ننشر حكما سابقا لـ”الإدارية العليا” يؤكد مشروعية الإضراب.. وحقوقيون: التعارض مع حكم “موظفي البريد” يستوجب الإحالة لدائرة توحيد المبادئ
“المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية”: المحكمة عدلت عن رؤية تجريم إضراب الموظفين.. واعترفت به كحق ثابت دستوريا لا يستوجب عقابا
خالد علي: تعمد غياب التشريع الذى ينظم كيفية الممارسة لا يستجوب التعامل مع الموظف باعتباره إثما يستحق عليه الفصل
مالك عدلي: الجزاءات التأديبية أو الجنائية تقر على أفعال التخريب أو منع العمل جبرا وليس الإضراب السلمي
محمود هاشم
أثار قرار المحكمة الإدارية العليا، إلغاء الحكم الصادر من المحكمة التأديبية لوزارة الصحة وملحقاتها ببراءة 3 من العاملين بالهيئة العامة للبريد، وحكمها بفصلهم، لإضرابهم عن العمل في فبراير من عام 2014، متهمة إياهم بتعطيل العمل ومنع تحصيل المبالغ المالية المستحقة للدولة، جدلا واسعا بين الأوساط الحقوقية.
الجدل الذي صنعه حكم “الإدارية العليا” سببه حكم قضائي آخر من المحكمة ذاتها متعارض مع الحكم الحالي، حيث أجاز الحكم الأول الإضراب بجميع أنواعه لجميع العمال والموظفين، مؤكدا أنه حق دستوري، وغير مخالف للشريعة الإسلامية، ما دعا عدد ن المحامين الحقوقيين للمطالبة بإحالة هذه الأحكام المجمعة إلى دائرة توحيد المباديء لإصدار مبدأ موحد بشأن القضية.
وينشر “درب” حيثيات الحكم الأول الصادر منذ 5 أعوام، بمشروعية الإضراب بجميع أشكاله، مع تفنيده مقارنة بحكم آخر بمعاقبة بعض الموظفين بالإحالة للمعاش لإضرابهم عن العمل.
في مطلع ديسمبر 2015، أودعت الدائرة الرابعة بالمحكمة الإدارية العليا أسباب حكمها في الطعن 19485 – 59 ق ع، والذي أكدت فيه أن الإضراب السلمي حق دستوري لكل الموظفين والعمال.
وأصدر رئيس محكمة استئناف الإسماعيلية قرارا برقم 30 لسنة 2012، تضمن مجازاة موظفة بالمحكمة بالخصم 3 أيام من راتبها واحتساب أيام 28 و29 فبراير والأول من مارس 2012 انقطاعا عن العمل بلا أجر بزعم إضرابها عن العمل خلال تلك الأيام.
وطعنت الموظفة على هذا القرار أمام المحكمة التأديبية بالإسماعيلية، والتي أصدرت حكمها رقم 25 لسنة 18 ق، بإلغاء الجزاء وصرف كامل أجرها، مؤكدة أن الإضراب السلمى حق وليس جريمة تستوجب العقاب، وطعن وزير العدل ورئيس محكمة استئناف الإسماعيلية على هذا الحكم أمام المحكمة الإدارية العليا، التي قضت برفض طعنهما وأيدت حكم المحكمة التأديبية بالإسماعيلية.
