عبد الحميد ندا يكتب: أزمة إنسانية وأمنية تهدد مصر والعالم

يشكّل النزوح الكامل لسكان قطاع غزة إلى سيناء أحد أسوأ السيناريوهات الكارثية التي قد تواجه المنطقة والعالم.. هذا الحدث لا يعني مجرد تحرك بشري عابر، بل يمثل أزمة إنسانية وأمنية واقتصادية متعددة الأبعاد. فمنذ أكتوبر 2023، نزح أكثر من 85% من سكان غزة داخليًا، وإذا تحوّل هذا النزوح إلى تهجير قسري كامل، فإن أكثر من 2.3 مليون فلسطيني سيتدفقون إلى شمال سيناء، ما يضع مصر أمام تحديات غير مسبوقة، ويفتح الباب أمام تداعيات إقليمية ودولية عميقة.

على الصعيد المصري، تبدو التداعيات مزدوجة: إنسانية واقتصادية من جهة، أمنية وسيادية من جهة أخرى. إن استيعاب هذا العدد الهائل من النازحين سيكلف مليارات الدولارات سنويًا لتوفير الغذاء والمأوى والخدمات الصحية، في وقت يعاني فيه الاقتصاد المصري من أزمات متراكمة. شمال سيناء، ببنيتها التحتية الضعيفة، ستواجه ضغطًا يفوق قدرتها على التحمل، ما قد يؤدي إلى انهيار الخدمات الأساسية وانتشار الأوبئة. أما أمنيًا، فإن تدفق هذا العدد الكبير قد يعيد إحياء أنشطة الجماعات المتطرفة في المنطقة، ويشكّل تهديدًا مباشرًا لسيادة مصر وأمنها القومي، خاصة مع الخشية من أن يصبح النزوح دائمًا على غرار نكبة 1948.

أما إسرائيل، فهي وإن كانت قد ترى في إفراغ غزة مكسبًا تكتيكيًا، إلا أن الكلفة السياسية والدبلوماسية ستكون باهظة. فالمجتمع الدولي سيضعها في مرمى الاتهامات بارتكاب جرائم تهجير قسري وجرائم ضد الإنسانية، ما يهدد بعزلتها حتى عن حلفائها التقليديين في الغرب. كما أن احتمال استخدام الأراضي المصرية لشن هجمات ضدها قد يفتح مواجهة مباشرة مع القاهرة، ويضع اتفاقية السلام الموقعة منذ أكثر من أربعة عقود على المحك.

في أوروبا، يتوقع أن يطلق هذا السيناريو موجة هجرة جديدة، قد تتجاوز في خطورتها أزمة اللاجئين السوريين عام 2015. النازحون الذين سيجدون أنفسهم في ظروف معيشية قاسية في سيناء، قد يتجهون نحو البحر بحثًا عن ملاذ في أوروبا. دول مثل اليونان وقبرص ستتحول إلى نقاط استقبال أولية، بينما سيتعرض الاتحاد الأوروبي لضغوط اقتصادية واجتماعية وأمنية هائلة. سياسيًا، ستجد التيارات اليمينية المتطرفة في الأزمة فرصة لتغذية الخطاب المعادي للمهاجرين، ما يفاقم الانقسام المجتمعي في القارة العجوز.

الأزمة لا تقتصر على الإقليم، بل تمتد لتطال الاقتصاد العالمي. المانحون والمنظمات الدولية سيضطرون إلى ضخ مليارات الدولارات في شكل مساعدات طارئة، ما يحوّل الموارد من مشروعات التنمية إلى برامج إنقاذ. كما أن أي تصعيد عسكري في البحر الأحمر أو شرق المتوسط سيعطل سلاسل الإمداد العالمية ويرفع تكاليف الشحن والتأمين، لينعكس ذلك في صورة ارتفاع أسعار الطاقة والمواد الغذائية عالميًا، ويعمّق أزمات الدول الفقيرة المثقلة بالديون.

أما من الناحية الإنسانية، فإن الكارثة تتضاعف. حتى الآن قُتل أكثر من 50 ألف فلسطيني، بينهم 15 ألف طفل، وفق إحصاءات وزارة الصحة في غزة. التهجير القسري سيضيف وفيات بسبب الجوع والأوبئة والأمراض، خصوصًا مع تدمير 85% من المستشفيات في القطاع وانعدام البنية الصحية في شمال سيناء. إلى جانب ذلك، ستترك الصدمات النفسية والاجتماعية ندوبًا عميقة في أجيال فلسطينية بأكملها، ما يخلق أرضًا خصبة لتفريخ موجات جديدة من الغضب والعنف.

التداعيات قد تصل إلى حد اندلاع حرب إقليمية أوسع، إذ قد تصعّد فصائل مدعومة من إيران هجماتها ضد المصالح الأمريكية والإسرائيلية، بينما قد تجد قوى إقليمية كإيران وتركيا نفسها مضطرة لاتخاذ مواقف أكثر تشددًا دفاعًا عن القضية الفلسطينية. هذا السيناريو يضع الشرق الأوسط أمام مواجهة مفتوحة تُهدد الأمن الدولي برمته.

إن الحل الوحيد لتفادي هذه الكارثة يكمن في تدخل دولي عاجل لفرض وقف إطلاق النار ورفع الحصار عن غزة، وإنشاء آلية أممية لحماية المدنيين الفلسطينيين وضمان تدفق المساعدات. مصر تحتاج كذلك إلى دعم مالي وفني عاجل، على أن يكون مشروطًا بالشفافية والرقابة. وعلى المدى الطويل، فإن حل الدولتين وفق حدود 1967 يبقى الخيار الوحيد العادل والمستدام، مع محاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب أمام المحكمة الجنائية الدولية، لتكريس مبدأ العدالة وعدم الإفلات من العقاب.

في النهاية، إن نزوح سكان غزة إلى سيناء ليس مجرد أزمة محلية، بل هو قنبلة موقوتة تهدد مصر وإسرائيل وأوروبا والاقتصاد العالمي معًا. تجاهل هذه الحقيقة لن يؤدي إلا إلى تعميق الفوضى والانفجار. وحده الحل العادل والشامل الذي يحفظ حقوق الشعب الفلسطيني في العودة وتقرير المصير يمكن أن يمهّد الطريق إلى سلام حقيقي ومستدام في المنطقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *