من “قمع الأسد” إلى “عسكرة الثورة”: كيف تشوه المصالح الإقليمية والدولية حلم الحرية السوري؟   

تشهد سوريا تحولًا جذريًا منذ ديسمبر 2024 بسقوط نظام بشار الأسد، الذي حكم البلاد بقبضة من حديد لمدة 14 عامًا، عازمًا على قمع أي تطلع للحرية والديمقراطية. جاءت نهاية حكم الأسد على يد تحالف من الفصائل المسلحة بقيادة هيئة تحرير الشام، في ظل تخلي حلفائه الإقليميين والدوليين عنه. إلا أن هذا السقوط لم يكن خاتمة معاناة السوريين، بل بداية فصل جديد معقد ومليء بالتحديات، حيث تعيد البلاد تعريف ذاتها وسط مشهد تتداخل فيه المصالح الدولية والإقليمية مع تطلعات شعبية للخلاص من القمع والتطرف.   

رحيل بشار الأسد عن السلطة وفراره إلى موسكو بعد تخلّي حلفائه التقليديين، روسيا وإيران، لم يكن لحظة انتصار نظيف للشعب السوري، بقدر ما كان نقطة تحوّل زعزعت توازنات إقليمية ودولية قديمة، لتفتح الباب أمام فصول جديدة من الصراع. الأسد، الذي حكم سوريا بالقمع الحديدي لعقود، واجه حركة احتجاجية سلمية في 2011 تطالب بالديمقراطية. إلا أن الرد العنيف على هذه المطالب قاد البلاد إلى دوامة حرب أهلية، ساهمت فيها القوى الإقليمية والدولية بدور أساسي عبر دعم أطراف متنازعة وتحويل سوريا إلى ساحة لتصفية الحسابات الجيوسياسية. 

الهجوم الخاطف الذي قادته الفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، والذي أفضى إلى سقوط دمشق، كشف هشاشة التحالفات التي كان يعتمد عليها النظام السوري. روسيا، التي تدخلت عسكريًا لدعم الأسد منذ 2015، فضّلت الحفاظ على مصالحها الاستراتيجية على التمسك بحليف أصبح عبئًا سياسيًا واقتصاديًا. إيران، بدورها، لم تتمكن من تحمل تبعات دعم الأسد في ظل تزايد الضغط الدولي عليها، ما دفعها إلى تقليل خسائرها الاستراتيجية. 

مع انهيار النظام، برزت هيئة تحرير الشام كقوة مهيمنة في المشهد السوري الجديد. قادت الهيئة الهجوم الأخير على دمشق، متجاوزة إرثها كجماعة متشددة ومصنفة إرهابيًا، وساعية إلى تقديم نفسها كسلطة انتقالية قادرة على توحيد البلاد.   

رغم تصريحات قادتها، مثل أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، حول التزامها بالاعتدال وإقامة دولة قانون، يبقى المجتمع الدولي متشككًا. الهيئة، التي وعدت بحل الفصائل المسلحة وتوحيدها تحت وزارة دفاع مركزية، تواجه اتهامات بأنها تعيد تدوير مشروع إسلامي شمولي بنبرة أكثر براغماتية.   

تصاعد الهيئة إلى السلطة يثير مخاوف كبيرة لدى السوريين والأقليات، نظرًا لسجلها السابق. فبينما تسعى لتقديم صورة جديدة، يظل تاريخها كامتداد لتنظيم القاعدة حجر عثرة أمام قبولها دوليًا ومحليًا.  

الأكراد، الذين لعبوا دورًا حاسمًا في مكافحة تنظيم “داعش” وإدارة مناطق واسعة في شمال شرق سوريا، يواجهون وضعًا هشًا بعد سقوط الأسد.   

يثير صعود هيئة تحرير الشام قلق الأكراد، الذين يرون فيه تهديدًا لطموحاتهم بالحكم الذاتي. سيطرة الهيئة على دمشق قد تعني محاولات جديدة لإعادة المركزية في الحكم، ما قد يؤدي إلى تصعيد الصراعات مع الإدارة الذاتية الكردية.   

تركيا، التي تعتبر الأكراد تهديدًا أمنيًا بسبب ارتباطاتهم بحزب العمال الكردستاني، قد تستغل ضعف القيادة الكردية الحالية لتوسيع نفوذها أو حتى شن هجمات جديدة.   

