«فخ تقنين المِهرجانات».. ورقة لـ«حرية الفكر» ترصد محاولة فرض مفاهيم محافظة على أغاني المهرجانات: الاعتراف مقابل نزع الهوية
كتبت- كريستين صفوان
أصدرت مؤسسة حرية الفكر والتعبير ورقة بحثية بعنوان «فخ تقنين المهرجانات: الاعتراف مقابل نزع الهوية»، رصدت وحللت التصريحات والقرارات الصادرة عن مجلس نقابة المهن الموسيقية بخصوص أغاني المهرجانات، وكذا القوانين المنظمة لعمل النقابة التي تشير الورقة إلى أنها «تحولت إلى أداة رقابية تميل إلى تبني مواقف أيديولوجية بعينها».
وقالت «حرية الفكر» في ورقتها، إن الصراع الحالي الدائر حول المهرجانات ليس سوى حلقة جديدة في تاريخ طويل من الصراع حول ثنائية الفن «الهابط» و»الراقي»، أو المنحط والهادف، ففي أوقات سابقة كان الغناء الشعبي، هو المستهدف بالهجوم، وفي أوقات أخرى كان ما سمي بالأغنية الشبابية.
وأضافت المؤسسة أنه في سياق الأزمة الحالية، استدعي الغناء الشعبي مرة أخرى إلى النقاش بطريقة دالة على التناقض في الخطاب المعادي لحرية الإبداع الفني، لافتة إلى أن «هذه المرة لا يكتفي أصحاب هذا الخطاب بتصنيف فن ما بالهابط، بل يصل عدم الاعتراف إلى حد نزع صفة الفن عن نوع من أنواع الإبداع، وفي نفس الوقت، وللمفارقة، يوصف باسم وسمات محددة وواضحة بما يكفي لفرزه واستبعاده تحت اسم المهرجانات، وهو الاسم نفسه الذي يستخدمه مبدعوه ومستمعوه».
واعتبرت الورقة أن نقابة الموسيقيين في عهد النقيب الحالي هاني شاكر أصبحت صاحبة مشروع متماهٍ مع المشروع الأيديولوجي للنظام السياسي الجديد، الذي يسعى إلى «فرض السيطرة والانضباط على نطاقات الحياة الاجتماعية والسياسية» لتجاوز ما يعتبره «سنوات من الفوضى والانفلات وفقدان السيطرة على كل الأصعدة».
وبحسب الورقة فإن نقابة الموسيقيين «تخوض حملة شرسة، تتسم، من ناحية، بالتأكيد على دورها الرقابي المنافي للقانون الذي تأسست بموجبه (35 لسنة 1978)، ومن ناحية بلغة عنيفة وإقصائية وذات صدًى أمني بشكل غير مسبوق في هجومها على من تسميهم الدخلاء على الموسيقى».
ورصدت مؤسسة حرية الفكر والتعبير تطور الهجوم على المِهرجانات التي تتميز بانتشارها بمعزل عن منظومة الإنتاج التقليدي، والذي وصل إلى حظر أغاني المهرجانات في الأماكن العامة والسياحية.
وبحسب الورقة البحثية لـ«حرية الفكر» فإن القانون رقم 35 لسنة 1978 والمنظم لعمل النقابات الفنية لا يمنح أي سلطة عقابية على الأفراد أو المنشآت الخارجة عن نطاق تصرف النقابة، وأن قرار المهن الموسيقية تغوَّل في عمل وزارة السياحة المعنية بالإشراف والمراقبة على النشاط السياحي.
وأشارت الورقة إلى أن القرار نجح في تعطيل الحفلات والأفراح وأي التزامات فنية تعاقد عليها أي من مغنيِّ المهرجانات للعرض على جمهور عام، إلا أنه لم ينجح في تحجيم إصدار أغانٍ جديدة عبر الإنترنت، فلجأ نقيب الموسيقيين هاني شاكر إلى مخاطبة إدارة موقعي «يوتيوب» و«ساوند كلاود» بغرض حذف أغاني المهرجانات المنشورة على منصتيهما.
وفي شهادات أُدلي بها لمؤسسة حرية الفكر والتعبير، أكد 4 من مغني المهرجانات أنهم تكبدوا خسائر مادية بالآلاف جراء قرار النقابة، وأن بعضهم اضطر إلى دفع شروط جزائية عن التعاقدات المبرمة معهم قبل قرار المنع.
ويقول «مودي القائد» إنه من المستحيل عمليًّا التحكم في فن المهرجانات، لأن المواطنين من كافة الفئات يستمعون ويرقصون على موسيقاه، وتابع: «اضطريت أوقف شغلي ورديت العربون احترامًا لقرار النقابة».
وقد قدرت مواقع صحفية الخسارة المقربة التي تقع على مغنيِّ الصف الأول منهم بـ 120 ألف جنيه شهريًّا نظير إحياء من 4 إلى 5 حفلات أو أفراح، وذلك بحسب ما ذكرت الورقة البحثية لمؤسسة حرية الفكر والتعبير.
وبعد أكثر من شهر على بدء الأزمة افتتحت نقابة المهن الموسيقية ما يبدو أنه فصل جديد في الصراع، بعد أن أعلنت عن استحداث شعبة جديدة تحت اسم «الأداء الشعبي»، ولكن نافية في الوقت ذاته عن كونها شعبة «المهرجانات».
ورأت «حرية الفكر» أن قرار التقنين جاء متخبطًا وسريعًا، وهو ما اتضح من خلال التصريحات المتضاربة لمسئولي النقابة، حيث أكد المتحدث الإعلامي لنقابة المهن الموسيقية، أن القرار الذي أصدرته النقابة، لا يعني الاعتراف بأغاني المهرجانات كما فسر البعض، وتابع طارق مرتضى أن القرار تأكيد على موقف النقابة: “مفيش حاجة اسمها مهرجانات، الشعبة الجديدة اللي أطلقناها هي شعبة الغناء الشعبي، والمتقدم لهذه الشعبة لا بد أن يمر بـ 3 مراحل، وهذه المراحل كفلها القانون منذ زمن بعيد”.
وقالت المؤسسة إن القانون رقم 35 لسنة 1978 بشأن النقابات الفنية في مصر ينظم عمل نقابة المهن الموسيقية، وتوضح المادة الثانية من لائحته التنفيذية والتي أقرها مجلس النقابة في عام 2007 طبيعة المنضمين إلى النقابة: «ويجوز أن تضم النقابة إلى عضويتها النقاد الموسيقيين وكذلك مستخدمي الأجهزة الحديثة الحالية والتي تستحدث في التشغيل الموسيقي والغنائي وفقًا للشروط والمعايير الواجب توافرها لعضوية النقابة».
وأكدت «حرية الفكر» أن نقابة المهن الموسيقية ملزمة طبقًا للقانون بالانفتاح على أشكال موسيقية وغنائية جديدة ومختلفة، غير أن قرار «التقنين» لا يسمح لمغنيِّ المهرجانات بالحصول على عضوية عاملة أو منتسبة، لكنه يسمح فقط بإعطاء تصاريح غناء تجدد سنويًّا، ويجوز سحبها وعدم تجديدها مرة أخرى دون إجراء تحقيق، في حال «مخالفة الآداب العامة»، كما اشترط القرار توقيع طالب التصريح على إقرارات تلزمه بالآداب العامة وغناء كلمات تناسب «القيم» و«الأعراف»، ولا يحق للمصرح لهم في شعبة الأداء الشعبي الانتخاب أو الترشح داخل النقابة.
وقالت الورقة إن استحداث شعبة «الأداء الشعبي» لم يختلف قرار عما كان متبعًا في أوقات سابقة، فكانت نقابة الموسيقيين تسمح في بعض الأحيان بإعطاء تصاريح غناء وإقامة حفلات لبعض مغنيِّ المهرجانات بعد إجازة هيئة الرقابة على المصنفات الفنية، وهي تصاريح تعطى بمقابل مادي ولا تتطلب خوض اختبارات (تصريح دي جي)، غير أنها أصبحت الآن تضمن إخضاع المهرجانات لسيطرتها من خلال رسم كود اجتماعي وأخلاقي غير محدد التفاصيل لكلمات وموسيقى الأغاني وحتى لملابس وأسماء المغنين.
