد لميدان التحرير، لم نجد إلا عساكر الأمن المركزي منتشرين في كل شبر بالميدان والشوارع المحيطة، قرر زوجي الذهاب إلى إمبابة، وقررت البقاء في التحرير لعل وعسى، بالقرب من باب المترو وجدت شابين لا أعرفهما، ننظر لبعضنا بترقب، عيوننا تسأل هي فين الثورة؟، فين المظاهرات؟، مش هنقول مبارك هرب!.
في البدء ارتبنا من النظرات المتبادلة، ولكن دون مقدمات توجه أحدهم إليً سائلًا هو مفيش مظاهرات؟، ابتسمت وأكملنا السير ثلاثتنا في اتجاه دار القضاء قد نصادف تجمعًا هنا أو هناك، بالفعل وجدنا كردونًا أمنيًا يحيط بمجموعة من رموز الحركة السياسية وقتها وكان أكثرهم من الجمعية الوطنية، انضم إلينا ثلاثة آخرون بدأنا نحاول أن نخرج كبار السن من الكردون الذي كان يضيق عليهم دقيقة تلو الأخرى، هتفت بأعلى صوتي، “يسقط يسقط حسني مبارك” زادني الهتاف اندهاشًا فكأن كل حرف يخرج من فمي يشق الأرض فتخرج ثوارًا، عشرات كانوا متواجدين في الشوارع والأزقة المجاورة لدار القضاء، تحول العشرات لمئات، كسر الكردون، وخرج من به وساروا معنا في اتجاه نقابة المحامين، وقفنا قليلا أمام النقابة وظل الجميع يهتف وانضم إلينا الكثير من الشباب الذين كسروا كردونًا آخر عند نقابة المحامين، شعرت بنقاء الهواء، وأن السماء تمطر فرحا والوجوه التي أراها تضيء نورا، بحثت عن وجوه طالما حاولوا نصحي أن ألتفت لحياتي وأترك السياسة، سمعت صوت سجانة القناطر وهي تتهكم علينا داخل عنبر الاحتياط وقت إن كنت في الجامعة وتقول “العيال دي عاوزه تغيير الكون” ظهر لي وجه قائد حرس الجامعة وهو يركلني في أنفي ودمي ينزف على الأرض دون توقف، انتشيت، أحسست بالانتصار الذي لم أشعر به كثيرا طيلة حياتي، دخلنا ميدان التحرير، الآلاف لم أرها مجتمعة من قبل، فور دخولنا الميدان حلّ التعب علينا جميعا.
مجموعات قليلة من النساء تشارك ولكنها تخشى الاستمرار، تبادلنا الحديث والمياه، قابلت أخي بالميدان وأصدقاء آخرين جاءوا في مسيرات من كل حدب وصوب، رقصنا على صوت الهتاف تقابلنا كأننا لم نر بعضنا من سنوات، أخذ أخي سيجارة من أحد المارة، انضم إلينا والدي، وجلسنا على مدخل الميدان نرتاح قليلا، قبل أن نلتقط أنفاسنا أغرقتنا إحدى عربات المطافئ بالمياه، الأمن يفض الميدان وأنا في ذهول، صرخت لأخي “السيجارة اللي شحتناها اتبلت” وأكملت طريقي كأني على ثقة أنهم مهزومون لا محال.
لم أعد إلى بيتي بعد فض ميدان التحرير، كان قلبي معلقًا بين طفلتي التي تحتاج للرضاعة وبين أن تفوتني لحظة واحدة في الميدان، في الصباح الباكر ذهبت لأبنائي وظللت أحكي لصغيري الذي لم يتجاوز وقتها الرابعة من عمره عن الميدان والثورة، ساعات قليلة وأعلنت القوى السياسية عن عدم النزول يوم الأربعاء 26 يناير، لكني وصديقاتي في الجريدة التي أعمل بها قررن النزول لم نكن نرغب في أن تفوت ساعة واحدة دون ثورة، تجمعنا أمام نقابة المحامين وبدأت الهتافات تعلو وعلت معها هراوات الأمن المركزي، التي ظلت تلاحقنا وتطلق علينا الخرطوش في شوارع بولاق، أصيب شاب أمامي بطلق خرطوش، ألقت سيدة أربعينية شاش وقطن وديتول من الشرفة، أمسكتهما وركضت خلف الشاب ومن خلفنا الأمن المركزي، أوقفته في إحدى الحواري كنت خائفة من أن يموت، لم أكن أعرف وقتها أن الخرطوش “بيلسع مبيموتش”، كانت حواري بولاق ضيقة للغاية لم تتمكن قوات الأمن الدخول بالعربات المصفحة فترجلوا خلفنا، لم أجد منفذًا للهرب سوى دكان نصف مفتوح فدخلت أختبئ فوجدت مجموعة من الرجال يشربون الحشيش ولم يبالوا بدخولي أو بما يحدث في الخارج، فور خروجي من المحل تلقاني أحد الضباط وظل يركلني في ظهري وبطني فأغرقته نساء بولاق بالمياه من الشرفات وألقى الشباب بالطوب من خارج الشارع فهرول مهزومًا.
اضطررت للبقاء في المنزل يوم الخميس مع أبنائي وبسبب ألم اعتداء الضابط في بولاق، فوجئت بزوجي يصطحب معه أحد الأصدقاء، الذي أبكانا، بسبب بكائه المتواصل وحالة الهلع التي كان يعيشها، ظل يبكي طوال الليل سألته لماذا البكاء؟ قال ” ببكي على الشهداء اللي هيموتوا بكرة”، ارتعد قلبي، حاولنا تهدئته بقدر المستطاع، في الصباح قطعت الحكومة الإنترنت والاتصالات، قررت التظاهر في أقرب ميدان حتى أعود لرضيعتي مبكرا، فتوجهت لميدان المطرية.
