فوز زهران ممداني يعيد رسم المشهد السياسي في نيويورك.. وتأثيرات محتملة على حضور نتنياهو اجتماعات الأمم المتحدة
كتب – أحمد سلامة
شهدت مدينة نيويورك تحولًا سياسيًا لافتًا بعد إعلان فوز السياسي الديمقراطي زهران ممداني بمنصب عمدة المدينة، في انتخابات مثيرة حظيت بمتابعة محلية ودولية واسعة نظرًا لطبيعة المرشح وخلفيته السياسية ومواقفه المُعلنة تجاه قضايا داخلية وخارجية حساسة.
ويُنظر إلى هذا الفوز —وفق محللين وخبراء أمريكيين— باعتباره لحظة مفصلية تعكس تغيّرًا أعمق في اتجاهات التصويت داخل المدن الكبرى، وبشكل خاص بين الأجيال الشابة والطبقات المتضررة من ارتفاع تكاليف المعيشة.
ممداني، البالغ من العمر 34 عامًا، والذي ينتمي لأصول جنوب آسيوية ومسلمة، يعد أول شخص من خلفيته هذه يصل إلى منصب عمدة نيويورك، والأصغر سنًا في هذا المنصب منذ أكثر من مائة عام.. ورغم أن المدينة لطالما شهدت فائزين من الحزب الديمقراطي، فإن خلفية ممداني وميوله التقدمية تعني — بحسب المراقبين — أن المدينة قد تكون مقبلة على مرحلة جديدة من السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
وتفوق ممداني على المرشح المستقل أندرو كومو، الحاكم السابق للولاية، بفارق يقارب تسع نقاط مئوية، فيما حل المرشح الجمهوري كورتيس سليوا ثالثًا.. ووفق استطلاعات خروج الناخبين التي نقلتها وسائل إعلام أمريكية، فإن الناخبين تحت سن الخامسة والأربعين صوّتوا لممداني بنسبة تفوق الفارق الذي حصل عليه كومو بين الأكبر سنًا، في مؤشر على اتساع الهوة السياسية بين الأجيال داخل المدينة.
وسجّلت الانتخابات مشاركة وُصفت بأنها الأعلى منذ عقود، إذ تجاوز عدد المصوتين مليوني شخص، وهو ما فسره محللون بخليط من الدعاية الرقمية المكثفة، والانخراط السياسي للشباب بعد سنوات من الجدل حول العدالة الاقتصادية والسكن.
وقد بنى ممداني حملته على برنامج واضح يركز على خفض تكاليف المعيشة، وهي الأزمة التي تعد محور الشكوى الأساسية لسكان المدينة، حيث ارتفعت معدلات الإيجارات خلال السنوات الخمس الأخيرة بنسب تتجاوز 20% في بعض الأحياء.. ويشمل برنامج العمدة المنتخب مقترحات مثل تجميد الإيجارات لملايين الوحدات، وتوسيع خدمات رعاية الأطفال والتعليم المجاني، وزيادة الدعم لوسائل النقل العامة، بحيث تصبح الحافلات على وجه الخصوص متاحة دون تكلفة للمستخدمين.
ويرى أنصاره أن هذه البرامج تمثل محاولة لتخفيف الضغط على الأسر العاملة والطبقات المتوسطة، في حين يرى معارضوه، من داخل أوساط الأعمال والجمهوريين وبعض الديمقراطيين الوسطيين، أن هذه السياسات قد تزيد الأعباء على ميزانية المدينة، التي تتجاوز 100 مليار دولار وتعتمد بشكل كبير على الضرائب وإيرادات الشركات.
وفي خطاب الفوز الذي ألقاه أمام حشد من أنصاره في بروكلين، قال ممداني إن حملته كانت “رهانًا على إمكانية استعادة المدينة لأهلها”، مشيرًا إلى أن انتخابه يعكس رغبة واسعة في تغيير السياسات لا الوجوه فقط.
