يوم الطبيب| ثلاثة مشاهد عن الأطباء في ثلاثة عصور.. عن الاستقلالية والتوازن والتراجع.. (تحية واجبة من درب)
كتب – أحمد سلامة
ما بين الأمس وبين اليوم قد تتغير الأوضاع، قد تجري في النهر مياهٌ كثيرة فتتبدل معها الأحوال.. لكن في التاريخ، فإن تبدل الأحوال قد لا ترصده العين المجردة، ربما يحتاج إلى سنوات لإدراكه وأحيانا إلى عقود أو قرون.
يوم الطبيب المصري -الذي يحل في الثامن عشر من مارس من كل عام- يحمل بين مواقيته ثلاثة مشاهد قد تمثل رسمًا بيانيًا لمنحنى أوضاع الأطباء في مصر في فترة تتجاوز المائة عام.. ثلاثة مشاهد بين “الاستقلالية والتوازن والتراجع”، نرصد من خلالها تغير الأوضاع، ونتراجع برؤوسنا وذاكرتنا للوراء فلربما نرى الصورة شبه الكاملة.
المشهد الأول: عن عصر الاستقلالية
كان لديه الطموح والرغبة العارمة في الاستقلالية والتوسع وبناء ما قد يوصف بـ”الإمبراطوية”، فمنذ أن اعتلى عرش مصر عام 1805، وهو يسعى إلى ذلك جاهدًا.. لكن “الاستقلالية” التي قد تقود يومًا إلى “التوسع” تحتاج في الأساس إلى دولة حديثة تتوافر لها أسباب التقدم والتطور.
اتخذ محمد علي العديد من القرارات التي وضعت مصر في مكانة مرموقة على الصعيد الدولي حينذاك، لم تكن قراراته تتعلق بالشق العسكري فحسب لكن نظرته اتسعت لتشمل جوانب الاقتصاد والتعليم والصحة العامة لأنه أدرك أن الاستقلالية تعني دولة على قدر من التطور يسمح لها بحالة من الاستغناء.
الانخراط في بناء جيش قوي لم يمنع محمد علي من النظر داخليًا، فقرر في مارس عام 1827 أن ينشئ مدرسة الطب المصرية، أولى كليات الطب في إفريقيا والشرق الأوسط.
في منطقة أبوزعبل، قرر مُحمد علي تحويل ثكنة لقوات الخيالة إلى مدرسة للطب يدرس فيها من يثبت نبوغه في التعلم، من أجل إحداث تطوير جذري في ممارسة الطب الذي يتعلق بالصحة العامة للمجتمع.
بنيت المدرسة ومستشفى إلى جوارها على مساحة كبيرة من الأرض وأحيط بها سور ضخم وأحاطتها مساحات واسعة من الأرض المزروعة، وكان أول ناظرٍ لها هُوَ الطبيب الفرنسي العالم أنطوان كلوت، أو «كلوت بك» كما صار يدعى بعد ذلك. احتوت المدرسة على عدة أقسام علمية طبية فيزياء، كيمياء، نبات، تشريح، فسيولوجيا، علم الصحة، السموم، المفردات الطبية، التشخيص المرضي الداخلي والخارجي، هذه العلوم المساعدة لعلم الطب، وقد توسعت المدرسة فيما بعد لتضم مدرسة للصيدلة سنة 1830 م ومدرسة للقابلات سنة 1831 وانتخبت هيئة التدريس من عشرين أستاذًا من الفرنسيين والإسبانيين والإيطاليين.
انفتح مُحمد علي على علوم الخارج فاستعان بأساتذتهم، كما انفتح على فكرة “التطوير” الذي يستلزم النظر داخليًا إلى أوضاع كثيرة أبرزها الطب والصحة العامة للمجتمع.
المشهد الثاني: عن الحاجة إلى التوازن
في ظل أزمات داخلية تحاصره، وأوضاع دولية ملتهبة على المستويين العربي والدولي، كان الرجل يبحث عن نقطة توازن يحافظ من خلالها على مساحة من الشعبية التي كان شبح الهبوط والتراجع يهددها.
داخليًا، لم يكن مُحمد أنور السادات رئيس الجمهورية يتوقع أن تنتفض ضده قطاعات واسعة من الشعب خاصة وأنه “بطل الحرب والسلام” كما كان يُحب أن يلقب نفسه، كان يعتقد أن نصر أكتوبر كافٍ ليكون جدارًا عازلا بينه وبين الغضب الشعبي.. لكنه كان مخطئًا.
ففي يناير عام 1977 خرجت تظاهرات حاشدة أطلق عليها البعض وصف “انتفاضة” ضد الرئيس السادات بسبب عدة قرارات اقتصادية كانت تمس محدودي الدخل، تخلى السادات عن القرارات لكن الغضب لم يتخل عن كثير من الشعب.. الغضب الشعبي هذه المرة، كان سببه سياسات مصر الخارجية، وسط مساعٍ حثيثة من أجل توقيع معاهدة سلام مع إسرائيل.. ولم تكن ذكرى زيارة السادات للقدس ببعيدة، وهي الزيارة التي وقعت في نوفمبر من العام نفسه.. الانحدار نحو هاوية “التطبيع” كان له أثر سلبي على الشعب وقطاعات عديدة منه.