مجموعات صغيرة تشكلت كنت بينهم البنت الوحيدة، انطلقت الهتافات بعد الصلاة مباشرة، وبدأت المذبحة ، أطلقت قوات الأمن قنابل الغاز، صرخت النساء خوفًا على أبنائهن الذين نزلوا للشارع، طلب مني أحد الأشخاص الذي ينتمي للإخوان أن أرجع خلف الصفوف الأولى ففي النهاية أنا امرأة، فرفضت وقال له صديقنا الباكي هي أرجل منك، اشتدت ضربات الأمن، تراجع الشباب فهتفت وهتف خلفي كل من كان بالمكان، نزلت النساء من بيوتهن شاركن في إسعاف المصابين، هتفن خلفي ومعي وقبلي، اشتعلت النيران في قسم المطرية تاه زوجي في الزحام، بحثت عنه بين الجثث في مستشفي المطرية، الذي تحول لخلية نحل من النساء والرجال، الكل يحاول الإسعاف، البعض يرفع الجثث والآخر يجلب الشاش والقطن، وأمهات يبكين أولادهن، ارتجف قلبي من المشهد، فقدت الوعي سقطت لا أدري ما حدث، أفقت على أم شهيد تطلب من شقيقه أن يأخذ ثأره من مبارك وأولاده.
تعرفت على إحدى الفتيات التي ظلت معي طوال الوقت ذهبنا إلى أحد المحلات لنرى ما يحدث خلال التلفاز ونعود للميدان، حرقت عربات الشرطة، ولعب الأطفال بعربة ترحيلات، وفكك البعض عربات أخرى، ارتدى الشباب خوذات الجنود الذين احتموا بجامع المطراوي بالميدان وظلوا يرددون في فرح “من النهاردة مفيش حكومة إحنا الحكومة”.
أعلن حظر التجوال، قررت وصديقي أن نذهب للثوار في ميدان التحرير، فلم نجد مواصلات، بالكاد وجدنا ميكروباص متجهًا إلى غمرة، في الطريق وجدنا كل أقسام الشرطة اشتعلت وغيوم من الغاز المسيل للدموع ودخان الحرائق، لحقنا آخر مترو، والغاز يلحقنا في المترو أيضًا، سرنا على الأقدام من السيدة زينب لقصر العيني الشوارع مختنقة بدخان الأقسام، القلق يأكل قلبي على أبي وأشقائي وزوجي الذين نزلوا معي صباحا وكل منهم توجه لمكان مختلف، وصلت قصر العيني.. إنها مذبحة جديدة، قابلت بعض من أصحابي ألقيت بنفسي في أحضانهم وجسدي ينتفض من الدماء التي سالت بالمطرية، سألت علي أهلي؟، لم يرهم أحد، قابلت إحدى الفتيات التي تسكن بقصر العيني فسألتها على تليفون أرضي، أدخلتني بيتها وأطعمتني ولكن.. “نسيت رقم تليفون منزل أبي”، نسيت جزءًا كبيرًا من الأشياء، عقلي لم يعد قادرًا على التذكر، ظلت معي وحاولت مرات لكني فقدت الأمل تماما، خرجت مع المتظاهرين، الذين بدأوا في الاشتباك مجددا مع الشرطة بالقرب من وزارة الداخلية، قتل شاب كان يقف بجواري بقناصة الداخلية فلم أبال، الآن فقط قلبي ينتفض عندما أتذكره، يبدو أنني وقتها فقدت القدرة على الإحساس بأي شيء لا الخطر ولا الخوف ولا أي شيء…
دخلت الميدان عربات تسير بالكاد تابعة للجيش الجميع هرول خلفها، لكني لم اطمئن لها، فهل سينقذوننا من يد الداخلية بهذه العربات المتهالكة؟، لم يمر وقت طويل وفتح الكردون الذي كان أمام مجلس الشعب لنفاجأ بالمدرعات تلاحقنا من كل اتجاه، رأيت البعض يسرقون ماكينات الصرافة، ورأيت من ينهونهم عن ذلك، رأيت شابا يحاول أن يمنع آخرين من كسر كشك، “حرام دا صاحبه مننا” فيتركوه، هرولت مع إحدى الصديقات خلف جامع عمر مكرم بالقرب من مركز التجارة بفندق هيلتون، اندفعت خلفنا المدرعات من كل الاتجاهات، توقفت تماما عن الحركة أو الإحساس ولم أر سوى صورة شادي وفرح أبنائي، فوجئت باثنين من شباب الأمن الإداري بالفندق يهرولان في اتجاهي، جذبانى بكل قوتهما داخل الفندق وأغلقا الأبواب، وفتحا الأبواب للمصابين الذين كانوا يأتون من قصر العيني وميدان التحرير، بعضهم استشهد، وبعضهم كان مصابًا بالهلع، أغرب ما في الأمر انه وسط كل تلك الأحداث كان هناك رجل يبدو من ملابسه صعيدي يولول على إصابته بين فخذيه ويقول “مفيهاش خلف تاني” لينفجر الجميع في الضحك وسط مدرعات تطلق قذائفها في كل اتجاه.
إيمان عوف
صحفية