محمد أحمد فؤاد يكتب: “סיגריה קליאופטרה”.. سيجارة كليوباترا..! (إبداعات)
ينتصف النهار، وشمس تموز الحارة تداعب أغصان شجرة الصفصاف العجوز الجاثمة إلى جوار بركة السباحة بحديقة منزل عائلة بيني “بنيامين”.. هذا المنزل الكبير نوعاً مقارنة بحجم ومساحة المنازل الأخرى في حي “ها موشافاه ها جيرمانيت” في القدس بما فيها بيت رئيس الوزارة نفسه، والذي يبعد بمسافة عدة أمتار قليلة عن بيت عائلة بيني…
يجلس بيني على كرسيه الخيرزان المتداعي بفعل ثقل وزنه إلى جوار طاولة خشبية متوسطة الإرتفاع، لوحت بشرتها عوامل الجو المتقلبة على مدار المواسم الأربعة، والتي يسميها السيد/ بيني مازحاً “ركن فيفالدي”.. لكن يظل هذا المكان هو البقعة المقدسة لبيني في بيته، حيث انه لم يعد يشعر بأي إنتماء لداخل المنزل منذ عدة سنوات.. عوفرا زوجته لم تعد تطيق الإقتراب منه لا لشئ إلا لأنها أيضاً مصابة بإحباط شديد بالرغم من إهتمامها الطاغي بأنوثتها، وما تظهره من رباطة جأش ولا مبالاة مصطنعة بما حدث للأسرة من تشققات على حد قولها.. ناعومي الإبنة الكبرى فتاة ذكية بارعة الجمال، قررت ترك المنزل نهائياً إلى مصير مخيف ومحبط بالنسبة لأبيها.. أما الإبن الأصغر يوسي المغرم بفن المسرح، قام هو الأخر بعد بلوغ سن المراهقة بإعتزال الأسرة، وإنفصل بغرفته ذات الباب الإضافي الذي يطل مباشرة على الحديقة الخلفية، حيث يستخدمه للخروج والدخول وإستقبال ضيوفه دون أن يلقي بالاً لمن يعيشون معه تحت نفس السقف..!
نظر مستغرقاً إلى زجاجات البيرة ماركة “مكابي” المفضلة لديه والمسجاة أمامه على أرض الحديقة، والتي أفرغ للتو محتوياتها الواحدة تلو الأخرى في بطنه المستدير، ورغم إحساسه بالجوع، شعر بيني بأنه ثمل وأنه لا يستطع النهوض كي يجهز أو يحضر شيئاً من الطعام.. لذا قرر أن يدخن السيجارة الأخيرة من نوع سجائر كليوباترا المصرية، وكان قد حصل عليها من صديقه المتدين باروخ الذي يعمل مهندس بوزارة الزراعة، والذي أحضرها له بناء على طلبه حينما كان في رحلته الرسمية الأخيرة إلى مصر للمشاركة في مشاريع الري الجديدة بشرق الدلتا.. أشعل بيني السيجارة وسحب نفساً عميقاً، وكعادته أغلق عينيه وراح في حالة من الخدر والنشوة النبيلة ليستعرض شريط حياته التي ظن يوماً أنها الأقوى والأكثر رفاهية، وأنها ضد التداعي أو الإنهيار..
تذكر بيني كيف خرج وعائلته من مصر في أعقاب العدوان الثلاثي متوجهين إلى سويسرا، ومنها إلى فرنسا حيث قضوا خمسة أعوام وإستقروا في منطقة ريف البروفانس في الجنوب. كان عمره حينها عشر سنوات، وما لبث والده المعماري المرموق أن قرر الهجرة للأرض المحتلة بعد وعود من أقارب له هناك بتوفير فرص عمل في مجاله.. وتشكلت ملامح حياة بيني هناك وهو يبلغ من العمر خمسة عشر عاماً، كان لا يعرف العبرية ولكنه أجاد العربية والفرنسية والإنجليزية والبولندية التي عرفها عن طريق أمه التي هاجرت وأسرتها من جاليسيا إلى مصر قبل إندلاع الحرب العالمية الثانية.. بيني إلتحق بالجيش إلزامياً حينما أتم السابعة عشر من العمر، وبعد خروجه من الخدمة بدأ في السير على خطى والده، وإستطاع تكوين ثروة من العمل في المقاولات وأعمال المعمار والبناء، وإستطاع عقد علاقة وثيقة بعوفرا، إحدى عميلاته ذات الجسد الممشوق والملامح الشرقية الجذابة بالرغم من أصولها الأشكينازية، وإتفقا على الزواج، لكن المراسم تأجلت مراراً بفعل الحرب، فحسب القانون في الأرض المحتلة يتم إستدعاء من أنهوا الخدمة للإحتياط كلما إستدعى الأمر..
