بعد منعه من السفر وحرمانه من العودة إلى العمل.. حوار لم ينشر مع نبيل بفون آخر رئيس منتخب للهيئة العليا للانتخابات بتونس
نبيل بفون: أحزاب سياسية بدون أموال هي كالسيارة بدون بنزين.. والشعب التونسي اعتاد على التعامل مع صناديق الانتخاب
نسبة المشاركة المتدنية للشباب هي فشل يتحمل مسئوليته الأحزاب السياسية والمجتمع المدني
لابد من التفكير في إيجاد حوافز وطرق وآليات لدفع الشباب وغير الشباب للوعي بالشأن العام وأهمية المشاركة فيه
أجرى الحوار: كارم يحيى
هو آخر رئيس منتخب للهيئة العليا للانتخابات بتونس (الإيزي)، أحد من شُهد لهم بالإخلاص لوطنهم وللحقوق والحريات والديمقراطية،
هو الممنوع العودة لمزاولة عمله كعدل منفذ و فتح مكتبه مجددا، وذلك بتعسف متعمد من وزارة العدل، كما تم وضعه على قوائم الممنوعين من السفر دون تحقيق أو أسباب معلنة.. إنه التونسي نبيل بفون الذي اتخذ مواقفًا ناصعة إزاء الديكتاتورية التي عادت وفضل قول الحق بينما كان يمكن أن تجري بين يديه أنهار اللبن والعسل إن قال كلمة تروق للسلطة، لكنه أبى إلا الانتصار للحريات حتى ولو كلفه ذلك منصبه وعمله بل وحريته الشخصية.
ومؤخرًا تم وضع نبيل بفون على قوائم الممنوعين من السفر دون قرار رسمي، كما تم منعه من العودة إلى العمل مرة أخرى.
وتُعيد “درب” نشر حوار كان قد أجراه معه الكاتب الصحفي كارم يحيى، تحدث فيه بفون عن أسباب عزوف التونسيين عن التصويت في الانتخابات البلدية والأوضاع في تونس ومسار الديمقراطية.
وإلى نص الحوار..
نبيل بفون (46 سنة حين إجراء هذا الحوار) عاصر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات منذ تأسيسها واجراء انتخابات المجلس التأسيسي 2011. عندما التقيته كان مرشحا أمام البرلمان وللمرة الثانية لرئاسة الهيئة.. ولاحقا في 30 يناير/جانفي 2019 انتخبه البرلمان بالفعل رئيسا لها. وهو أقدم أعضاء مجلس الهيئة، ولعله أكثرهم دراية بالمسار الانتخابي في تونس. وقد أجري هذا الحوار معه في مقهي حديقة “البلفدير” بالعاصمة تونس صباح السبت 4 أغسطس/أوت 2018.
• بماذا تفسر ارتفاع عزوف التونسيين عن التصويت في الانتخابات البلدية مايو 2018 ؟
ـ التأخر في إصدارقانون الانتخابات البلدية إلى مايو 2017 . وهذا بعد أخذ ورد حول قواعد الترشح وغيرها . وهذا الأمر اخذ نحو عامين كاملين بعد ان إحالته الحكومة الى البرلمان .وكذا التأخر في تقسيم الدوائر الانتخابية .وهذه المرة المسئولية تقع هنا على الحكومة .وكذا تأخر إرساء المحاكم الإدارية في الجهات. ويضاف الى كل هذا التغييرات التي طرأت على هيئة الانتخابات ذاتها مع استقالة رئيسها “شفيق صرصار” وعضوين، ما استوجب تعويضهم وانتخاب رئيس جديد للهيئة استهلك الفترة من مايو الى نوفمبر 2017 .
*واضح من جلسة حوار عقدتها الهيئة في فندق بـ “قمرت” خلال سبتمبر 2017 مع قادة الأحزاب وممثلي الرئاسات الثلاث ـ وحضرتها كصحفي متابع ـ أن هناك أحزابا غير جاهزة للانتخابات ظلت تدفع نحو التأجيل ؟
ـ بالطبيعة .
