من أين بدأنا وإلى أين وصلنا (4)| 71 عامًا على حركة يوليو: القوة الإقليمية.. هل أثر الغياب عن القارة الإفريقية على الحضور المصري؟
كتب – أحمد سلامة
مازالت “حركة الضباط الأحرار” عام 1952، مثارًا للانتقادات تارة ومثارًا للتأييدات تارةً أخرى، في ظل حديث يتجدد مع كل مناسبة حول الأثر المستمر لانتقال السلطة من الملكية إلى الجمهورية.
يرى الكثيرون أن حركة الضباط في 23 يوليو هي سبب أساسي ومباشر من أسباب الأزمات التي لاحقت البلاد على مدار 71 عامًا، بينما يُجادل آخرون بالقول إن تلك الفترة الممتدة على مدى عقود ليس كُلًا واحدًا، وإنما مرت مراحل مختلفة لا يجب وضعها جميعًا على قدم المساواة خاصة مع اختلاف التوجهات المحلية والدولية.
يتناول موقع “درب” في سلسلة تقارير بعض الجوانب التي تتعلق بحركة يوليو، لنعرف من أين بدأنا وإلى أين وصلنا، وكيف يمكن أن نتدارك الأخطاء.
🛑 هل تغيرت قوة مصر الإقليمية بعد يوليو؟
يرى الدكتور، طه طنطاوي، أن مصر ارتبطت بقارتها الإفريقية بروابط قوية قديمة، وذلك بحكم التاريخ والجغرافيا، وذلك منذ عصور المصريين القدماء، وحديثا ومع عصر محمد علي ومن بعده الخديو إسماعيل كان هناك سعي مصري دائم إلى استكشاف مناطق أعالي النيل، فوصلت الحملات إلى بحيرة فيكتوريا مرورا بكل مناطق حوض النيل، كما وضح اهتمام مصر بالقارة منذ بدايات القرن العشرين من خلال كتابات عدد من المثقفين والسياسيين المصريين ولكن السمة العامة لكتاباتهم كانت تدور في إطار نظرة جزئية لا ترى إفريقيا إلا في الارتباط بحوض نهر النيل، وكانت صورة إفريقيا القارية الشاملة بعيدة عن تصور الفكر السياسي المصري حتى النصف الثاني من القرن العشرين وقيام ثورة يوليو.
ويضيف طنطاوي، خلال حديثه مع درب، قائلا “بقيام ثورة يوليو 1952، وفي أول وثائقها المعلنة (كتاب فلسفة الثورة للرئيس جمال عبد الناصر) تغيرت هذه النظر الجزئية إلى نظرة أوسع وأرحب بالحديث عن إفريقيا كأحد دوائر ثلاث تشكل اهتمام السياسة الخارجية المصرية، وكانت هذه أول محاولة لرؤية إفريقيا في إطار مفهوم سياسي يعلو على الصور الجزئية ويراها في مفهومها الشامل، ومنذ ذلك التاريخ أدت مصر دورا هاما في غمار حركة مقاومة الاستعمار ودعم حركة التحرر الوطنى الإفريقي جعلت من مصر مصدر إشعاع وجاذبية لحركات التحرير الإفريقية ساهم في ذلك صمود مصر وانتصارها السياسي عام 1956 في مواجهة العدوان الثلاثي، والذي أعطى لمصر مكانة خاصة ودورا محوريا في إفريقيا، فأنشأت الرابطة الإفريقية كمقر لحركات التحرير في القارة، وأصبحت مصر من زعامات حركة الوحدة والتحرر الإفريقي”.
ويستكمل “بوجه عام استمرت السياسة المصرية طوال حقبة الستينات داعمة لحركات التحرير الإفريقية، والملاحظ في هذه الفترة أن توجه السياسة الخارجية المصرية تجاه إفريقيا اتسم بطابعه العام فلم تكن الدولة الوطنية الإفريقية قد ظهرت بعد وانعتقت من أسر الاستعمار والتبعية، وصولا إلى عام 1975 بحصول غانا كأول دولة إفريقية على استقلالها وانضمامها إلى الدول الداعمة لحركات التحرير، وبتوالي انتصار حركات التحرير الوطني الإفريقية، وصولا إلى عام 1960 الذي أطلق عليه عام الاستقلال بحصول 17 دولة إفريقية على استقلالها وانضمامها كدول مستقلة إلى عضوية هيئة الأمم المتحدة وتشكيلها للوبي الإفريقي داخل المنظمة الدولية”.
