نقيب الصحفيين الأسبق يحيى قلاش يكتب: قيد العضوية بالصحفيين.. بلغ الخطر مداه!
القيد بجداول عضوية أي نقابة مهنية هو عامود الخيمة والقوام الأساسي الذي تبنى عليه النقابات ويشكل ملامحها الرئيسية.. وتشويه عملية القيد أو ارتباكها كفيل بتشويه المشهد النقابي، ويلقي بظلاله كاملة على تركيبة الجمعية العمومية وفاعلية دورها.. لذلك يتعاظم الاهتمام بتطبيق القانون في هذا الصدد، وتعطي كثير من النقابات أولوية لمراجعة وتنقية جداول العضوية بشكل دوري.
ويكتسب القيد بجداول عضوية نقابة الصحفيين أهمية خاصة، ويثار حوله الجدل في أحيان كثيرة لأسباب إضافية عن النقابات الأخرى، فممارسة المهنة- بعد المؤهل العالي- هي الأساس الذي تبنى عليه العضوية وتنهار إذا توقفت هذه الممارسة، لذلك تطلب القانون أيضًا التفرغ التام للمهنة، وأن يكون دخله الوحيد منها، وهذا هو المدخل للاحتراف والبقاء والاستمرار بجدول المشتغلين.
كما أن عضوية نقابة الرأي ترتبط غالبًا بطبيعتها، ولا تفصله دوائر كثيرة عن مواقف النقابة القومية والوطنية ودفاعها عن الحريات، ودورها ومواقفها التي باتت تشكله جمعياتها العمومية.
تاريخيًا انتقل القيد بالنقابة- بعد نضال الصحفيين- من اختصاص إحدى محاكم الاستئناف إلى حق أصيل للنقابة، باعتبارها أدرى بشعابها.. ومن وقتها أولته أهمية خاصةً واختارت له في أغلب فتراتها من بين أعضاء مجالسها أكثر المهنيين والنقابيين خبرة وسمعة طيبة، من أبرزهم الشيخ حافظ محمود وأمينة السعيد وعبد العزيز عبد الله وجلال عيسى وجلال عارف وأمينة شفيق ورجائي الميرغني وسلامة أحمد سلامة وسعيد عبد الخالق وكثيرون غيرهم.
وظلت النقابة- في أوقات كثيرة- قادرة على حماية القيد بجداولها، ومدركة لمخاطر كثيرة ألقت بظلالها على هذا الملف، ومنها الضغوط لتغيير تركيبة العضوية، في محاولة لترويض النقابة أو احتوائها بعد أن فشلت عدة محاولات سابقة لضم الإعلاميين إليها.
وظلت عملية القيد تحت رعاية الجمعية العمومية ووعي الكثيرين من أعضاء مجالس النقابة، مما شكل حائط صد في كثير من الأحيان، ولكن في أحيان أخرى نجحت محاولات تسلل بعض العضوية غير المهنية. لكن في المجمل يبقى القيد بجداول النقابة ولجنتي القيد الابتدائية والاستئنافية وطبيعة تشكيلهما، ودورهما، وطريقة أداء مهمتها، مثار رعاية واهتمام ورقابة من الجمهور، ومن مؤسسة مجلس النقابة، الذي يتحمل في النهاية المسؤولية، طبقًا للقانون، فهو الذي يباشر ضمن اختصاصاته الأصيلة تنفيذ الفصل الثاني الخاص بشروط القيد والعضوية، ومن بينها تشكيل أعضاء اللجنتين (الابتدائية والاستئنافية) مع بداية كل دورة، وهو المعني بالتأكد من صحة تطبيق القانون، ومن اتخاذ اللجنة كل الإجراءات السليمة في هذا الصدد، بعد أن يحيل النقيب طلبات القيد للجنة، التي تخطره بقراراتها، بل وفي بعض الأحيان، وإذا كان هناك مقتضى؛ فللنقيب أن يرأس أعمال اللجنة بنفسه، وهو ما حدث في بعض الأحيان التي تزايد فيها الجدل حول أعمال اللجنة، كما أن مجلس النقابة- الذي يقوم بتشكيل اللجنة، واختيار عضوي اللجنة مع وكيل النقابة- له أن يعيد تشكيلها في أي وقت إذا رأى ضرورة لذلك.