*هل استطاعت الهيئة في الانتخابات البلدية معالجة السلبيات والوفاء بالتوصيات التي نص عليها تقريرها للانتخابات التشريعية والرئاسية 2014؟
ـ حدثت تغيرات بالفعل مثل تقليص مدة الفترة الانتخابية ..أي التي تسبق يوم الاقتراع والحملة الانتخابية. ونجحنا فعلا في تخفيضها من ثلاثة أشهر الى شهرين. والهدف من هذا التقليص هو إجراء رقابة أنجع على التمويل الانتخابي. إلا ان هذه الرقابة ظلت في البلديات أيضا دون النجاعة المرجوة. وهذا لأن تمويل الأحزاب والجمعيات في تونس مازال ينقصه الإطار القانوني الذي يضمن رقابة ناجعة على مصادر التمويل وسقفه .
*في البلديات ثمة شكاوى من رشاوى انتخابية جرت هنا وهناك، وبخاصة في المناطق الريفية والنائية. لكنها بلا توثيق أوأدله كافية .. كيف تقيم هذا الأمر ؟
ـ بالنسبة للرشوة الانتخابية لابد من تعريف المفهوم أولا. فالمقصود بالرشوة هو شراء الأصوات بمقابل مادي واضح. والإشكال هنا يتعلق بالإثبات، وحيث من الصعب إثبات واقعة الرشوة بالشكل الذي يسمح للقضاء بفرض العقوبات والتي تصل إلى السجن وشطب النتيجة. وقد بلغ لعلم الهيئة شكاوى من مناطق عدة بهذا الشأن سواء في يوم الصمت الانتخابي أو الاقتراع، لكن لم يتم اثبات وتوثيق حالة واحدة منها .
*وما هو عدد هذه الشكاوى؟.. ومن أين جاءت ؟
ـ عدد من هذه الشكاوى جاء من المدن أيضا. وهي في الإجمالي لا تتجاوز العشرين شكوى. وأعتقد أن ظاهرة الرشوة الانتخابية ليست ظاهرة بتونس. وانطباعي أيضا أن الأحزاب السياسية عندنا لا تملك أموالا كبيرة بالأصل. لا يمكن اعتبار الرشوة الانتخابية ظاهرة في تونس .
*لكن هناك رجال أعمال من الوزن الثقيل مندفعون في التأثير على الحياة السياسية والحزبية ويمولون أحزابا ؟
ـ في المحصلة لا يمكن للراشي التثبت من إعطاء الصوت له. هذا لأن آلات التصوير بأنواعها ممنوعة في مكاتب الاقتراع وخلوات الانتخاب . حقا في الخلوة يمكن للناخب إعطاء صوته لمن يشاء حتى لو كان قد حصل على أموال من قائمة أو مرشح ما. هي حقا ليست ظاهرة في تونس لأنه لايمكن التأكد من الالتزام بالتصويت للراشي .
*لنعد الى السؤال بشأن رجال الأعمال والسياسة والأحزاب والانتخابات؟
ـ أحزاب سياسية بدون أموال هي كالسيارة بدون بنزين. والقانون حدد سقفا للإنفاق يتعين احترامه. وفي الانتخابات البلدية 2018 رصدنا كهيئة مخالفات بشأن تجاوز سقف الانفاق. وهو يتحدد ويتفاوت وفق عدد الناخبين في كل دائرة ومساحة الدائرة والمستوى المعيشي بها. وقمنا بإحالة هذه المخالفات إلى محكمة المحاسبات للنظر فيها، وهي بالمئات . وهنا الظاهرة هي أكبر من الرشوة الانتخابية. ولكن عقوبتها في القانون خطايا مالية ( غرامات ) وتصل الى إسقاط القائمة اذا كان التجاوز في الإنفاق فاق نسبة 75 في المائة السقف المحدد . وما قمنا بإحالته كهيئة هو شبهات. ونحن من جانبنا نمارس مهمة الرقابة الميدانية على عدم تجاوز سقف الإنفاق، ومحكمة المحاسبات من جانبها تقوم بالمراقبة المستندية. وشبهاتنا التي أحلناها إلى المحكمة تقوم على مراقبة تقديرية لأعوان( موظفي) الهيئة . أما دائرة المحاسبات فتتولى المراقبة المستندية بالتثبت من الوثائق المحاسبية للقائمات المترشحة والأحزاب، وبما يثبت هذه الشبهات والتجاوزات أو يفندها .