يشعر بيني بغصة في حلقه.. ويتذكر إبراهيم عبد الرحيم.. المجند في فرقة الصاعقة المصرية التي أغارت على موقعه القريب من ممر متلا في سيناء أثناء حرب الإستنزاف، بيني رآه شخص إستثنائي حين تابعه من داخل الدشمة ولم يستطع إصابته.. بدا وكأن الخوف لا يعرف سبيل إلى قلبه، يسير بثبات وسط النيران غير مكترث، وكأن قدميه تحفظان أديم الأرض عن ظهر قلب، كان يدمر الدشم بسلاحه ال أر. بي. جى ببرود ودقة مدهشة وهو ينفس الدخان من سيجارة تحتضنها شفتيه ببراعة وإتقان.. في لحظة شرود وجد بيني نفسه أمام إبراهيم وسقط سلاحه.. قال له إبراهيم بصوت ثابت ولهجة آمرة: إثبت مكانك ولا تتحرك، أنت أسيري وسأعاملك بحسب تصرفاتك.. أحس بيني بمزيج من الرعب والإعجاب في آن واحد.. وهو يتذكر جيداً أنه إنصاع منذ تلك اللحظة لكل أوامر إبراهيم الذي كان أكثر من إنسان في التعامل معه في الأسر، وقبل أن يتم إرساله للسجن الحربي في القاهرة. قضى بيني عدة أيام في حوزة صائده المجند إبراهيم، ودارت بينهم أحاديث بالعربية التي يجيدها بيني.. كان إبراهيم يستمع أكثر مما يتكلم، لكنه كان سخياً مع بيني، وكان لا يبخل عليه بالأوراق والأقلام ليدون مذكراته، وكذلك كان يناوله سيجارة ماركة كليوباترا الشهيرة من آن لأخر حتى يشعره بالهدوء وبالآدمية.. كان لتلك السيجارة طعم الحياة بالنسبة لأسير لا يعرف كيف يكون مصيره..!
عاد بيني بعد قضاء قرابة أربع سنوات في الأسر، لم يكن يريد أن يتذكر ما حدث، فالأسر له وقع رهيب على الذاكرة.. لكنه دائماً ما كان يتذكر لحظة وقوعه وسقوط سلاحه، ولم ينس قط ملامح الهدوء والثقة على وجه صائده المجند إبراهيم عبد الرحيم، وأيضاً ظلت في فمه نكهة تلك السيجارة التي منحته طعم الحياة.. إحتضنته عوفرا بقوة حين إلتقته لأول مرة بعد عودته في مستشفى “هاداسا” الجامعي بمنطقة “عين كيريم” حيث يخضع كل من وقعوا في الأسر لجلسات إستماع أسموها مجازاً علاج نفسي، إرتعش جسده ولم يكن يستطيع أن يضمها بنفس الإشتياق الذي أبدته هي.. شئ ما إنكسر داخله لا يعرف ما هو..! وبعد عودتهم إلى شقتهم الصغيرة بمنطقة “تلبيوت” حيث يوجد مكتب المقاولات الخاص ببيني، والذي ورثه عن أبيه، حاولت عوفرا أن توفر لزوجها كل سبل الهدوء والراحة، ولم تكن تجادله في أي أمور خلافية حتى يستعيد عافيته.. إهتزت شخصية بيني كثيراً، وأدمن على التدخين بشراهة وعلى شرب الخمر حتى أنها لا تكاد تتذكر ليلة واحدة لم يكن فيها بيني ثملاً.. إزداد وزنه بشكل ملحوظ، وبدأ في إستخدام ألفاظ نابية حين يناديها أو يتحدث معها، هي لم تعتاد هذا من قبل ولا تقبله من أحد، لكنها أصرت على التحمل حتى تمر تلك الأزمة..