كما أن اللجنة تلتزم بالقواعد المفسرة لبعض نصوص القانون، الصادرة عن المجلس والمتعلقة بالقيد، وهو أيضًا الذي يضع ويعتمد لوائح القيد، وتعود اللجنة للمجلس إذا اختلف أعضاؤها في التفسير أو الفهم أو التطبيق، وهو الذي يحيل للجنة القيد الحالات التي يطلب فيها تطبيق القانون، ومنها فقد الممارس للمهنة شرط من شروط العضوية، مثل التوقف عن ممارسة المهنة أو فقد أحد شروط الاحتراف، أو عدم سداد الاشتراك السنوي لعدد معين من السنوات، أو ترك العمل بالصحافة.. كما أن مندوبي مجلس النقابة اللذين يختارهما كممثلين له في لجنة القيد الاستئنافية يلتزمان أمام هذه اللجنة، بما يقرره المجلس في الحالات المعروضة عليها، باعتبارهما مندوبين عنه. وهذا يؤكد فكرة ولاية المجلس ومسؤوليته، فإذا كانت هذه الولاية قائمة على اللجنة الأعلى درجة (الاستئنافي) فإنه من البديهي أن تكون مؤكدة وتنسحب على الأدنى (الابتدائي).
أعلم أن الجدل لن يتوقف حول أعمال لجان القيد لأسباب موضوعية كثيرة، منها اتساع سوق العمل وتشوهه بدرجة كبيرة، ومنها الفجوة بين القواعد القانونية المنظمة لإصدار الصحف، الصادرة عن المجلس الأعلى للإعلام، وقبله المجلس الأعلى للصحافة، وبين التصريح بمزاولة المهنة، وهو الحق الأصيل للنقابة، وهذه الفجوة؛ أدت لفقدان أي آلية تضمن التنسيق بين ما يحقق مصالح المهنة وصالح وحقوق المنتسبين إليها. ومنها أيضًا الخلط بين جهة العمل وواجباتها تجاه العاملين وضمان حقوقهم وبين النقابة ودورها في الدفاع عن هذه الحقوق، فتحولت النقابة إلى ما يشبه جهة العمل، بعد أن أصبحت- لأسباب وتداعيات كثيرة- تضمن بعضويتها دخلًا للصحفي الذي تردت أوضاعه الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير مسبوق، مقابل اختفاء ملف تحسين الأجور، مما شكل ضغطًا إضافيًا على طلب القيد والعضوية، وتزايدت مشكلات علاقات العمل في وقت أصبحت فيه النقابة أمامه عاجزة في أغلب الأوقات عن مواجهته.. نعم هذه الضغوط ساهمت على نحو سلبي، وكان بعضها يتم استغلاله لغير صالح المهنة، التي ظل كثير من ممارسيها والأحق بالعضوية من كثيرين؛ يعانون من التجارة بهم في سوق عمل مشوه ومرتبك.
والأخطر أن ما زاد الأمر تعقيدًا خلال الفترة الأخيرة هو التدخل المباشر في شؤون القيد من جهات ما، وهو ما يزكيه مناخ عام يحاصر العمل النقابي، وتراجع دور المجلس، وعدم فهم، أو عدم رغبة، أو عدم قدرة بعض أعضائه على أداء مهامهم وأدوارهم في حدها الأدنى، يضاف لكل ذلك تعمد تغييب أو إضعاف تأثير الجمعية العمومية، وتراجع حيويتها عن المشهد النقابي.
وأشهد أن الحالات الفردية والقليلة جدًا التي حاول البعض من خارج النقابة – خلال العقود الماضية- التدخل في قيدها من عدمه، تصدت لها النقابة بشجاعة وحسم، ممثلة في مجلسها ونقيبها، لأن الجميع كان يدرك أن هذا باب جهنم، لو تم فتحه أو مواربته لعصف بالكيان النقابي نفسه.
ولعلنا ما زلنا نذكر صدى كلمات نقيب النقباء كامل زهيري عندما طلب منه الرئيس السادات شطب بعض الصحفيين المعارضين لسياساته، فرفع شعار “العضوية كالجنسية” وقال: “القيد بجداول النقابة والشطب منها لا يخضع إلا لقانونها ولضميرنا المهني”.
وأزمة القيد المثارة مؤخرًا نخطئ لو عزلناها عن سياقها العام، وما آل إليه وضع المهنة وحال كياننا النقابي، والعلاج يكمن في قدرتنا على المكاشفة والحوار والاعتراف بأن الخطر بلغ مداه.. ربما بهذا فقط يمكننا إنقاذ ما تبقى للمهنة من مكانة وما تبقى للنقابة من دور.