وأشار المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلى أن حيثيات الحكم تكشف عن أحدث المبادئ التي أقرتها المحكمة الإدارية العليا بشأن حق العمال والموظفين في الإضراب عن العمل، وأكد المركز أن أهمية هذا الحكم لا تعود فقط للمبدأ الذى أرسته المحكمة وإنما تعود أيضا إلى أنه صدر من الدائرة الرابعة بالمحكمة الإدارية العليا والتي سبق لها خلال هذا العام إصدار حكما في الطعن 24587 – 61 ق ع بمعاقبة بعض الموظفين بعقوبة الإحالة للمعاش لكون الإضراب عن العمل يؤدى إلى تعطيل المرافق العامة، وبزعم أن ذلك يخالف أحكام الشريعة الاسلامية ومقاصدها، بما يفيد أن حيثيات الحكم الجديد تتضمن عدولا ضمنيا من المحكمة عما قضت به سابقا في ثلاثة محاور رئيسية:
في المحور الأول، كانت المحكمة في حكمها السابق ترى أن حق الإضراب تقرر للعمال بموجب العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية الذى صدقت عليه مصر، وأن تنفيذ هذا العهد مقيدا بتحفظ مصر بعدم مخالفة أحكام الشريعة الاسلامية، وهو التحفظ الذى استندت إليه المحكمة في حكمها السابق وتجاهلت نصوص الدستور المصري، فضلا عن أن المحكمة كانت ترى أن “إضراب الموظفين العموميين جريمة جنائية”.
أما في الحكم الثاني عدلت المحكمة ضمنيا عن هذه الرؤية، ليؤكد مضمون مبدأها الجديد على أن الإضراب أضحى حقا دستوريا للعمال والموظفين الحكوميين وليس جريمة أو منحه، وأن الإضراب يستمد وجوده وقوته ليس فقط من الاتفاقية الدولية ولكن من النص عليه أيضا بدستوري 2012 و2014، حيث نصت المحكمة صراحة في حيثيات حكمها الجديد على (أنه بموجب دستوري 2012 و2014 لم يعد الإضراب منحة بل صار من الحقوق الدستورية المكفولة لكل فئات العمال بغض النظر عن طبيعة الجهة التي يعملون بها، أي سواء بالقطاع الحكومي أو العام أو الخاص).
وفي المحور الثاني، كان الحكم السابق يرى أن حق الإضراب “رهين بوضع القوانين المنظمة له بما لا يخالف الشريعة الاسلامية، وأن هذه القوانين لم تصدر حتى هذه اللحظة بل أصدر المجلس العسكري المرسوم بقانون 34 لسنة 2011، والذى يقطع بأن المشرع المصري تبنى موقفا متشددا إزاء إضراب الموظفين”.
أما في الحكم الثاني عدلت المحكمة عن هذه الرؤية، وأكدت على أن تقاعس المشرع عن وضع قواعد تنظيم ممارسة الموظفين للإضراب لا يمنعهم من ممارسته لأنه سار حقا وليس جريمة تستوجب العقاب، ونصت صراحة في حيثيات حكمها الجديد قائلة (بمعنى أنه أضحى معترفا به كحق مشروع من حيث المبدأ ومنح المشرع واجب تنظيمه، وسواء نشط المشرع أو لم ينشط لينظم هذا الحق على النحو الذى يستحقه شعب عظيم قام بثورتين -ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 والثلاثين من يونية 2013- فإن استعمال العمال لهذا الحق جلبا لحقوقهم دون إضرار بالمرافق العامة إنما هو استعمال مشروع لحق ثابت دستوريا ولا يستوجب عقابا).
أما في المحور الثالث، كان الحكم كان يرى أن الإضراب عن العمل يؤدى إلى تعطيل المرافق العامة ومن ثم تعطيل مصالح المواطنين، وهو ما يعنى أن الموظف له منفعة حال مطالبته بحقوقه عن طريق الإضراب لكن هذه المنفعة يترتب عليها مفسدة وهى حرمان المواطنين من قضاء مصالحهم بسبب تعطل المرفق لإضراب الموظف عن العمل، وبالتالي يجب أن نُعمل القاعدة الفقهية بشأن “درء المفاسد مقدم على جلب المنافع” وبزعم أن “أحكام الشريعة الاسلامية لا تجيز توقف عمال المرافق عن تقديم الخدمة التي تقدمها إلى الجمهور”.