*لماذا عملية انتخابية بلدية بهذا الحجم الكبير وفي مناطق بعضها تسوده العروشية لم تعرف عنفا ملحوظا ؟
ـ الأسباب متعددة. أولها هو رسوخ الثقافة الانتخابية بتونس. هذا بلد تجرى فيه الانتخابات منذ عام 1956 .و رغم ما كان يشوبها من تدليس وتزوير فإن الشعب تعود على هذه العملية، وعلى التعامل مع الصندوق الانتخابي . وثانيها وثوق الشعب من مصداقية العملية الانتخابية من حيث شفافيتها و نزاهتها. هناك ثقة بالفعل بعد الثورة في هذا. وثالثها أن اختيار نظام القائمات حد من تأثير العروشية والجهوية والطابع الشخصي للتنافس الانتخابي. وعلما بأن الانتخابات بتونس منذ خمسينيات القرن العشرين تجرى بنظام القائمات. وكان هدف الرئيس “بورقيبة” بالأصل هو القضاء على العروشية.أما السبب الرابع فهو وجود المرأة في القائمات بالتناصف مما أسهم في تلطيف الأجواء.
*تقارير عدة لمنظمات الملاحظة بالمجتمع المدني أشارت ـ كما لاحظت شخصيا ـ إلى تدني كفاءة الهيئة في إدارة العملية الانتخابية، و مقارنة بما سبق لها ؟
ـ هذا صحيح. حدث تقهقر في أداء هيئة الانتخابات. فاستقالة الدكتور “شفيق صرصار” و إثنين من أعضاء مجلس الهيئة مع سبعة من الإطارات ( الكوادر او المسئولين ) الإدارية العليا بالهيئة أحدث نقصا على مستوى القيادة. حقا نحن أنجزنا انتخابات بلدية بثلث مجلس هيئة لدية خبرات انتخابية سابقة، وثلثا أعضائه ليس لديهم ذات الخبرة. وهناك أسباب أخرى تتعلق باختيار أعضاء مكاتب الاقتراع. وهذا بعدما وضعنا شروطا مستحدثه منها الشهادات العلمية، ما أقصى أعدادا من المعلمين من عضوية مكاتب الاقتراع. وبالطبع كان لهذا الإجراء تأثيره على انتخابات البلديات. ولقد أثبتت التجربة أن وجود معلمين لديهم خبرات سابقة مسألة مهمة .وما حدث هو أننا طلبنا شهادة بالحصول على أستاذية الأربع سنوات بعد البكالوريا. كما لم تتوافر الحوافز المالية الإضافية كي تشجع الإطار التربوي على التقدم لعضوية مكاتب الاقتراع. ومن ناحية أخرى ، سجلنا نقصا كبيرا في عملية التحسيس ( التشجيع ) على تسجيل الناخبين والدعوة إلى الاقتراع، ما أثر سلبيا على نسبة المشاركة .
*من المسئول عن هذا التراجع في أداء الهيئة؟
ـ هي مسئولية للهيئة على مستوى مجلسها ككل. والجو العام داخل المجلس كان متوترا ما أثر على إدارة العملية الانتخابية برمتها . وكانت نتيجة هذا أنه فور انتهاء إدارة العملية الانتخابية برمتها وإعلان النتائج النهائية للبلديات في 13 يونيو / جوان 2018 تقدم ثمانية من إجمالي تسعة من تشكيلة مجلس الهيئة وفي يوم 15 جوان إلى البرلمان بطلب اعفاء رئيس الهيئة ( السيد / محمد التليلي المنصري).
*هل تسببت ضخامة عملية انتخاب البلديات في ضعف أداء الهيئة أيضا؟
ـ حقا البلديات هي الأضخم من حيث مهام إدارة ترشحات هي الأكبر بدورها. لكن التشريعية تعد الأوسع من حيث امتدادها الجغرافي .وهذا لأنها تضم دوائر انتخابية خارج الجمهورية التونسية .
