وداعا عم حبشي: عن الفقر الذي يلفظ حتى كبار السن من مصر
كتبت أميرة الطحاوي –
عندما يجتمع عليك ثلاثي الفقر والمرض و.. سؤ التقدير . مصري في بداية الخمسينات يبيع ما “قد” يملك و “يتداين” تاركا أبناءه الخمسة في الدلتا، ثم وعلى متن مركب لسواحل إيطاليا على البحر المتوسط ، فيُقبض عليه، ويتهم فور وصوله بأنه “مهرب بشر” لمجرد مساعدته في الإبحار بزوارق، بعدما فر طاقم المركب الرئيسي، لينقذ هو رفاقه المهاجرين واللاجئين وملتمسي الحماية مختلفي الجنسيات من الغرق، وبعد إدانته من القضاء الإيطالي وبينما يقترب من إنهاء عقوبته أربع سنوات حبسا، وبنظرة لعينه التي حال لونها إلى الأصفر جليّا، يكتشف الأطباء مرضه، لتظهر التحاليل اللاحقة إصابته بمرحلة متقدمة (الرابعة) من سرطان البنكرياس. وفي فبراير من هذا العام، وقبل أيام من انتهاء محكوميته (منتصف مارس) يتنقل “حبشي راشد حسن عرفة” بمساعدة هيئة خيرية لتلقي “العلاج” في مركز للأورام ببلدة رياتشيه في كالابريا الإيطالية. لا للشفاء، فقط ما يكفل للمريض انتظارا للرحيل لكن بقدر أقل من الألم والمعاناة.
حبشي راشد حسن عرفة – عن الأسرة
أتواصل مع الصحفية الإيطالية “سيمونا مسكو” التي نشرت عن معاناته، وتقول أن شكوى النزيل لم تؤخذ على محمل الجد لسنوات، من السلطات المعنية، (ويبدو وبحسب حقوقيين أن هناك حالات أخرى مماثلة لتجاهل وإهمال النزلاء خاصة الأجانب منهم) وتدهورت حالته في يناير من العام الجاري. يتمنى أن يضم أطفاله قبل أن تحين ساعة لا مفر منها.
في “القرية العالمية” حيث نُقِل، يفرح بوجود أطفال غالبهم مهاجرون من أصقاع الأرض وصلوا إيطاليا غير مصحوبين بذويهم. محروم هو من أطفاله صغارا وكبارا. وكان قد رفض في الأيام الأخيرة أن ترى أسرته صوره على حالته المرضية المتدهورة حسب أسرته.
في الأسبوع الثاني من مارس يرفض حبشي أن يأكل شيئا لأيام، وتزداد حالته سؤ وبحسب الأطباء المعالجين كان وضعه غير مطمئن. في 21 مارس يرحل عن دنيانا.

القرية العالمية حيث توفى حبشي
إنه نموذج لآلاف من المصريين في أعمار متفاوتة خلال العقدين الأخيرين، دفعهم لهذا الطريق الفقر بدرجة أساسية، ومحدودية فرص العمل اللائق: المؤطر بتأمينات صحية واجتماعية، وأحيانا التطلع للترقي الاجتماعي في فئات أخرى، وعدم تقدير العواقب من بعضهم ، فيركبون البحر وقد يموتون في الغربة إذا لم يلتقمهم البحر نفسه في رحلات الهجرة بقوارب الموت تلك. اختلاف واحد أن حالة “حبشي” اجتمع فيها مآس عدة طوال حياته، وحتى نهايتها: ، مهاجر اقتصادي بطريقة غير نظامية ، لم يتمكن من تأمين حياة كريمة لأطفاله بمصر، ولم تفلح مغامرته، وعاني لسنوات حبيسا ومريضا وغريبا.
فخ تجريم اللاجئين والمهاجرين أوربيا:
“عمر”، مزارع ثلاثيني آخر فر من مصر مهاجرا بحثا عن لقمة عيش، وتعرض لنفس الاتهامات، ولكن في اليونان قبل أكثر من 10 سنوات، تخلى قائد الزورق عنهم وأخبره أن عليه القيادة “زي ما بتسوق الجرار ف الأرض” ففعل، واحتجز لأشهر لكنه انتقل لاحقا لإيطاليا.