وأضاف أنه يطمح إلى إدارة مدينة أكثر عدالة اجتماعية، دون أن يعني ذلك إهمال متطلبات الاستثمار والنمو الاقتصادي، مؤكداً أن التحدي الحقيقي يكمن في “إيجاد توازن يصون كرامة السكان ويعزز الاقتصاد في آن واحد”.
غير أن ما أثار جدلًا واسعًا، سواء خلال الحملة أو بعد إعلان النتائج، هو تصريحات سابقة نُسبت لممداني بشأن احترامه لقرارات المحكمة الجنائية الدولية، بما في ذلك القضايا المتعلقة برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي صدرت بحقه مذكرة توقيف من المحكمة في سياق الاتهامات المتعلقة بالنزاع في غزة.
وقد فسرت بعض وسائل الإعلام هذه التصريحات باعتبارها قد تؤثر — نظريًا — على زيارات نتنياهو المستقبلية إلى نيويورك، حيث يوجد مقر الأمم المتحدة ويجري عادة انعقاد الجمعية العامة السنوية.
ورغم أن خبراء قانونيين يشككون في إمكانية تنفيذ أي إجراءات من هذا النوع بسبب الاعتبارات القانونية للحصانة الدبلوماسية والحدود الفيدرالية لصلاحيات عمدة المدينة، فإن تداول هذا الموضوع يعكس — بحسب محللين سياسيين — تغيرًا ملحوظًا في المزاج السياسي لدى قطاعات من الديمقراطيين الشباب، الذين أصبحوا أكثر صراحة في انتقاد السياسات الإسرائيلية والدعوة إلى إعادة تقييم الدعم الأمريكي لإسرائيل.
وتشير تقديرات أكاديمية إلى أن فوز ممداني قد يعزز حضور ممثلي الأقليات، بما في ذلك الأمريكيين المسلمين، في الحياة السياسية الأمريكية، حيث يبلغ عدد المسلمين في الولايات المتحدة نحو 3.5 مليون نسمة.. كما قد يؤدي ذلك إلى زيادة الضغط داخل الحزب الديمقراطي نحو تبني سياسات خارجية تراعي القضايا الحقوقية بشكل أوضح، خاصة في ظل تزايد الحركة الطلابية والمجتمعية المؤيدة لحقوق الفلسطينيين.
وفي المقابل، يتوقع مراقبون أن تواجه إدارة ممداني تحديات كبيرة، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، إذ قد يؤدي تنفيذ سياسات تقدمية واسعة إلى توتر مع المستثمرين والشركات الكبرى، ما قد يدفع بعضها إلى تقليص نشاطها أو نقله خارج المدينة.
وفي السياسة الداخلية، قد يجد نفسه في مواجهة مباشرة مع الحكومة الفيدرالية إذا ظل التوتر قائماً مع إدارة جمهورية أو ذات توجهات محافظة.
ويرى البعض أن نجاح ممداني أو تعثره سيكون له تأثيرات تتجاوز نيويورك، وربما ينعكس على الانتخابات التشريعية المقبلة وكذلك الانتخابات الرئاسية، خاصة إذا ظهرت المدينة كنموذج لاختبار إمكانية تطبيق سياسات تقدمية على نطاق واسع داخل الولايات المتحدة.
في المجمل، يمثل فوز زهران ممداني لحظة سياسية فارقة تعكس تحوّلات اجتماعية واقتصادية وصراعات أعمق حول توزيع السلطة والموارد في واحدة من أكثر المدن تأثيرًا في العالم.. وبينما يرى مؤيدوه أن هذا الفوز يعبر عن “انتصار للأمل”، يرى معارضوه أنه قد يفتح الباب لإشكالات اقتصادية وسياسية جديدة.
ويبقى الحكم الحقيقي على تجربة ممداني مرهونًا بقدرته على إدارة توازن دقيق بين الطموحات والممكنات، وبين ضغط الشارع ومقتضيات الحكم، في مدينة اعتادت أن تكون مرآة الولايات المتحدة قبل أن تكون مجرد مدينة كبرى فيها.

