“نبراس شمام” مؤسس “مجموعة البحث الموسيقي”: هكذا وصلت أغنيات الشيخ إمام إلى أقصى جنوب تونس منذ السبعينيات
حاوره في تونس: كارم يحيى
ربما تتقدم “مجموعة البحث الموسيقي” الفرق الغنائية في تونس التي تستلم تراث الشيخ إمام، ومنذ نهاية عقد السبعينيات ولليوم. ولا يتعلق صيت ” البحث الموسيقي” بأنها وحسب بين فرق الأغنية السياسية الملتزمة الأعرق والأقدم تاريخيا هناك. بل ولأنها كذلك تنتسب إلى جنوب البلاد التونسية، وتحديدا إلى مدينة ولاية “قابس”، وعلى مقربة من ولاية قفصة.
وأتيح لي أن أزور مدن وبلدات “قفصة” و”الرديف” و”أم العرائس” و”المظيلة” و”المتلوي” و”القطار” و غيرها في المنطقة الشهيرة “بالحوض المنجمي”، وذلك قبيل الانتخابات البلدية. ونشر عنها في “الأهرام” بتاريخ 2 مايو 2018 تحقيقا بعنوان “حيرة صندوق الانتخاب في مدن الفوسفات التونسية”. وأثناء الإعداد لهذا التحقيق على مدى أيام هناك كانت أغنيات الشيخ إمام تنبعث من المقارات الانتخابية بالشوارع من كل حدب وصوب، ومن مختلف القائمات المرشحة بألوانها السياسية المختلفة. و هكذا لم تكن فقط حكرا على اليسار واليساريين، وإن كان “الحوض المنجمي” من بين معاقل اليسار التونسي التاريخية المهمة، ومازال يفور بالاحتجاجات الاجتماعية و الإضرابات العمالية.
وولاية قفصة حيث مناجم وصناعة استخراج الفوسفات ومعها “قابس” منحتا -ومازالتا- تونس نضالات عمالية منذ بداية القرن العشرين، وجرى تتويجها بانتفاضة الحوض المنجمي عام 2008 والتي استمرت لنحو ستة أشهر متحدية قمع نظام الدكتاتور “بن علي”.
واللافت هنا هو وصول إشعاع أغنيات الشيخ إمام سريعا إلى أعماق تونس وجنوبها في “قابس” و”قفصة” في عقد السبعينيات، فضلا عن تلقف الجنوبيين لها كي تتأسس “مجموعة البحث الموسيقي” بقيادة ” نبراس شمام”، والذي التقيته في العاصمة، واستمعت أيضا إلى أغنيات الفرقة الخاصة في شارع الحبيب بورقيبة شتاء عامي 17 و 2018، ومن بينها “هيلا هيلا يامطر” و”يانخلة وادي البي”. وكان هذا الحوار في شتاء العام الأول.
3 فرق تغني لإمام في عام واحد
*ماهي الأجواء والسياق الذي أحاط بتأسيس “مجموعة البحث الموسيقي” في قابس؟
ـ تأسست الفرقة في عام 1979 ، وهو نفس العام الذي شهد مولد فرقتي “أولاد المناجم” في قفصة أيضا و “الحمائم البيض” في مدينة تونس العاصمة. والفارق بينها أننا في “البحث الموسيقي” بدأنا ومنذ إنطلاقنا بالغناء للشيخ إمام ومنذ عام 1979. ومازلنا نعتبر أنفسنا من ناحية التوجه الموسيقي والغنائي نسخة مطابقة للشيخ إمام. فنعتمد بالأساس على التخت الشرقي البسيط (عود وآلة إيقاع). كما نقتدي بطريقة غناء الشيخ.
وبالمقابل فإن مجموعة “الحمائم البيض” لم تقدم على الغناء للشيخ إمام إلا بعد الثورة ( 17 ديسمبر 2010/ 14 يناير 2011)، فيما “أولاد المناجم” لم تغن لليوم من تراثه.
*ماهي ظروف تأسيس المجموعة؟
ـ أسستها مع “خالد الحمروني”. وكنا مازلنا طلابا في الجامعة نسمع الشيخ إمام من خلال أشرطة كاسيت مهربة يأتي بها أصدقاء. وهي تسجيلات رديئة. لكننا وقبل تأسيس الفرقة، أخذنا نغني لإمام في الأعراس والحفلات العائلية من حوالي عام 1978. ومع التحاقنا بالجامعة تحمسنا تماما للتجربة وقلنا لأنفسنا : لماذا لانعمل فرقة موسيقية غنائية تسير على دربه؟.