*لاحظت مع افتتاح المركز الإعلامي قبل أيام من يوم الاقتراع بالبلديات هذا المديح الزائد لرؤوس السلطة التنفيذية. وأظنه غير المسبوق في تاريخ عمل الهيئة، وبما يلقي بظلال على تغير ما في علاقتها بهذه السلطة على مدى سنوات ما بعد الثورة. كما لاحظت سابقة انتقاد رئيس الحكومة لأداء الهيئة في كلمة ألقاها بعد انتهاء يوم الاقتراع 6 مايو/ ماي 2018 .. ما هو رأيك؟
ـ صحيح .. معك في ذلك. وهناك عامل شخصي هنا يتعلق برئيس هيئة الانتخابات، وكيف يتعامل مع السلطة التنفيذية؟. فهناك من اختار المواجهة من اجل استقلالية الهيئة كما حدث عام 2011 .وأقصد رئيسها آنذاك “كمال الجندوبي.” بالفعل هو خاض معنا يقصد مجلس الهيئة) معركة مع “السبسي” رئيس الحكومة حينها حول مقر الهيئة المركزي وتأخير موعد الانتخابات. دخلنا كهيئة هذه المعارك وكسبناها. واليوم هناك من اختار المهادنة والتفاوض السلبي. والملاحظ أن الحكومة عطلت نشر روزنامة ( جدول أعمال ) الهيئة للانتخابات البلدية عندما كان مقررا لها 17 ديسمبر 2017 .كما عطل رئيس الجمهورية دعوة الناخبين. لكن عندما توافرت إرادة سياسية نشرت الحكومة الروزنامة بعد 24 ساعة فقط من إرسالها بين نهاية فيفري (فبراير) والأول من مارس 2018، وقام رئيس الجمهورية في التوقيت المحدد بدعوة الناخبين . إضافة الى هذا برز في الانتخابات البلدية مسألة حياد الإدارة. وهذا بما أن الانتخابات البلدية لصيقة بالإدارات المحلية والجهوية. وجرت أيام دراسية وملتقيات جهوية مع الإدارات المحلية والجهوية والولاة والمعتمدين حول ضرورة التزام الحياد في العملية الانتخابية تجنبا لكل تأثير من طرف الإدارة على الناخب. لكن يبدو أن هذا الحياد تحول في بعض الأحيان إلى “حياد سلبي” . وأصبح حيادا تجاه الناخبين والمترشحين وأيضا الإدارة الانتخابية، وذلك بتجنب مساعدة الهيئة ومدها بالوسائل العامة ( مثل السيارات والمقار) لتمكينها من أداء مهامها بدعوى حياد الإدارة .
*لكن هناك شكاوى استمعت الى جانب منها في مدينة سوسة عن نزول وزراء في الحكومة لممارسة الدعاية الانتخابية، وجرى التقدم بشكاوى الى الهيئة، وقيل أنها لم تلق رد فعل ؟
ـ بالفعل حدث هذا. والقانون لا يمنع الوزراء وكتاب الدولة من المشاركة في الدعاية الانتخابية بشرط عدم استعمال الإمكانات العمومية من سيارات ووسائل تابعة للدولة. وكذا عدم استعمال صفة الوزير للتأثير على الناخبين. وما حدث أننا فحصنا بالفعل شكاوى لا يتجاوز عددها خمسة عشر شكوى ضد هذه الممارسات من وزراء وكتاب دولة. وتثبت مجلس الهيئة من ذلك. وتثبتت الهيئة من عدم استخدام الوسائل العمومية والنفوذ الوظيفي. وفي ثلاث حالات أخرى وجه مجلس الهيئة تنبيهات لوزراء للكف عن بعض الممارسات. وقد خاطبناهم والتزموا .
*ألم يناقش مجلس الهيئة انتقاد رئيس الحكومة للهيئة في كلمته يوم الاقتراع ليلا ؟
ـ أقرت الهيئة بوجود نقائص من جهتها ودون تحميل المسئولية لجهة معينة. وهذا لأن هناك أطرافا متداخلة في العملية الانتخابية. حقا تبقي الهيئة المسئول الأول عن النقائص، ومن ذلك ما حدث في “المظيلة” ما أدى الى تأجيل الانتخابات. حققنا في الأمر ووجدنا أن الخطأ بدأ من المطبعة الرسمية ( بشأن أوارق الاقتراع). ثم حدث الخطأ الثاني من الهيئة الفرعية للانتخابات بولاية قفصة، و التي لم تتثبت من صحة توزيع أوراق الاقتراع.
*لكن هل ناقشتم ما قاله “يوسف الشاهد” رئيس الحكومة انتقادا لكم ؟
ـ ناقشناه في مجلس الهيئة في جلسة باليوم التالي 7 ماي / مايو 2018. وكان على رئيس الهيئة أن يرد ليس بالتملص بصفة كاملة من مسئوليتنا عن بعض النقائص، لكن بتنسيب الأمور. لكن تظل النقائص معقولة في المجمل لأنها أول عملية انتخابات على مستوى البلديات شارك فيها أكثر من 53 ألف مترشح، وكان لدينا أكثر من 350 نموذج بطاقة اقتراع. وحدوث خطأ في إحدي الدوائر أمر وارد في هذا السياق. وكان على السلطة التنفيذية في شخص رئيس الحكومة الأخذ بمبدأ ومفهوم الدولة، وأن تقف إلى جانب الهيئة، وتقدم خطابا إيجابيا، خصوصا وإنه لم يكن قد تم الإعلان عن النتائج بعد حينما خرج تصريح رئيس الحكومة. وكان لمثل هذا التصريح أن يكون له تداعيات سلبية على القبول بنتائج الانتخابات، وخصوصا هو يعلم أن ما حدث من نقائص لم يؤثر على نزاهة وشفافية العملية الانتخابية. أي كان يجب أن نترك العملية تنتهي ثم نقيمها. وتصريح مثل هذا لو حدث في دولة أخرى ربما قلب الموازين. والحمد لله أن لدينا ثقافة انتخابية في تونس .
*وهذه هي السابقة الأولى في تاريخ الهيئة ؟
ـ حقا كما قلت هذه أول مرة يحدث فيها انتقاد من السلطة التنفيذية للهيئة المستقلة العليا للانتخابات. هذه سابقة . ونحن كهيئة نقبل الانتقادات بما في ذلك انتقاد الحكومة. لكن كان يجب ان تجرى مثل هذه الانتقادات بعد الإعلان عن النتائج النهائية، وفي اطار تقييم شامل للعملية.
*وماذا بشأن فيديو “حافظ السبسي” المدير التنفيذي لحزب نداء تونس قبل إغلاق صناديق الاقتراع يوم 6 ماي / مايو 2018 .. هل ناقشه مجلس الهيئة؟.. وماذا كان الموقف منه خصوصا أن هناك من اعتبره انتهاكا للصمت الانتخابي ؟
ـ نعم .. أثير الأمر في مجلس الهيئة في اليوم ذاته. واختلفت مواقف الأعضاء حوله. هناك من اعتبره خرقا للصمت الانتخابي. وهناك من اعتبره في إطار حث الناخبين وتشجيع الاقتراع ودعوة لرفع نسبة المشاركة .
*هل حدث تصويت على اتخاذ موقف ما في ظل هذا الاختلاف بين أعضاء المجلس ؟
ـ لا لم يحدث تصويت. لكن دار حديث جاد بين الأعضاء حول المخالفات المرصودة لبعض القائمات و الأحزاب، وضرورة اتخاذ إجراءات عقابية بحذف أصوات قائمات معينه ثبت ارتكابها لتجاوزات تستوجب العقاب. لكن بما إن قرارات الهيئة بالأغلبية فقد استقر الرأي الأغلبي على أن جملة هذه الخروقات لم تكن جوهرية، أو حاسمة في التأثير على النتائج .
*ألم يفكر مجلس الهيئة في إصدار بيان تعليقا على فيديو حافظ السبسي؟
ـ نحن كهيئة مستقلة لم يكن مستحبا أن نصدر بيانا. لأن هذا قد ينطوي على تصعيد مع طرف في الانتخابات. وكان من الأوفق أن يرد رئيس الهيئة على كل المستجدات بنفسه يومها. لكن لم يفعل .
*هل كان هناك نقص أو سلبيات في تكوين ( تدريب ) أعوان الهيئة ؟
ـ ربما حدث هذا بالنسبة لمراقبة الحملة الانتخابية. وهذا لصعوبة تقدير بعض المخالفات والفارق بين الاشهار ( الإعلان ) السياسي الممنوع قانونا و بين الدعاية الانتخابية المسموح بها. والحد الفاصل بينهما كان من الصعب تحديده بالنسبة العديد من الأعوان. وهو يستوجب كفاءة عالية من المراقبين وخبرة في هذا المجال .
*كم تكلفت عملية الانتخابات البلدية على الهيئة، وما هي أوجه الانفاق الأهم عليها ؟
ـ بين التشجيع على التسجيل وعلى الاقتراع صرفنا حوالي أربعة ملايين دينار تونسي ( حينها الدولار نحو 2,5 دينارا تونسيا )، والعملية كلها تكلفت 60 مليون دينار .
*هل لم تتوجهوا للشباب بالقدر الكافي كي يسجل ويشارك في التصويت ؟
ـ لم يكن هناك تقصير في هذا. لكن يمكن القول بأننا لم نبدع طرقا جديدة لاستقطاب الشباب والتأثير عليه. ونسبة المشاركة المتدنية للشباب هي فشل يتحمل مسئوليته بشكل مشترك الهيئة والأحزاب السياسية والمجتمع المدني. ولابد من التفكير من الآن عقب انتهاء الانتخابات البلدية في إيجاد حوافز وطرق وآليات لدفع الشباب وغير الشباب للوعي بالشأن العام والمشاركة في العملية الانتخابية، والتي تعتبر مظهرا من مظاهر المواطنة وركيزة للديمقراطية .
*إلى أي حد تضخم الجهاز المشرف على هذه الانتخابات البلدية مقارنة بسابقتها تشريعية ورئاسية؟
ـ الجهاز الذي أدار الانتخابات البلدية نحو 60 ألفا. وفي الانتخابات السابقة التشريعية والرئاسية لم يتجاوز 55 ألفا .
*هل ترى ان هناك عيوبا في قانون الانتخابات على ضوء تجربة بلديات 2018 ما يعوق تطور عمل هيئة الانتخابات والعملية برمتها؟
ـ نعم .. وهي بالأصل عيوب في التطبيق أو كشف عنها التطبيق. وأهم مسألة هي فك الارتباط بين مجلس الهيئة وبين الإدارة التنفيذية للهيئة حيث يوجد تداخل في الصلاحيات من شأنه التأثير على العملية الانتخابية. هذا يؤدي إلى تضارب في القيادة. والنقائص المرصودة في القانون الانتخابي منها أن القانون يقول بوجوب التسجيل في سجلات الناخبين، لكن لا نجد صدى لهذه الوجوبية إذ يظل التسجيل خيارا حرا. وربما يكون الحل في أن كل من يبلغ سن الثامنة عشر ويذهب لاستخراج بطاقة التعريف ( البطاقة الشخصية ) يخير بين التسجيل من عدمه. وهذا مع منح تسهيلات إدارية لكل من يقدم على التسجيل. والمسألة الثانية هي ضرورة معالجة التزيد في الوثائق المطلوبة من أجل الترشيح، مثل التعريف بالإمضاء وغيره. وثالثا كثرة الممنوعات في الحملة الانتخابية. ورابعا الإبقاء على وسائل تقليدية تجاوزها الزمن في الحملة الانتخابية، مثل التعليق في الأماكن العمومية التي تخصصها السلطات المحلية وعادة ما تكون جدران متروكة مهملة لا ترقى للاستخدام كوسيلة دعاية، وكذا اللجوء إلى تحجيرات ( ممنوعات ) مبهمة في الإشهار السياسي ( الإعلان السياسي ) الذي يمنعه القانون في حين يسمح القانون بالدعاية الانتخابية. كما هناك مشكلة خامسة تتعلق بتأخر اصدار قانون ينظم عمل شركات سبر الآراء، وهو ما يجعله ممنوعا إلى حين غلق آخر مكتب اقتراع، ما يضطر وسائل الإعلام لارتكاب هذه المخالفة للضرورة .
