يحيى قلاش يكتب: رحيل مطبوعة ورقية
اعتز أن شهادة ميلادي الصحفي تلقيتها من جريدة المساء صاحبة التاريخ والمعارك التي لا تنسى على المستوى الوطني والمهني. فقد أسسها خالد محي الدين وكوكبة كبيرة من الكتاب والمثقفين، ومنها انطلق أول ملحق أدبي في تاريخ الصحافة المصرية والعربية قدمه عبدالفتاح الجمل كشاف المبدعين والأدباء والمثقفين من كافة محافظات مصر، وصار منهم عبدالرحمن الأبنودي وصلاح عيسى وبهاء طاهر وجمال الغيطاني ويوسف القعيد ويحيى الطاهر عبدالله وإبراهيم أصلان وسعيد الكفراوي وغيرهم الكثير .
المساء هي الجريدة التي مر عليها العديد من الصحفيين الكبار من كافة الأجيال وتعرف من خلالها القارئ المصري العادي على فنون الفن التشكيلي ومدارسه وصار صبحي الشاروني أهم ناقد في هذا المجال من خلال هذه الصحيفة .. ومنها انطلق الفنان المبدع مصطفي حسين الذي ذاعت شهرته واختطفته مؤسسة الأخبار . ومن يذكر ” المساء” لا ينسى الناقد الرياضي الكبير حمدي النحاس الذي جعل -شعبية النقد الرياضي وفنونه في اختيار العناوين ومانشيتات الصفحات الأولى- تبلغ ذروتها حتى أن الجماهير كانت تتوجه فى مظاهرات حاشدة عقب المباريات أمام مبنى الجريدة رافعة صفحات الرياضة الخاصة بالصحيفة ومرددة عناوينها .
كما أسس النحاس بناءً على هذا النجاح الصحافة الرياضية المتخصصة التي انتشرت إلى حد المبالغة كما هي عاداتنا في تقليد أي نجاح .
في هذه الجريدة -التي كانت تنافس بأعداد توزيعها صحفًا يومية كبرى وكانت دائما تبحث عن جمهورها الخاص في مناقشات رواد المقاهي و السينما ومعارض الفنون و جلسات الأدباء و ملاعب الكرة و طلاب المدارس و الجامعات – كتب محمد عودة ويوسف إدريس وعشرات في قدرهما ومقامهما مقالات الرأي وخاضوا كثيرا من المعارك، وخص الأديب الكبير يحيي حقي “المساء ” بكثير من ابداعاته، ومنها انطلقت خيرية البشلاوي أحد أهم نقاد السينما في العقود الأخيرة ، وغيرها الكثير مما لايتسع معه المقام و المساحة للذكر .
صحيح تعرضت الصحيفة خلال العقود الاخيرة شأنها شأن بقية الصحف لعوامل أثرت علي مسيرتها لكن يظل إختفاء المساء المطبوعة – وهي جزءً من تاريخ مصر المدون – بكل تاريخها حدثا مهما يجب أن يأتي في سياق يحكمه منطق يوضح المعايير التي حكمت قرار اختفاء بعض الصحف المطبوعة – دون غيرها – وتحويلها إلأى مواقع إلكترونية ودوافع هذا القرار .. هل حسمنا بالحوار أو من خلال اي دراسة علمية أنه لا مستقبل للصحافة الورقية وأنها في سبيلها إلى أن تتحول لمجرد تاريخ ؟! وهل وفرنا لصحفنا مناخ المنافسة القائم على قواعد المهنية وهامش من الحرية يسمح باجتذاب جمهور واسع متعدد ومتنوع يحدد لنا في النهاية نجاح أو فشل اي صحيفة ؟ وهل هي معايير حجم التوزيع والأسس الاقتصادية ؟ وهل كان حاضرا تاريخ كل مطبوعة وحجم تأثيرها وارتباط جمهور من القراء بها في مراحل زمنية مختلفة ؟ وما هو مصير هذا الجزء المدون على الورق من تاريخ مصر وهو يخص بالأساس الذاكرة الوطنية ؟ وهل من خطة واضحة ومحددة تقول ماهي الخطوات المقبلة ؟ وهل من تَصوٌر أو رؤية عن مستقبل الصحافة القومية و دورها ؟. أتصور أن الوقت مناسب لفتح حوار أو مؤتمر يجمع كل المعنيين بهذا الملف من جهات مسئولة و معنية، ومن ممثلين عن الرأي العام وجمهور جيل جديد من القراء، وبالطبع العاملين بهذه المؤسسات في محاولة لتقديم إجابات حول المستقبل .
في ظني أن شهادة ميلاد اي صحيفة المشوب بالفرح لا يحتاج أكثر من كتابة بيانات حالة، أما شهادة الوفاة التي يحيطها حزن الفقد فتحتاج بالضرورة إيداع أسباب الوفاة .