وشددت مؤسسة حرية الفكر والتعبير على أن الدستور المصري الحالي كفل حرية الإبداع الفني والأدبي، وألزم في مادته 67 الدولة بـ«النهوض بالفنون والآداب، ورعاية المبدعين وحماية إبداعاتهم، وتوفير وسائل التشجيع اللازمة لذلك». غير أن هذه المادة، وفق الورقة، تبقى «نظرية ومجردة»، إذ يخضع تفسيرها لذائقة السلطة السياسية والاجتماعية، بحيث تحتكر تأويل وتفسير هذه البنود، فتدعم ما تراه إبداعيًّا وفقًا لتعريف غير معلن للإبداع والفن، وتصادر وتمنع كل ما يخرج عن حدود تعريفها المبهم.
وقالت المؤسسة إنه «في سبيل جعل هذا التطويق أكثر إحكامًا تضع الدولة من خلال مؤسساتها المختلفة مزيدًا من القوانين والهيئات يمر من خلالها أي عمل إبداعي لتضمن تشذيبه وتهذيبه بما يوافق ذائقتها، خاصة إذا عجزت عن فهمه أو امتلاكه».
وأضافت: «لكن من المهم أن نؤكد على أن الصراع حول المشروعية الفنية جديد نوعيًّا هذه المرة، ويكفي أن نتذكر كيف أن المهرجانات تتعرض للهجوم كنوع أو شكل فني على مستوى غير مسبوق لكنه ليس النوع أو الشكل المحدد الأول، فقد سبقه الزار والديث والبلاك ميتال، لكن الجدل حولهما انصب على الجانب الأخلاقي (الديني) والاجتماعي، ومن هنا تأتي الأهمية الخاصة للصراع الحالي بالنسبة إلى قضية الفكر والتعبير، فبالرغم من أن الأنواع الثلاثة تتعرض للشيطنة فإن المهرجانات تتعرض أيضًا للطعن في كونها فنًّا من الأساس، وبالتالي في مشروعية خروجها للعلن».
وأشارت الورقة إلى أن المثقفين المقربين من الدولة والنظام يشاركون في عملية إنكار صفة الفن مع ما لا تريد المؤسسة الرسمية الاعتراف به وتحاربه، في تناغم تام مع خطاب النقابة الذي يربط هذا الإنكار بالجوانب الأخلاقية والاجتماعية والجنائية من ناحية، وبالوطنية من ناحية أخرى باعتبار المهرجانات في هذه الحالة شيئًا شاذًّا وغريبًا على مصر والشعب المصري ويمثل تهديدًا قوميًّا.
وشددت الورقة على أنه لا يمكننا التغاضي عن الكيفية التي أصبحت بها لغة بيانات وتصريحات النقابة مستعارة من القاموس الأمني والعسكري، باستخدامها لعبارات مثل «تكدير السلم العام» و«الإساءة لسمعة مصر».
وقالت مؤسسة حرية الفكر إنه «يمكن بالطبع النظر إلى استحداث شعبة جديدة بالموسيقيين على أنه انتصار لصالح حرية الإبداع وبالأخص فن المهرجانات، ولا سيما عندما يراه مغنو المهرجانات أنفسهم كذلك، غير أنه يبقى إجراءً شكليًّا لا يعبر عن أي انفتاح فعلي في رؤية النقابة للفنون والأشكال المختلفة من الغناء، فحرب الدولة ضد هذا النوع مستمرة، أكان انطلاقًا من رغبتها في ترسيم الذوق العام أو الهيمنة على سوق الإنتاج الفني والذي بات سمة أساسية منذ 2014».
وأضافت في ختام ورقتها البحثية أن «السماح بشعبة تسمى الأداء الشعبي ما هو إلا فصل جديد في الصراع الممتد منذ سنوات، بمعنى أنه مواءمة توصلت إليها النقابة تبين عجزها، من ناحية في استمرار تجاهل وجود وجماهيرية المهرجانات وإمكانيات التربح منها ولكن بتطويع جديد يلائم رؤيتها عن الفن والمجتمع والذوق العام».
وتابعت أن الأمر لا يتوقف الأمر على الهيمنة بمعنى الاحتكار التجاري أو التحكم السياسي، وربما يكون الأدق لوصف ما يحدث القول بأنه محاولة لفرض مفاهيم أيديولوجية محافظة، ومحددة سلفًا، على أشكال التعبير الفني.