وقد كان، وانطلقت المجموعة ودون إنتاج خاص لأغاني لنا. وقمنا بالغناء في الجامعة. وكانت “مجموعة البحث الموسيقي” الأشهر في هذا المجال ( الأغنية الملتزمة السياسية) في الجامعات التونسية بين عامي 79 و1988.
وبداية من عام 1982، بدأنا في تلحين أغاني خاصة بنا، وأصبح رصيدنا منها خمسين أغنية. لكن لابد ولليوم أن نقوم في كل حفل بتقديم أغنية واحدة أو اثنتين للشيخ إمام، وأيا كانت نوعية الحفل أو مدته الزمنية.
وبعد عام 1989 اشتهرت الفرقة حتى أننا أصبحنا نغني في المهرجانات الدولية بتونس.
*متى كان اللقاء الأول مع الشيخ إمام؟
ـ هنا .. عندما جاء للغناء في قابس وقفصة خلال زيارته الأولى خلال عام 1984. واحتفظ عندي بشريط تسجيل يوثق هذا اللقاء. وهو استمع إلى أغانينا في سهرة خاصة وتعرف علينا، كما استمع لنا ونحن نغني بعض أغانيه. وقرر أن نكون معه ( أنا والحمروني) في كل حفلاته المتبقية بتونس، نغني معه كمرددين أو منشدين.
وبالفعل ذهبنا معه وحضرنا حفلتي ملعب “المنزه” الرياضي بالعاصمة، وحيث جاء الآلاف للاستماع إليه. ويقدر العدد حينها بنحو خمسة آلاف في الحفل. وذهبنا معه كذلك إلى مدن “سوسة” و “توزر” و” القيروان” . تقريبا كنا معه في كل العروض الكبرى.
وأظن أنها المرة الأولى التي يقبل فيها الشيخ إمام أن يشاركه أحد في الغناء على الركح (خشبة المسرح). أعرف أنه رفض هذا في فرنسا وألمانيا. ولاشك أنه وجد أننا نشبهه.
*ما هي أهم أغنية في نظرك التي ترددونها للشيخ إمام؟
ـ “شيد قصورك “. ونحن نعرضها منذ بدأنا و لليوم، وفي كل العروض تقريبا. وهناك أغنيات أخرى لها شعبيتها عندنا ونؤديها مثل :”البحر بيضحك ليه؟” و ” وفرحانين” و” أنا أتوب عن حبك أنا” و”دور ياكلام”. وهذه هي الأغنيات الأكثر حضورا في حفلات فرقة “مجموعة البحث الموسيقى” ولليوم.
*خلال زيارة الشيخ إمام لتونس، هل قام بغناء أشعار لتونسيين؟
ـ هو لحن لفرقتنا “مجموعة البحث الموسيقي” أربع أغاني من كلمات الشاعر التونسي “آدم فتحي”. وهي “ياولدي” و”عاد الميعاد ياقهرزاد” و” إصحي إصحي طال النوم” وموشح “لاعاش غصن هوى ومال”. وهو بنفسه قام بتحفيظي أداء هذه الأغنيات على ألحانه. وقام بغناء هذه الأغنيات أيضا منفردا في جلسات خاصة خلال زيارته عام 1984.
وعندما سافر من تونس إلى فرنسا التحقينا به هناك. وسجلنا معه في باريس برنامج تلفزيوني جزائري اسمه “موزاييك”. وقدمنا نحو 5 أو 6 أغنيات. وأتذكر أنه حينها اشتري لي عود وأهداه لي ونحن في باريس كهديه منه. وبالأصل رفضنا كفرقة أن نتقاضى أي مبالغ عن ظهورنا معه في حفلات تونس قبلها.
ونحن نعتبر أنفسنا ورثة الشيخ إمام في تراث الموسيقي العربية، و حتى عبر انتاجنا الغنائي الخاص. نحن من مدرسته الشرقية الكلاسيكية التي تعتمد على العود والإيقاع. وقد أضفنا لهذه الآلات الكمان.