وأردف “والمتتبع لمسار السياسة الخارحية المصرية تجاه الدول الافريقية وليدة الاستقلال يلحظ انها كانت وثيقة الصلة بتحقيق طموحات هذه الدول فى الخروج من أسر التبعية للدول الاستثمارية السابقة وتحقيق تنمية دولها…وانعكس هذا على محاصرة التغلغل الاسرائيلى فى القارة ..ووضح ذلك جليا..بقطع كل الدول الافريقية علاقاتها الدبلوماسية مع إسرائيل عقب حرب 1967…واستمر هذا الدور المصرى الرائد حتى حوالى عام 1975…وأن كان بدأ يخبو منذ بداية عام 70”.
ويسترسل “في تلك الفترة -السبعينات- ظهرت اتجاهات مغايرة للسياسة الخارحية المصرية، تزامن ذلك مع بدء انحسار حركة التحرر الوطني في إفريقيا وآسيا.. وبدء موجة عاتية من الثورة المضادة وجهت أولى ضرباتها في إفريقيا إلى غانا ومن بعدها غينيا ومالي في موجة انقلابات عسكرية، وبانقلاب السلطة السياسية الجديدة فى مصر على توجهات مرحلة الستينيات..وسعيها للارتباط بالغرب وامريكا تغيرت السياسة الخارجية المصرية بواقع 180 درجة الى النقيض تماما”.
ويوضح “كان توقيع معاهدة مثل معاهدة كامب ديفيد بين السادات والكيان الصهيونى له بالغ الأثر في التغيرات في السياسة الخارجية المصرية والذي كانت له تداعياته الكبيرة على مجمل الأوضاع السياسية في المنطقة.. والأخطر في كل ذلك هو أنه فتح المجال واسعا لعودة إسرائيل إلى لعب دور نشط في القارة الإفريقية وذلك على حساب وخصما من الدور المصري والمصالح المصرية”.
يشير الدكتور طه طنطاوي إلى أن الدور المصري في قارة إفريقيا تراجع حتى جاءت محاولة اغتيال الرئيس حسني مبارك في أديس أبابا قبيل حضوره أحد مؤتمرات القمة الإفريقية، لتجهز تماما على ما تبقى من بقايا دور لمصر، أخذ يتوارى حتى يكاد يتلاشى بالكامل وانكفأت السياسة المصرية على نفسها بعيدًا عن أي اهتمام بالقارة وذلك خصما من المصالح الاستراتيجية العليا لمصر”.
🛑 لكن ماذا عن الصراعات الخارجية؟
ردًا على ذلك يجيب الدكتور زهدي الشامي قائلا “الحقيقة أن هناك الكثير من القرارات التي يتم تصويرها على اعتبار أنها صراعات نشبت بعد ثورة يوليو، رغم أن توالي الأحداث أثبت صحة موقف مصر في تلك الأثناء”.
وضرب الشامي على ذلك مثلا بالقول “نسمع عن واحد من أهم قراراتها التاريخية وهو تأميم قناة السويس أنه لم تكن له ضرورة وأنه كان من الأفضل انتظار انتهاء امتياز شركة قناة السويس، وهو قول بالغ السذاجة، وقد أكدت سذاجته الوثائق التي أفرجت عنها الحكومة البريطانية ونشرتها (بي بي سي) في الأول من أبريل الماضي وتؤكد صراحة صواب قرار عبد الناصر بتأميم قناة السويس، حيث أن الغرب لم تكن لديه أي نية لتسليم القناة إلى السيادة المصرية حتى بعد انتهاء فترة الامتياز، حتى السد العالي الذي هو أبرز المشروعات القومية لناصر لم يسلم من هجمات ضارية عليه بحجج شديدة السذاجة مثل أنه أضر بالسردين النيلي، وبلغ أمر تلك الحملة الضارية أن رد الاستاذ فيليب جلاب على ذلك بكتاب شهير عنوانه (هل نهدم السد العالي).. هل يعقل أن يتناول البعض التاريخ بهذه السذاجة وبهذا القدر من التشويه؟”.