المصري عمر في رحلة إبحاره لسواحل اليونان
“تسوق القارب زي الجرار ف الأرض”
فيما استمر العديد من المهاجرين واللاجئين لشهور وسنوات على جزيرة يونانية دون تحديد لمصيرهم أو سماح لهم بالعمل. يواجه المهاجرون المصريون نفس المصير أيضا فليس من السهل دخلهم سوق العمل قبل إنها معاملاتهم الإجرائية والقانونية وهو ما يضيف عبئا ماليا جديدا خاصة مع مطالبة المهربين (ولأسرهم في مصر) ببقية ما يطلقون عليه “مستحقاتهم”.
كان يمكن أن يلقى “عمر” مصير حبشي إذا ما أثبت القضاء أنه قاد زورق اللاجئين والمهاجرين للنجاة، وعقابه على ما فعل “باعتباره مهربا للبشر”.
إعلان العمدة عن رحيل حبشي ونهاية رحلة آلامه ووصول جثمانه لمقبرة القرية في اليوم التالي
فئات جديدة تسلك الهجرة غير النظامية لأوربا:
يخبرني عمر الذي استقر عمله في مجال المعمار بإيطاليا أن شخصا يقترب من الستين وصل من مصر مؤخرا، ويرغب في العمل، أي عمل، خبرته السابقة إدارية وكان يعيش في حي راق نسبيا بالقاهرة (الرحاب). وأن خطوته تلك – أو بالأحرى مغامرته – كلفته نحو نصف مليون جنيه، بخلاف مبالغ دفعت عقب الوصول، كل هذا بهدف “تستيب” أوراقه ليصبح مقيما رسميا، و من ثم الاستفادة من قانون لم الشمل ليتيح لأبنائه القدوم من مصر، ويعطيهم فرصة في حياتهم المقبلة في إيطاليا وأوربا.
إنه ترند جديد : سفر المتقدمين في السن بحثا عن حياة أفضل، إذ لم يكن لهم، فلأبنائهم من بعدهم إذا أتت الرياح بما تشتهي سفنهم. وإذا وصلت هذه السفن وهم بأمان .
ألاحظ أن شقيقا لحبشي من نفس الفئة العمرية في إيطاليا بالتهريب أيضا منذ عامين لم يكمل إجراءات إقامته حتى مؤخرا، فيما حاول زوج شقيقتهم المرور بنفس المسار عبر ليبيا، لكن التعذيب والمرض وخداع المهربين أعاده لمصر مضطرا، ليموت بعد أسبوع واحد فقط.
ظاهرة هرب وتهريب الأطفال المصريين
قبل عقدين بدأ اتجاه آخر في تسفير الأطفال والقصر المصريين لأوربا عبر ليبيا، في البداية كانت حالات محدودة وحظت بتغطية إعلامية من تلفزيون الدولة ورجال الأعمال، خاصة إذا سافر الطفل للعمل أو لإرسال مال لعلاج فرد من الأسرة. اللقطة والحدث حصلا على اهتمام بعض برامج التوك شو وقتها ( بدء من 2005) ولكن مع زيادة الحالات أخذ الإعلام في تجاهلها عمدا، واهتمت الدولة في تصريحاتها المكررة بإثبات أن مراكب الهجرة لا تخرج مباشرة من سواحل مصر ، بل من ليبيا وغيرها، يفتخرون بهذا. ولم تلتفت الدوائر المعنية كثيرا لزيادة حالات الهجرة على هذا المنوال التي صارت ظاهرة وتجارة (مستفيدين برعاية الدولة هناك الأطفال حتى يصلوا للثامنة عشر من عمرهم ويحصلوا على هويات ومسوغات إقامة وإجازات للعمل) . فمثلا، وصل عدد الأطفال والقصر المصريين الذين وصلوا بهجرة غير نظامية لإيطاليا نهاية 2023 إلى 4677 قاصرا وهو ما يمثل خمس الأطفال غير المصحوبين بذويهم من خارج أوربا.