*وماذا عن الأغنية المعروفة باسم ” نشيد الاتحاد”؟
ـ هو أهداها لاتحاد الشغل يوم سفره من تونس باعتبار أن الاتحاد هو الذي استضافه في هذه الزيارة الأولى عام 1984. وهي من أشعار ” فتحي آدم”. ونقوم بغنائها لليوم في الأول من ماي ( مايو) عيد العمال، وخلال أي احتفالات ينظمها الاتحاد.
كنا ممنوعين ومحاصرين قبل الثورة
*هل اختلف الأمر بالنسبة لكم بعد الثورة عما كان قبلها؟
ـ في السنتين التاليتين للثورة قدمنا نحو 500 عرضا على المسارح بطول البلاد وعرضها ومن شمال تونس لجنوبها. قدمنا عروضا للمرة الأولى في قرى و دور تابعة لوزارة الشئون الثقافية. ونغني الشيخ إمام مع انتاجنا المتأثر به والشبيه له.
ويعرف القاصي والداني أن “مجموعة البحث الموسيقي” تعرضت لمضايقات. وجرى منعها من الظهور في وسائل الإعلام الرسمية قبل الثورة. تماما لم نظهر لا في إذاعة أو تلفزيون. وتم اعتقالنا واستجوابنا في العديد من المرات. وهذا ماجرى معنا من نظام “بورقيبة” ثم نظام “بن علي”. وكانت أغنيتنا محاصرة لأننا كنا الأكثر شهرة على الساحة الطلابية والنقابية. كان الحصار شديدا جدا. كنا ممنوعين من الفضاءات الإعلامية العامة ودور الثقافة (تتبع وزارة الشئون الثقافية) ومهرجانات الوزارة، وحتى جاء 14 جانفي (يناير) 2011.
أغنياته بين مضبوطات الأمن والقضايا السياسية
*ماهو تفسيرك لوصول الشيخ إمام مبكرا وانتشاره بسرعة وإلى أعماق تونس؟
ـ في السبعينيات كان عندنا حركة ثقافية متطورة بالجامعات التونسية، وأيضا حركة طلابية يقودها اتحاد عام طلبة تونس (يسار). وكانت شرائط الكاسيت للشيخ إمام تأتي مهربة من الخارج فيتلقفها المثقفون والطلبة بخاصة. كنا في معاهد التعليم الإعدادي تصلنا، وحتى أقصى الجنوب، ومنذ بداية السبعينيات.
وزاد الشعور بالمنع من انتشار هذه الشرائط بين الطلبة، على الرغم من رداءة التسجيل والصوت، وحتى التلاميذ الصغار. وكان يعزز الشعور بالمنع أنها كانت من بين مضبوطات الأمن وموضوع تحقيقات خلال إيقافات (اعتقالات) أعضاء المنظمات اليسارية. كما كان من بين التهم حينها حيازة أشرطة الشيخ إمام.
وأعتقد أن الآلاف من الشباب التونسي في السبعينيات حفظ وردد أغنيات الشيخ إمام في هذه الظروف. ولذا عندما جاء إلى تونس للمرة الأولى عام 1984 كان حدثا تاريخيا بالنسبة لهم.
وبالطبع كانت استضافته هنا في تونس أمرا مختلفا. في الجزائر كانت وزراة الثقافة هناك هي الجهة المستضيفة “للشيخ إمام” و”محمد علي” ومعهما “أحمد فؤاد نجم”. يعني جهة رسمية. لكنه لم يجد هناك الإقبال المتوقع . وأيضا حدث الخلاف مع “نجم”. ولذا جاء بعدها مباشرة بمفرده إلى تونس ومعه “محمد علي”.
وفي تونس الأمر كان مختلفا بالفعل. فالسلطة ليست هي التي استضافته. بل استدعاه اتحاد الشغل والمثقفون. وأتذكر عندما جرى منعه في البداية من الدخول أنني كنت وآدم فتحي في انتظاره بالمطار. وقامت السلطات بترحيله حينها، وأعادته إلى فرنسا. وحين منعت السلطات التونسية من دخول البلاد كنا في شهر يونيو 1984. لكن التحركات والاتصالات من جانب اتحاد الشغل جعلت السلطة ذاتها تسمح بدخوله في أواخر أغسطس 1984. وبقي في تونس لحوالي شهر كامل. ثم كان يتنقل إلى فرنسا ويعود إلينا هنا.
الحوار اللاحق مع الفنان “خميس البحري”
من “مجموعة البحث الموسيقي”
إلى فرقة “عيون الكلام”