في صباح يوم شتوي، خرج بيني بسيارته إلى منطقة “أبو جوش”.. كان صباحاً دافئاً والشمس ساطعة، ما أثار شهية بيني لتناول وجبة من الحمص في مطعمه المفضل “أبو شكري”.. قابل بيني سمير صاحب المطعم، وكان يرتاح إلى حديثه كثيراً.. تحدثوا، وأستفاض بيني في الحديث عن سنوات الأسر في مصر، وكيف أنه لا يستطيع العودة لطبيعته.. وهنا أشار إليه سمير بأن يتقمص شخصية إبراهيم عبد الرحيم، ويحاول أن يستمد الهدوء والثقة التي تمتع بها الرجل، فالأن لا يوجد هناك ما يستدعي الخوف، والمستقبل مفتوح بعد نهاية الحرب..! كان لهذا اللقاء وقع السحر على بيني، فذهب إلى مكتبه، وبدأ في العمل بمساعدة راحيل إبنة صديقه باروخ.. راحيل فتاة مدهشة.. متمردة إلى أبعد الحدود ولا تلقي بالاً لأي رسميات.. هي تعيش حياة صاخبة بين عشقها لموسيقى الروك والرقص والسفر، وفي نفس الوقت هي مجتهدة في العمل ولها افكار مبهرة لا ينكر أنها ساعدتهم كثيراً في عقد الكثير من الصفقات الرابحة.. إنتعشت حالة بيني المادية وإستطاع عقد صفقة مليونية، عاد بعدها إلى المكتب وكانت راحيل بمفردها.. أطلعها على العقد الذي تم توقيعه للتو، ووعدها بمكافأة سخية بعد إستلام دفعة التعاقد الأولى.. كانت قد إنتهت للحظتها من تدخين سيجارة الماريجوانا التي لا تفارق يومها، وإذا بها تحتضن بيني وتقبله كما لم تفعل من قبل.. كان بيني يتوق إلى لحظة كتلك كي يستعيد رجولته المعطلة.. جردته من ملابسه وبدأت في مداعبته وهي تتخلص من ملابسها قطعة تلو الأخرى فتستثيره بسحرها الطاغي.. راحا في عناق طويل ولم يلحظا أن الشمس مالت للمغيب.. وبعد أن هدأت جذوة هذا اللقاء الحميم.. إرتدت راحيل ملابسها وشيعت بيني بإبتسامة ونظرة غامضة ذكرته بنظرة إبراهيم له حين أوقعه في الأسر…
عاد بيني لبيته، لم تكن عوفرا بخبرتها تحتاج إلا لنظرة في عين رفيقها كي تدرك ما حدث..! إبتسمت وقالت: هل كنت مع راحيل..؟ أجاب بلا إكتراث.. نعم..! قالت ساخرة: وهل قضيتما وقتاً جيداً.. أقصد هل إستمتعت بمضاجعتها..؟ ربما لم يكن بيني مستعداً للإجابة، لكنه أطرق برأسه بشئ من خجل مصطنع، ونظر إليها وهو يشعر بتوجس يخترقه شعور بالأمان. لم يستطع الرد.. فتابعت عوفرا: حسناً يا عزيزي.. تعال لنتناول العشاء ثم نكمل حديثنا.. أعدت المائدة بهدوء وأضاءت بعض الشموع ، وكانت قائمة الطعام تحوي حساء الكسبرة مع صدور الدجاج المشوي والمتبل بأوراق الغار وبعض الأرز.. لم تنسى أن تدير إسطوانة إييف مونتاند المطرب المحبب لكلاهما، وأن تأتي بزجاجة من النبيذ الأبيض الفاخر من إنتاج “كيبوتص كرميل” الشهير.. تناولا العشاء في صمت لم يقطعه سوى لحن “سماء باريس” الذي تعشقه عوفرا.. وبعد العشاء، نظرت عوفرا إلى بيني قائلة: أنا لن ألومك على فعلتك بالرغم من فداحتها.. الفارق المؤلم بيننا أنني عرفت ما لم تريدني أن أعرفه، لكن لا عليك.. ما يعنيني هو حياة قررنا أن نخوضها معاً.. فإذا كنت جاداً في هذا، فدعنا نطوي الصفحة، ولنواصل ما بدأناه، وأعدك أنني لن أسائلك في هذا مرة أخرى.. أما عن راحيل، فهي لا تخجل من حياتها، وستجدها مع غيرك كما كانت معك.. ولن أطلب منك أن تبتعد عنها أو تقصيها من حياتك، فربما يكون قربها هو ما يعينك على عدم تكرار ما حدث إن كانت تلك رغبتك…