(م.) شاب ثلاثيني يتراجع عن الخطوة نفسه، لكنه كان قاب قوسين أو أدنى منها، سافر سابقا للأردن والسودان، وعندما حدثت الحرب الأخيرة عاد بعد احتجازه لنحو شهرين، اضطر للعمل باليومية ويسافر من بلدته بكفر الشيخ إلى القاهرة يوميا، يقيم أحيانا في مشروع على امتداد التوسعات العمرانية بالمدن الجديدة، ثم بمعونة من الأسرة الممتدة بدأ مشروعا تعرض فيه للنصب، العدالة (أحيانا) ليست ناجزة وسريعة في مصر رغم أحكام واجبة النفاذ على المدانين بسرقة رأسماله (وضمنا مساهمات أسرته أيضا). تزدادا حالته المالية سؤ، يفكر في السفر، تطلب شركات التسفير مبالغ تفوق طاقته (نحو مائة إلى مائتي ألف جنيه مصري) وغالبا ما يقبل فيها مهنيون بشروط صعبة على شاب تعدى الثلاثين وبمؤهل تعليمي متوسط. يطرح المهربون مسار سفر عبر تركيا وبلغاريا وصولا لإيطاليا ولكن بمبالغ أكبر. المسار ليس آمنا كما يظن البعض إذ يتعرض المهاجرون لترهيب وقتل وأحيانا إهمال في الغابات وبين الثلوج حت يموتوا متجمدين كما حدث مع ثلاثة أطفال مصريين (15-17 عاما) قبل ثلاثة أيام من نهاية العام 2024.
أتابع مع أسرة (م.) كيف يفكر ، وكيف “يفلسف” له البعض الخطوة ويقللون له من مخاطرها. إنها تبقى خطرة وقاتلة، وغير مضمونة، لكن الفقر والخوف من تكرار الكبوات والأزمات الاقتصادية يزين لعينيه الخطوة أحيانا.
زيارة النائب الإيطالي لحبشي 7 مارس الجاري
في حواري معه، يقول السيد انتونيو انريكو، محامي حبشي لثلاث سنوات، انه كان إنسانا طيبا مثقفا وكان في حالة حزن دائم ، لقد كبر اصغر أبنائه (8 و11 عاما الآن) بعيدا عنه، يخبرني وليد، شقيق حبشي، انه كان متعلما يتحدث الإنجليزية وبعض الفرنسية، وانه تعرض لفخ إذ باع الربان القارب وهي في عرض البحر لآخر (ثم فر لايرلندا) ويضيف أن شقيقه كان يعمل على القارب في الصيانة قبل تحويل غرضها لنقل المهاجرين، وانه فقط حاول إنقاذها ولم يكن يستحق هذا المصير.
وصل حبشي إلى روكيلا (في كالابريا) في 19 أكتوبر 2021. في اليوم التالي كان بالفعل في سجن واحتجز متهما أنه مهرب دون شهود ولا أدلة كافية، كان الوحيد الذي بحوزته جواز سفر بحري ويتحدث العربية، لم يوفروا له مترجما بحسب أسرته، وحكمت عليه محكمة لوكري في 12 مايو 2021 ، وثبت الحكم في الاستئناف في 17 يناير 2023 وأصبح باتا واجب النفاذ في 2 يونيو من نفس العام. يلحظ زيادة في عدد من يجري توقيفهم واتهامهم (في 2020 جرى توقيف 300 مصريا بتهم تتعلق بتهريب المهاجرين، يقول كثير منهم انهم فقط ابحروا مضطرين بالقوارب لبر النجاة بعد فرار القبطان الفعلي، بحسب ما ورد في بيانات مشروع “من البحر إلى السجن الحقوقي”، وتحديدا التقرير الفصلي الرابع للعام ٢٠٢٣) وان 60 مصريا احتجزوا لنفس الاتهام في 2023.
يحاول الشقيق والمحامي وصديق آخر إنهاء إجراءات نقل جثمان “حبشي” ليدفن في مطوبس كفر الشيخ حيث الأسرة.
بعد استخراج أوراق رسمية من مصر لإثبات علاقة القرابة وتصديقها في الخارجية، وإرسالها لإيطاليا، توجه وليد يوم الاثنين للسفارة المصرية في روما، حيث لا تعمل في نهاية الأسبوع حتى للطواريء المشابهة، ثم انتقل بالقطار إلى رياتشيه في السابع والعشرين من مارس لبدء إجراءات استلام ثم نقل الجثمان لمصر.

رياتشي قرية تقع في مقاطعة ريدجو كالابريا في إيطاليا. يبلغ عدد سكانها 1751 نسمة
من ناحيته أعلن السيد ” دومينيكو لوكانو” رئيس بلدية رياتشيه وعضو البرلمان الأوربي أنه وانه قدم اقتراحاً لمجلس المدينة بمنحه الجنسية الفخرية في 28 مارس الجاري، كما قدم الرجل اعتذرا له عما لاقاه في إيطاليا حتى وفاته… لكن أحدا في مصر لم يعتذر بعد عن دفع حبشي وآخرين لركوب البحر ومشاغبة الموت هربا من الفقر وضبابية المستقبل في وطنهم الأم، مصر.