يشدد الدكتور طه طنطاوي على أن سياسات مصر الخارجية، رغم كثير من الأخطاء، فإنها حافظت على مقدرات ومصالح الوطن.. وهي المصالح التي تقلصت كثيرًا بشكل تدريجي منذ سبعينات القرن الماضي وحتى ثورة يناير.
ويشرح طنطاوي بالقول “أسهمت ثورة يناير في 2011 في عودة الوعي مجددا بأهمية الدور المصرى في إفريقيا، وساهمت القوى الشعبية المصرية من خلال وفود الدبلوماسية الشعبية إلى الدول الإفريقية في عودة الروح إلى علاقات مصر الإفريقية وإلى أحياء السياسة المصرية تجاه إفريقيا مرة أخرى، ولكنها على أية حال كانت مبادرات ذات طابع استثنائي لم يتوفر لها الاستمرار طويلا”.
ويستكمل “وبتطور الأحداث سريعا على مسار الوضع السياسي الداخلى وبدء سلطة سياسية جديدة ظهر فيما يبدو أنه اهتمام من جديد بالشأن الإفريقى متمثلا في عودة مصر إلى حضور المؤتمرات الإفريقية والقيام ببعض الزيارات الرئاسية لعدد من الدول الإفريقية، والملاحظ أن ذلك تم في حدود لا ترقى إلى تطور العلاقات السياسية تطويرا جادا وملموسا ويأتي في هذا السياق ما يتعلق بمصالح مصر الاستراتيجية وهو الحفاظ على حقها التاريخي المكتسب في مياه النيل وهي القضية الأخطر فيما يتعلق بالمصالح المصرية الحيوية”.
ويقول “كما سبق القول فإن اهتمام مصر الأساسي كان ينحصر في اهتمامها بدول حوض نهر النيل، ولما كانت إثيوبيا هي المصدر الرئيسي (80%) لإيراد النهر من حصيلة الأمطار على الهضبة برز فى الافق منذ عام 2011 ما يهدد استقرار مصر المائي، وكان الجدير بالقيادة المصرية أن تضع ذلك في أولوياتها وتستخدم كل أساليب ووسائل الضغط السياسية والدبلوماسية وكل امكانياتها للحفاظ على حقوق مصر التاريخية فى مياة النيل. وهو ما لم يحدث ووجدت إسرائيل والصهيونية العالمية فرصتها في تغذية الميول الإثيوبية للسيطرة على مياة النيل (بهدف سياسات بعيدة المدى ليس مكانها الآن وربما أتت الفرصة لتفصيلها) ببناء سد النهضة وعدد آخر من السدود”.
وتابع “والمؤسف أن الدبلوماسية المصرية تأخرت كثيرًا في مواجهة هذه المعركة فلم تشارك ابتداءً في مباحثات الاتفاقية الإطارية لإعادة توزيع حصص المياة على دول الحوض.. وكان بوسع مصر لو شاركت أن تمنع التوقيع على هذه الاتفاقية.. والأدهى من ذلك هو توقيع اتفاق المبادئ مع اثيوبيا في عام 2015 والذي بمقتضاه انخذته إثيوبيا ذريعة لإلغاء كل الاتفاقيات السابقة المبرمة مع الأطراف المعنية.. كل هذا لم يكن ليحدث لولا تراجع السياسة الخارجية المصرية وتراجع دور مصر عالميا وإقليميا وإهدار ما تمثله مصر من قوة ناعمة أو صلبه ولها منه الكثير مما يفرض دورا على القوى الوطنية المصرية في ضرورة أن تجد السبيل إلى استعادة مصر لدوره الحيوي والمفتقد للحفاظ على مصالحها الاستراتيحية والحفاظ على شريان الحياة لمصر”.