أين الوفد؟| محمد عبدالعليم داوود.. نائب المعارضة الذي تُرك وحيدًا في معركة الهيمنة الانتخابية

كتب – أحمد سلامة

بينما تستعد مصر لانتخابات مجلس النواب 2025 في أجواء مشحونة بالاحتقان السياسي وغياب التعددية الحقيقية، يجد النائب المخضرم محمد عبدالعليم داوود نفسه أمام معركة غير متكافئة.
الرجل الذي عُرف لسنوات بـ”نائب الجرأة” و”ضمير المعارضة داخل البرلمان”، يخوض سباقه الانتخابي هذه المرة دون دعم من حزبه التاريخي الوفد، الذي تخلى عنه في لحظة فارقة، تاركًا إياه يواجه تحالفًا واسعًا بين السلطة ورأس المال، وسط تضييقات متزايدة على الأصوات المعارضة المستقلة.

* بدايات التكوين: من الصحافة إلى ساحات البرلمان

ولد داوود في محافظة كفر الشيخ عام 1961، ونشأ في بيئة ريفية بسيطة شكّلت وعيه الاجتماعي والسياسي، تخرّج من المعهد العالي للدراسات التعاونية والإدارية عام 1998، لكنه بدأ مسيرته المهنية مبكرًا في جريدة الوفد، لسان حال الحزب العريق.
في سنوات عمله الأولى كصحفي، لم يكن مجرد محرر؛ بل كان كاشفًا لقضايا فساد هزّت الرأي العام، أبرزها قضية “السيد الباز” عام 1989، التي كشفت استغلال النفوذ للاستيلاء على أراضي الدولة.
منذ ذلك الوقت، اكتسب داوود سمعة “الصحفي المقاتل”، الذي لا يخشى السلطة ولا يسكت على الفساد، وهي السمعة التي انتقلت معه لاحقًا إلى قاعات البرلمان.

* النائب المشاغب: صدام دائم مع السلطة

دخل داوود الحياة النيابية عام 2000 ممثلًا لحزب الوفد عن دائرة فوه – مطوبس – دسوق، في وقت كانت فيه المعارضة داخل البرلمان محدودة التأثير، لكنه سرعان ما فرض نفسه بصوته الجريء وخطابه الشعبي القريب من الناس.
قدّم عشرات طلبات الإحاطة حول الفساد، والبنية التحتية، وتدهور الخدمات العامة في محافظته.. وكان من أبرز إنجازاته الدفع باتجاه إنشاء جامعة كفر الشيخ، وهو مقترح تحوّل لاحقًا إلى حقيقة، كما كان من أوائل النواب الذين طالبوا بمحاكمة رئيس الوزراء الأسبق عاطف عبيد بتهم الفساد في صفقات بيع شركات القطاع العام.

خلال فترة عمله البرلماني التي امتدت لما يقارب عقدين، شغل داوود مناصب قيادية داخل حزب الوفد، من بينها رئاسة الهيئة البرلمانية للحزب وعضوية لجنة الشؤون الدستورية والتشريعية. لكنه في الوقت ذاته ظل شوكة في حلق السلطة، ينتقد السياسات الاقتصادية ويرفض تبرير الأزمات الاجتماعية باسم “الإصلاح”.
في عام 2008، أثار جدلًا واسعًا عندما وصف الحكومة بأنها “مجموعة من الحرامية” بسبب ارتفاع الأسعار، وتمت إحالته حينها إلى لجنة القيم، ليصبح أحد أبرز وجوه المعارضة الحقيقية تحت القبة.

* “مرشحو الكراتين”.. المعركة التي غيّرت مساره

لم تكن علاقة داوود بقيادة حزب الوفد مستقرة. في يناير 2021، وخلال جلسة برلمانية محتدمة، هاجم ما اعتبره شراء أصوات في الانتخابات السابقة، واصفًا بعض النواب بـ“مرشحي الكراتين”، في إشارة إلى توزيع مواد غذائية على الناخبين مقابل الأصوات.
أثار التصريح عاصفة داخل البرلمان، انتهت بإحالته إلى لجنة القيم، ثم صدور قرار من رئيس الحزب آنذاك بهاء الدين أبو شقة بفصله من الحزب.
قال داوود حينها إن ما جرى “هو ذبح ثم تمثيل بالجثة”، معتبرًا القرار جزءًا من حملة لإقصاء الأصوات المعارضة داخل الوفد نفسه.
بعد أشهر، عاد داوود إلى الحزب بوساطات من قيادات قديمة، لكنه لم ينس التجربة، التي كشفت له هشاشة البنية الديمقراطية داخل الكيانات السياسية التقليدية.

* انتخابات 2025: معركة بلا غطاء حزبي

يدخل داوود انتخابات 2025 في ظروف معقدة. فبينما كان من المتوقع أن يكون أبرز مرشحي حزب الوفد في كفر الشيخ، قررت قيادة الحزب فجأة عدم دعمه، بل الامتناع حتى عن إصدار بيان توضيحي بشأن ترشحه، حسب مصادر داخل حملته.
توجه الوفد إزاء داوود اعتبره مقربون “طعنة سياسية”، خصوصًا أنه جاء بعد أشهر من التحضيرات الميدانية التي أجراها داوود لحملته الانتخابية.