كما هناك مشكلة سادسة اكتشفناه مع ممارسة تجربة تصويت الأمنيين والعسكريين في الانتخابات البلدية 2018 لأول مرة . فقد فرض القانون أن يكون قبل تصويت بقية المواطنين. واكتشفنا أن هذه الطريقة لم يكن لها جدوى في حمايتهم وحماية معطياتهم الشخصية. وقد يكون من الأنجع اشراكهم في التصويت في اليوم ذاته مع المدنيين، فتكون أسماؤهم مدرجة بذات سجلات الناخبين، وبما يستحيل معه فرزهم وفي ذات اللجان .
*وماذا بشأن عيوب قانون الهيئة العليا المستقلة للانتخابات ذاتها؟
ـ من أهم ملاحظاتي وعلى ضوء الممارسة العملية في مجلس الهيئة منذ نحو سبع سنوات هي عدم وضوح صلاحيات نائب الرئيس، وحتى اسناد تفويض من رئيس الهيئة إلى نائبه المنصوص عليه في النظام الداخلي يبقي محدود الصلاحيات. ولأن المبدأ القانوني انه لا تفويض بدون نص. وقانون الهيئة لم يشر إلى إمكانية التفويض من الرئيس لنائبه. وهو من الإشكالات المطروحة بجدية في هذا القانون.
وكذا ما في القانون من ضرورة توافر نسبة ثلثي أعضاء مجلس نواب الشعب للموافقة على انتخاب أعضاء الهيئة (أي 145 عضوا من اجمالي 217). وهو نصاب أكبر من المطلوب لانتخاب رئيس الهيئة ( 109 أعضاء ). وهذا يجعل تجديد أعضاء الهيئة مسألة صعبة جدا في البرلمان . وأعتقد بأنه يجب النزول بهذه النسبة والعدد المطلوب. وبالنسبة لانتخاب رئيس الهيئة أرى من الأوفق ان يجرى تعديل القانون باتجاه أن ينتخبه أعضاء مجلس الهيئة من بينهم ، ورفع هذا الأمر عن عاتق البرلمان. ولا محالة فإن قانون الهيئات الدستورية ( المشروع المقدم حين إجراء هذا الحوار ) يقوم على انتخاب رؤسائها من جانب أعضائها أنفسهم .
*هل ترى علاقة بين صندوق الانتخاب في البلديات و بين الاحتجاجات الاجتماعية التي شهدتها تونس ؟
ـ هيئة الانتخابات بما أنها ساهرة على العملية الانتخابية والضامنة لحق الاقتراع مطالبة بتوفير مناخ انتخابي سليم. وكان بإمكان الهيئة توجيه رسالة تحث الجميع على توفير مناخ مستقر لإنجاز العملية الانتخابية. فانتشار الاحتجاجات في المواعيد القريبة من العملية الانتخابية يؤثر عادة على نسب المشاركة للناخبين. وكان على الهيئة الإشارة لهذه المسألة من باب مسئوليتها عن المسار الانتخابي.
*هل تعتقد ان نشطاء من الحراك الاجتماعي شاركوا في عملية الانتخابات البلدية بالترشح ؟..وهل لديكم تقدير لنسبتهم بين المرشحين ؟
ـ ليس عندي معطيات أو معلومات تسمح بالإجابة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) هذا الحوار من بين نصوص كتاب مازال قيد النشر لكاتب المقال بعنوان :” دراما المظاهرة والصندوق : الاحتجاجات الاجتماعية والانتخابات البلدية بتونس 2018″. وعلما بأن ملاحق هذا الكتاب تتضمن أيضا حوارا أجراه مؤلفه مع أستاذ القانون الدستوري ” قيس سعيد” في 21 سبتمبر 2017 ولم يتمكن حينها من نشره في “الأهرام”. وقد نشره لاحقا بموقع ” المنصة ” في القاهرة بتاريخ 22 أكتوبر 2019 تحت عنوان :” حوار مع المواطن قيس سعيد : نظام خفي غير منتخب شارك في حكم تونس “.