ويحل العام 1978، وفيه تندفع وتيرة “التطبيع” وتُقبل الإدارة المصرية على منعطف خطير كان بحاجة إلى اجتذاب أكبر قدر ممكن من الفئات المجتمعية.
يُصدر الرئيس السادات قرارًا بتحديد يوم 18 مارس 1977 يومًا للطبيب المصري، وذلك قبل أسبوع واحد فقط من توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل برعاية أمريكية.
في مقال له منشور بجريدة الوطن يقول الدكتور، حمدي السيد، “حضر السادات أول احتفال في عام 79، قبل أسبوع من توقيع معاهدة السلام، وكان مترددًا في حضور هذا الاحتفال”.
ويشير الدكتور حمدي السيد إلى أن “السادات قام وألقى خطاباً ذكر فيه فضل الأطباء على مصر” كما أنه اتخذ عدة إجراءات في صالح الأطباء ونقابتهم، لكنه يضيف أن ذلك لم يمنع النقابة من “اتخاذ قرار تاريخي قاد مسيرة الفئات المتوسطة والنقابات المهنية والكتلة العمالية في مصر في مقاطعة التطبيع مع الجانب الإسرائيلي” و”نشرنا هذا القرار في «الأهرام» قبل موعد توقيع المعاهدة بثلاثة أيام، ومن حسن الحظ أن تبعتنا بعد ثلاثة أشهر نقابة الصحفيين، ثم نقابة المحامين، ثم باقي النقابات المهنية والتي تبلغ نحو عشرة ملايين عضو”.
لقد حاول السادات أن يسعى إلى بعض الفئات داخل المجتمع من أجل اجتذابهم واستمالتهم بحثًا عن نقطة توازن تنقذه من رحى الغضب الشعبي الداخلي والمقاطعة العربية الوشيكة.
المشهد الثالث: تراجع التقدير
بينما يحاصر وباء “كورونا” العالم، يتصدر الأطباء المشهد عن جدارة واستحقاق بحكم كونهم في الصفوف الأمامية لمواجهته، وليس أطباء مصر في مكانة أدنى من الشجاعة مقارنة بالأطباء على مستوى العالم بأسره.
فمنذ أيام قليلة، ودع الأطباء الشهيد رقم 395 من الفرق الطبية الذي يرحل مصابًا بالمرض، وهو الدكتور يحيى محمد الجمل رائد طب الأطفال بمصر والذي عمل رئيسا لقسم طب الأطفال بجامعة عين شمس سابقا.
سقوط الأطباء في مصر، قدّره البعض بأنه من أعلى المعدلات على مستوى العالم.. ورغم أن يذلك يرفع من قدر ممارسي مهنة الطب في مصر ويعلي من شأنهم في مواجهة فيروس يُرعب العالم، إلا أنه قد يشير في الوقت ذاته إلى تقصير ما في حمايتهم باتخاذ التدبير والتقدير اللازم.
فباستثناء إطلاق لقب “جيش مصر الأبيض” على الفرق الطبية الشجاعة، إلا أنه مازالت هناك شكاوى من بعض القضايا العالقة التي تتعلق بأوضاع الأطباء خاصة مع تنامي الظروف الطارئة التي تحيط بهم.
ففي مطلع مارس الجاري، قالت نقابة الأطباء إن هيئة مكتب النقابة برئاسة الدكتور حسين خيري، نظمت لقاءً موسعًا مع الأطباء أعضاء مجلسي النواب والشيوخ، على رأسهم رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب الدكتور أشرف حاتم، للحديث عن وضع الأطباء والمنظومة الصحية والوقوف على أهم القرارات الهامة والقوانين اللازمة لحفظ حقوق الأطباء والفريق الطبي وتحسين الخدمة الطبية.
نقيب الأطباء، خلال اللقاء، أكد أن هناك حاجة شديدة إلى قوانين عديدة ينتظرها الأطباء مثل تعويض شهداء ومصابي الكورونا، ورعاية أسرهم وضمان حياة كريمة لذويهم إضافة إلى أهمية قانون المسؤولية الطبية، موجهًا الشكر والتحية للأطباء الذين يقومون بمهمة خيالية تحت ظروف صعبة جدا ويبذلون من وقتهم وحياتهم الإجتماعية، وقاموا بالتضحية بأرواحهم، بشكل بطولي وخيالي.
يظل الأطباء هم إحدى أبرز دعامات “الاستقلالية”، وهم نقط من “نقاط التوازن” ليس على مستوى القيادات السياسية المتعاقبة فحسب ولكن على مستوى المجتمع بأسره، كما يظلون أيضًا بحاجة إلى تلبية احتياجاتهم المشروعة في وقت عصيب يعصف بهم.
في يوم الطبيب المصري، تتوجه أسرة “درب” بكل العرفان والتقدير لكل طبيب وكل ممارس لمهنة الطب على الدور العظيم الذي يقومون به ليس خلال زمن كورونا فحسب ولكن في كل الأزمنة.