تقول مصادر داخل الحملة إن الموقف من داوود يعكس “رغبة في تجنب الصدام مع السلطة”، في حين يؤكد أنصاره أنه تلقى “إشارات بعدم دعمه”، ما جعله يواجه الموقف وحيدًا.

* أجواء انتخابية خانقة: تحالف السلطة ورأس المال

تأتي الانتخابات في ظل مناخ سياسي يغيب فيه التنافس الحقيقي، بعد إقصاء بعض مرشحي المعارضة من الترشح أو تعطيل إجراءاتهم القانونية. في كفر الشيخ، حيث يخوض داوود معركته، تسيطر تحالفات انتخابية بين رجال أعمال موالين للسلطة وأعضاء سابقين في الحزب الوطني، مدعومين بإمكانات مالية ضخمة.
أما حملته، فتعتمد على الجهد الشعبي والمتطوعين من أبناء القرى، دون لافتات مكلفة أو تمويل من رجال أعمال. يقول أحد أنصاره في دسوق: “الناس هنا تعرف من وقف معهم، ومن كان صوته من أجلهم، لكن الكلمة أصبحت لا تُسمع في هذا الزحام المالي والإعلامي”.

على الأرض، يواجه داوود تضييقًا إداريًا وإعلاميًا، إذ جرى تقليص ظهوره في القنوات الفضائية، ومنع بعض لقاءاته الجماهيرية.. كما أزيلت بعض لافتاته من عدد من الشوارع .
يرى مراقبون أن ما يجري يعكس اتجاهًا لإغلاق المجال العام تمامًا أمام المعارضين الحقيقيين، وتحويل الانتخابات إلى عملية شكلية لإعادة إنتاج السيطرة على البرلمان تمهيدا لإجراء تعديلات دستورية، حسب ما أعرب بعض المتابعين.

* “لا أبحث عن منصب بل عن حق الناس في الكلمة”

في تصريحاته عبر صفحته الرسمية على فيسبوك، التي يتابعها أكثر من 90 ألف شخص، يؤكد داوود أن المعركة الحالية ليست معركة مقعد بل “معركة بقاء صوت المعارضة”.
ويركز برنامجه الانتخابي على ثلاث قضايا رئيسية: العدالة الاجتماعية، والشفافية في إدارة المال العام، ودعم الزراعة والفلاحين.
وفي لقاء شعبي في فوه الأسبوع الماضي، قال داوود: “الديمقراطية ليست شعارات تُقال، بل سلوك يُمارس.. والبرلمان المقبل يُراد له أن يكون بلا معارضة، وأنا أرفض أن أكون شاهد زور على ذلك.”

* الوفد بين التاريخ والواقع: أزمة الحزب العريق

تخلي حزب الوفد عن داوود أعاد فتح نقاش واسع حول مستقبل الأحزاب التاريخية في مصر. فالحزب الذي قاد الحركة الوطنية ضد الاستعمار وأسس للحياة النيابية، بات اليوم – بحسب مراقبين – أقرب إلى “ديكور سياسي” من كونه كيانًا معارضًا.
يرى محللون أن الأزمة مع داوود تعكس تحوّل الوفد من حزب ليبرالي معارض إلى حزب يسعى للبقاء ضمن الهامش المسموح به من السلطة، وهو ما يضعف قدرته على تقديم وجوه جماهيرية مثل داوود، الذي يُعد من آخر النواب الباقين على النهج الصلب للمعارضة الشعبية.

* بين الشارع والبرلمان: هل يصمد صوت المعارضة؟

في الوقت الذي يراهن فيه كثيرون على صمت الشارع، يصر داوود على التواصل المباشر مع الناس.. جولاته في قرى مطوبس ودسوق تشهد إقبالاً لافتًا من المواطنين البسطاء، الذين يرون فيه امتدادًا لتاريخ من الدفاع عن مصالحهم.
لكن المراقبين يرون أن موازين القوى الانتخابية الحالية تحاصر فرصه في الفوز، إذ يتنافس مع مرشحين مدعومين بتمويلات ضخمة وإعلام منحاز، في وقت تتراجع فيه قدرة المعارضة على الحشد والتنظيم.
رغم ذلك، يقول أحد أعضاء حملته: “حتى لو خسر المقعد، لن يخسر مكانه في وجدان الناس.. داوود لم يكن نائب خدمات فقط، بل ضمير الدائرة وصوتها العالي ضد الفساد”.

* النائب الذي لم يساوم

في النهاية، يبقى محمد عبدالعليم داوود نموذجًا للنائب الذي اختار طريقًا صعبًا: طريق قول الحقيقة في وجه القوة.. فبينما يلوذ كثيرون بالصمت أو بالتحالف مع السلطة طمعًا في مقعد أو حماية، يواصل داوود مساره متحديًا ما يصفه بـ”تحالف المال والسياسة لإسكات المعارضة”.
تخلي حزب الوفد عنه، وحرمانه من الدعم الإعلامي، ومحاولات عزله سياسيًا، كلّها لم تنل من عزيمته، بل جعلته أكثر إصرارًا على المضي في معركته حتى النهاية.
وإذا كانت نتيجة انتخابات 2025 ستُعلن قريبًا، فإن نتيجة معركة داوود الرمزية قد حُسمت منذ زمن: أنه اختار أن يظل صوتًا حرًا في زمنٍ يُكافأ فيه الصمت ويُعاقَب فيه الكلام..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *