«يا ريحة الناس والسنين الطيبين».. نجيب شهاب الدين الشاعر الذي نحبه ولا نعرفه: عزلة اختيارية وسيرة لا يغيِّبها الموت
سيد محمود: ظل يقول كلمته الوحيدة عندما تسأله عامل إيه، فيرد زي الشعب المصري.. (الله يعينكم، أيام صعبة أنا ورايا اكتئاب)
ماذا قال عنه الشيخ إمام عندما سأله المحقق عن صلته بالشاعر نجيب شهاب الدين: شخص مصري بيحب مصر
كتب- محمود هاشم:
”ما يهمنيش الخطاوى اللي جاية، في آخر الليل، في الشارع المحني الطويل، حارقص، وأقول للناس: بقالي حيل” .. هكذا عاش نجيب شهاب الدين حياته شاعرا متمردا على واقع الحياة وحسابات السياسة، مكرسا كلماته صوتا للمهمش والمنبوذ ولسانا لحال الوطن وأبنائه.
لا يعرف الكثيرون عن شهاب الدين، ابن قرية البتانون في مدينة شبين الكوم بمحافظة المنوفية، الذي توفي أمس الثلاثاء، عن عمر ناهز 77 عاما، سوى قصيدتيه الشهيرتين، اللتين غناهما له الشيخ إمام عيسى “يا مصر قومي شدي الحيل” و”سايس حصانك”، رغم تدفق إنتاجه الشعري كما يحكي المقربون منه، بل إنه حتى لم يجمعه في ديوان واحد طوال حياته، إلا أن ما وصلنا من كلماته كان كفيلا بتدفق المشاعر الوطنية في العروق.
هنا في ميدان التحرير – خلال ثورة 25 يناير – ينشد الآلاف بقصيدته الشهيرة دون حتى أن يعلم بعضهم الكثير عن صاحبها، لكنها كانت ونسهم في ليالي السمر ومعارك الميدان “الدم يجري في ماء النيل، والنيل بيفتح على سجني، والسجن يطرح غلة وتيل، نجوع ونتعرى ونبني، يا مصر لسة عددنا كتير”.
يحكي الكاتب الصحفي سيد محمود عن ذكرياته مع الشاعر الراحل، قائلا: “ظل يقول كلمته الوحيدة عندما تسأله عامل إيه، فيرد زي الشعب المصري، إلى أن مات كنت أطلب منه أن يكتب مذكراته ويجمع شعره ومقالاته القليلة التي كتبها عن أساطين الغناء وكان يتحجج بالوقت، شباب كتير مش عارفين شعر نجيب شهاب الدين اللي مات النهاردة، لأنه لم يهتم أبدا بجمع أشعاره أو نشرها”.
يضيف محمود: “الناس اللي عجبها شعر عم نجيب شهاب الدين وسألوا ليه شعره لم ينشر في كتاب؟! الرد ببساطة كل الناس اللي عرفته وكان معارفه كتير، ومعظمهم شخصيات عامة حاولوا معاه بس هو اشترى دماغه ومكنش عايز غير بيت مفتوح طول الوقت، وصحبة للعب الطاولة، وشوية أغاني ومزيكا وشرايط قرآن للمقرئين اللي بيحبهم، وكان دائما يرد بعبارة شهيرة (الله يعينكم، أيام صعبة، أنا ورايا اكتئاب)، ومن جواه كان نهر طيبة، ويوم ما تسأله عايز إيه أجيبه معايا يقول لك شوية بن، كانت عزلته اختيارية جدا جدا وتقدر تقول شاعر جوة وبرة”.
“قصيدة المنبوذين”
كان نجيب يمثل حالة شعرية خاصة ارتبطت بواقع جيله الذي عاش أحداث ثورة 23 يوليو، وذاق مرارة النكسة، وموجة الانفتاح وقمع ممثلي التوجهات الاشتراكية والقومية، فشكل ذلك كله شخصيته الأدبية التي عبر عنها في أشعاره، خاصة التي عاشت طويلا.
وكانت هموم الطبقات المهمشة والفقيرة حاضرة في معظم أعماله، يبصر أحوالهم كلما سار في حواري القاهرة وأزقتها، فيكتب عنهم: “يا منبوذين الهند كفكفوا دموعكم، دي مصر فيها المنبوذين ملايين، منبوذين حافيين يلمّوا سبارس، منبوذين ماسحين جزم دايرين، ومنبوذين شبان معاهم شهايد، حرام عليهم يدخلوا الدواوين، ومنبوذين نسوان وضابط مباحث داير وراهم من كمين لكمين، ومنبوذين في البيت عشاهم فلافل وأيام السنة جعانين، ومنبوذين ضايعين ما تعرف خبرهم، ولا فيهم ينسمع له أنين”.
“شاعر تكدير الأمن العام”
يذكر صلاح عيسى فى كتابه «شاعر تكدير الأمن العام» تفاصيل جلسة التحقيق مع الشيخ إمام في سبتمبر 1974، في القضية التى اشتهرت إعلاميا وسياسيا باسم «شرفت يا نيكسون بابا»، نسبة إلى اسم القصيدة التي ألفها أحمد فؤاد نجم بمناسبة زيارة الرئيس الأمريكى الأسبق نيكسون إلى مصر، والتي ورد فيها اسم شهاب الدين في التحقيقات.
ففي الاتهام الموجهة له بـ”ارتكاب جريمة بث الدعايات المثيرة وإذاعة البيانات والإشاعات الكاذبة والمغرضة”، سأل المحقق الشيخ إمام عن صلته بالشاعر نجيب شهاب الدين، فقال: «هو صديق أراه أحيانا ويسافر أحيانا لبلده، وكتب لي قصيدتين أعجبتاني، واحدة تقول «يا مصر قومي وشدي الحيل» والثانية تقول «سايس حصانك»، والقصيدة الأولى سياسية تدعو الشعب للالتفاف حول مصر، والذود عن أرضها، وليس فيها هجوم، والثانية قصيدة غنائية فلكلورية وليست سياسية، ولحنت القصيدتين وغنيتهما في الجلسات الخاصة لأني لا أقترب من الإذاعة منذ سنة 1968، كأوامر من الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لأني كنت أهاجمه في الأغاني، وهاجمته في سنة 1967 بعد النكسة، نجيب شهاب الدين شخص مصري بيحب مصر”.
ارتبط اسم شهاب الدين باسم الشيخ إمام بعد رواج القصيدتين اللتين غناهما الأخير منذ ستينيات القرن الماضي، في عدد أغسطس من عام 1995 من مجلة المصور، انتقد شهاب الدين الكاتب الراحل محمود السعدني بسبب مقال له بعنوان “أكذوبة الشيخ إمام”، قال فيه إن إمام لم يلحن أغاني أحمد فؤاد نجم أو يغنيها، وإنما كان يرددها ليجد سبيلا إلى “اللقمة الطرية والقعدة الهنية”، وإنه “لم يكن يقصد الوطن أو الناس أو بلاء الهزيمة التي مني بها نظام عبدالناصر وكبار ضباطه، وإنما كان قصده – على حد قول السعدني – قضاء السهرة في الوكر الذي يقيم فيه”.
مجمل كلام السعدني – وفق ما كتب شهاب الدين – أن الثأر ليس بينه وبين الشيخ إمام، وإنما ثأر قديم بين النقاد اليساريين، والاشتراكيين منهم على وجه الخصوص، حتى أنه هاجم الشيخ – في أيام عبدالناصر – حينما كانت تجربته وأحمد فؤاد نجم في نضارة الميلاد، وقد استشعر النظام خطورة ذلك النهج وحاول ترويضهما في معامل الإعلام، وكان الإعلام في حالة كسوف وخزي، لكنه فشل في ذلك فلفق لهما قضية مخدرات باءت بالفشل، ثم أصدر أومرا باعتقالهما، ليهاجمهما السعدني حينها، وقد كان مسؤولا في مؤسسة روزاليوسف”.
الوصية الأخيرة
“متخافش م العين اللي ع الشيش دايرة، متخافش م العسكري، شوف الطيور اللي طايرة، متخافش م القلعة وم الرهبان، متخافش م الخايفين”، عاش أيامه الأخيرة يعاني من مشكلات في العمود الفقري، فقد على إثرها الحركة منذ أشهر، أنهك المرض جسده النحيل، فصار شاردا لا يقوى على الحديث حتى مع أحبابه، لكنه ترك هذه الكلمات لابنه إسماعيل عند مولده في عام 1978، وربما لجميع أبناء الوطن فيما بعد.
ربما كان شهاب الدين يشعر أن ما كتبه لابنه سيكون وصيته الأخيرة له بعد مماته، فلخَّص له تجربته مع الحياة بأحلامهما ومآسيها واختياراتها التي لم يثنيه دفع ثمنها لاحقا عن السير في دروبها، “يا ريحة الناس والسنين الطيبين، اطلع على كتفي شوف، العب في كل الرفوف، متخفش من أي شيء، لأني قبلك، خُفت من كل شيء، طول اللي ما طُلتُهوش، في الفجر لو طلبوك، في الدنيا لو صلبوك، طول اللى ما طاله أبوك”.