يشعر بيني بحرارة الشمس تلفح وجهه.. فيتحرك قليلاً ليضع جسده الثمل في ظل الجدار المنزل، هذا المنزل الذي شرعا في بنائه معاً بعد عقد قرانهما.. كانت تلك هي اللحظة التي خفق فيها قلب بيني أمام هذا الكرم المدهش الذي أظهرته عوفرا بعد أن علمت بعلاقته مع راحيل.. وتذكر كيف أنها قامت بمساعدته كثيراً ولم تسمح لنزواته بقتل علاقتهما.. وبعد سبع سنوات من بناء البيت شعرت عوفرا بحركة داخل أحشائها، يبدو أن ثمرة صبرها بدأت في التكوين.. وبعد شهور خرجت إلى الحياة ناعومي بنيامين.. فتاة فائقة الجمال والحيوية، نابهة وبسيطة في حياتها.. عشقت الموسيقى وأجادت العزف على البيانو والناي.. وحين بلغت ناعومي عامها التاسع شعرت عوفرا مرة أخرى بحياة جديدة تتكون داخلها.. تمنى بيني أن يكون المولود ذكر.. بالرغم من طغيان حبه لناعومي، إلا أنه كرجل شرقي لم يستطع مقاومة الحلم بأن يكون له إبن يحمل إسمه، ويرث كل ما كونه الرجل من ثروة.. وكان أن خرج للحياة يوسي الإبن الأصغر لبيني، وصار فتى يافع محب للفنون وخاصة التمثيل، وكان يبرع في أدواره على مسرح المدرسة حتى أنه أثار إنتباه أحد أساتذته من أصل أمريكي من محترفي التمثيل، فصار يتابعه ويقوم بتوجيهه وصارا كما رفيقين دائمين…
أطفأ سيجارته في الجدار.. وقام بيني متثاقلاً. سار بحذر تجاه المرحاض ليقضي حاجته.. شعر بعدها بشئ من الراحة، ثم توجه إلى المطبخ وسحب زجاجة من البيرة وأخذ قليلاً من حبات الفول السوداني في صحن صغير.. إسترق السمع، لم يكن هناك أي صوت، فسار مطرقاً عائداً إلى عالمه الصغير في الحديقة.. كانت الشمس قد مالت للمغيب، فجلس مواجهاً مشهد الغروب وقرص الشمس يذوب بحذر في الأفق، وتجتاحه عدة سحب شاردة تطاردها الرياح من الغرب إلى الشرق.. شرع بيني في إحتساء البيرة المثلجة ثم ملأ فمه بحفنة من حبات الفول السوداني، وأغمض عينيه.. شعر لوهلة بإنعدام مذاق أي شئ في فمه.. وتذكر أنه واسع الثراء لا ينقصه شئ.. وقد صفحت عنه زوجته منذ سنوات، لكنه لا يعرف ماذا يبعدها ويصدها عنه منذ ميلاد إبنه يوسي..؟ هل هي في علاقة مع شخص أخر..؟ ربما، وحتى لو كان، هل سيحق له مسائلتها..؟ الثراء والمال لم يفعلا له شيئاً، بل ربما كانا وبالاً عليه.. فها هي إبنته تتعرف على الفتى أفينير الذي ينتمي إلى عائلة من الحريديم المتشددين ووالده يدير مدرسة دينية في منطقة “مئاة شعاريم”، هذا الفتى كرهني وكره أسرتي، وها هو ينجح في خطف قلب إبنتي وأن يتزوجها.. والأن تأتي إبنتي لتلفظ كل علاقتها بي وترحل، تلك الفتاة الرائعة تتحول إلى مجرد دمية في بيت هذا المتطرف.. لا أستطيع أن أتخيل أن يكون لي أحفاد يكرهوني وألا أستطيع تربيتهم أو حتى مجرد رؤيتهم.. تُرى هل نسيت إبنتي كل ما فعلته من أجلها..؟
إنتبه بيني فجأة وزالت عنه أثار الشراب.. أحس أن هناك شئ ما خطير جراء هذا الصمت داخل المنزل..! صعد إلى الطابق الثاني ودخل إلى حجرة عوفرا، فعصفت بأنفه رائحة عطرها المميز لولو من كاشاريل، والتي تبدو في أروع صورها حين ترتديه.. لكنها ليست هنا..؟
نزل سريعاً إلى غرفة يوسي إبنه وطرق الباب مرات.. لكنه لم يتلق رد..! الولد لم يظهر في المنزل منذ أيام، تُرى ماذا حدث.. فتح بيني الباب بقوة، وفوجئ بأن دولاب الملابس الخاص بإبنه خال تماماً.. حتى جهاز الكمبيوتر الخاص به لم يعد في مكانه.. ألقى نظرة على سرير إبنه فوجد ظرف مغلق ملون بألوان الطيف وبدون عنوان.. ترددت يداه وهي تمتد لتتناول الخطاب، وفتحه بأصابع مرتعشة وشرع في القراءة:
عزيزي والدي..
لا اعلم ما أقول لك.. فأنت لن تكون سعيداً بقراري، أعرف أنك كنت تريد أن أستمر في حياتي معكم، وأن أعمل معك في مكتبك وأن أرث خبراتك ومعرفتك وثروتك.. لكنني لست هذا الشخص الذي تريد، فأنا على علاقة مع معلمي في المسرح ولن أتخلى عنها تحت أي مسمى، ونحن سوف نتزوج بعقد مدني في الولايات المتحدة الأمريكية أو هنا إذا ما تغيرت الظروف.. أنت تعرف أن حياتي تخصني وحدي، وأمي تعرف ميولي منذ الصغر ولم تعترض طريقي يوماً ما.. أرجو تفهمك لموقفي ولا تخجل مني حيث أن الأمر ليس إختياري وحدي.. لكنه المصير المحتوم… إبنك يوسي..! النهاية..