وفي الحكم الثاني عدلت المحكمة ضمنيا عن هذه الرؤية، حيث يذهب مضمون مبدأها الجديد إلى أن أي إضراب عن العمل يعنى امتناع الموظفين عن القيام بمهام عملهم، وبالتالي سوف يترتب على ذلك حتما إيقاف العمل بالمرفق، لأنه من غير المنطقي القول بأن الإضراب حق دستوري وعند ممارسة الموظفين له نقول لهم أن هذا الامتناع مجرما ونقوم بمعاقبتهم، ونصت صراحة فى حكمها الجديد على (إذ أنه متى قرر الشارع حقا اقتضى ذلك حتما إباحة الوسيلة إلى استعماله، إذ يصدم المنطق أن يقرر الشارع حقا ثم يعاقب على الأفعال التي يستعمل بها، فيكون معنى ذلك تجريد الحق من كل قيمة وعصفا به كلية وتحريما ومصادرة كاملة للحق ذاته).
وفي هذا السياق، قال المحامي الحقوقي والمرشح الرئاسي السابق خالد علي، إن الإضراب عن العمل لا يخالف أى نص فى القانون العام، فهو حق دستورى منذ ٢٠١٢، والنص قابل للتطبيق بذاته، فطالما لم يضع المشرع تشريعا ينظم كيفية ممارسة هذا الحق، فلا يعنى ذلك مصادرته وتقييده بل يعنى إطلاقه، وهذا هو ما أخذت به محكمة أمن الدولة العليا طوارىء، وكل المحاكم الإدارية، وكذلك حكم الإدارية العليا، حتى في حالة التعارض بين القاعدة القانونية والقاعدة الدستورية تطبق الأخيرة.
وشدد على أنه لا يوجد أى نص فى القانون العام يحظر حق الإضراب، لافتا إلى أنه من الأولى إحالة الملف إلى دائرة توحيد المبادىء بالمحكمة الإدارية العليا، لتصدر مبدأ موحدا بشأن القضية، خاصة فى ظل وجود حكم الإدارية العليا لصالح موظفة محكمة الإسماعيلية، الذي لا يحظر الحق فى الإضراب ولا يجرمه ولا يرتب على ممارسته أى عقوبة.
وأوضح أن التعارض بين المبادىء يستدعى تدخل المشرع لتنظيمها، بما يحقق التوازن بينها، ولكن تعمد غياب التشريع الذى ينظم كيفية ممارسة هذا الحق لا يجب أن يحرم العامل مطلقاً من حق كفله الدستور، ويتعامل معه باعتباره إثما يستحق عليه الفصل من العمل.
وقال المحامي الحقوقي مالك عدلي، مدير المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إن الحق في الإضراب منصوص عليه في العهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وهو وسيلة من وسائل التعبير عن الرأي أو الاحتجاج السلمي، وهو أمر منصوص عليه قانونا، والإعلان العالمي لحقوق الإنسان ليس وثيقة ملزمة بين الدول، على عكس العهد الدولي الذي يعد اتفاقية ملزمة للحكومة المصرية.
وأضاف: “هذا الحق يدعمه أيضا، حكم من المحكمة الإدارية العليا نفسها في عام 2015، أكدت فيه أن الإضراب السلمي حق دستوري لكل الموظفين والعمال”.
ولفت إلى أن الدائرة الرابعة في المحكمة الإدارية العليا ذاتها، ذاتها أكدت عدم مخالفة الإضراب للشريعة الإسلامية، موضحة أنه حق منصوص عليه دستوريا ومعترف به دوليا، وهو ما يستوجب إباحة المشرع آلية استعماله، مشيرة إلى أن هناك فرق بين استعمال حق الإضراب السلمي، وبين الاعتداء على المنشآت وتخريبها، حيث تقرر الجزاءات التأديبية أو الجنائية على أفعال التخريب أو منع العمل جبرا.
وأوضح أن الحكمين المتناقضين باتا يستوجبان على مجلس الدولة إرسال الدعاوى بهذا الشأن إلى دائرة توحيد المباديء، لتحدد أي من الحكمين أصح قانونيا ودستوريا.