ورغم التوترات، قد يسعى الأكراد إلى التفاوض مع الهيئة لضمان حقوقهم في إطار النظام السياسي الجديد، ما قد يتطلب تقديم تنازلات صعبة.   

الدروز الذين تبنوا سياسة الحياد خلال سنوات الصراع، يجدون أنفسهم الآن في موقف صعب. سقوط النظام الذي ضمن استقرارهم النسبي، رغم قمعه، وضعهم أمام خيارين: إما التفاوض مع الهيئة لضمان حقوقهم، أو محاولة تعزيز استقلاليتهم في مناطقهم.   

سقوط الأسد وصعود هيئة تحرير الشام يثير قلق الدروز، الذين لطالما ارتابوا من الجماعات الإسلامية المسلحة. رغم تعهد الهيئة بالاعتدال، فإن تاريخها كجماعة متشددة يجعل الدروز حذرين من أي هيمنة جديدة قد تهدد خصوصيتهم الدينية والاجتماعية. 

السويداء، معقل الدروز، تواجه تحديات اقتصادية كبيرة، ويطالب بعض قياداتها بحكم ذاتي يتيح إدارة شؤون الطائفة دون تدخل خارجي. إلا أن هذه المطالب قد تصطدم برؤية الهيئة لدولة مركزية تسيطر على كامل الأراضي السورية.   

أما بالنسبة للمسيحيين، يمثل سقوط الأسد نهاية لنظام وفر لهم حماية نسبية في ظل صعود الجماعات المسلحة. رغم تعهد هيئة تحرير الشام باحترام حقوق الأقليات، يبقى القلق قائمًا من أن تُهمَّش هذه الفئة أو تُجبر على النزوح كما حدث في مناطق أخرى أثناء الصراع.   

المجتمع المسيحي يعول على الضغوط الدولية لضمان مشاركته في إعادة بناء الدولة وضمان حقوقه السياسية والثقافية.   

رغم تعهد هيئة تحرير الشام بتقديم نفسها كقوة معتدلة، يبقى لدى المسيحيين قلق عميق من تكرار سيناريوهات العنف والتهجير التي تعرضوا لها خلال صعود الجماعات المسلحة الأخرى في الماضي. المسيحيون يتطلعون إلى ضمانات دستورية حقيقية تحمي حقوقهم ووجودهم. 

الأقليات الأقل عددًا، مثل الشبك والإيزيديين، تواجه تحديات وجودية في ظل المرحلة الجديدة. هذه الأقليات، التي تعرضت لاضطهاد واسع خلال حكم “داعش” والجماعات المتطرفة، تخشى أن تجد نفسها بلا حماية في ظل استمرار انعدام الاستقرار الأمني والسياسي.   

هذه الأقليات ترى في هيئة تحرير الشام امتدادًا لجماعات متطرفة تهدد وجودهم الثقافي والديني. أي غياب لضمانات دولية لحمايتهم قد يدفعهم إلى النزوح الجماعي أو البحث عن بدائل آمنة خارج سوريا. 

المجتمعات الإيزيدية، التي تمتد جذورها إلى مناطق أخرى مثل العراق، قد تجد دعمًا من إقليم كردستان العراق. إلا أن هذا الدعم يظل محدودًا مقارنة بحجم التحديات التي تواجههم. 

الأقليات الصغيرة تحتاج إلى تطمينات قوية، ليس فقط على المستوى السياسي، ولكن أيضًا في مجال إعادة الإعمار، لضمان عودة المجتمعات التي تعرضت للنزوح والتدمير. 

تحوّلت سوريا إلى ساحة صراع دولي وإقليمي منذ سنوات، ولم يتغير هذا الواقع بعد سقوط الأسد. روسيا وإيران، رغم خسارتهما لنفوذهما المباشر مع النظام، لا تزالان تبحثان عن طرق للحفاظ على مصالحهما في البلاد. من جهة أخرى، تسعى الدول الغربية إلى ضمان أن السلطة الجديدة لن تكون تهديدًا لاستقرار المنطقة أو مصدرًا لعودة الجماعات الإرهابية. 

إن إعادة بناء الثقة بين مكونات المجتمع السوري ليست مهمة سهلة، خاصة مع وجود مخاوف حقيقية من أن السلطة الجديدة، مهما حاولت التظاهر بالاعتدال، قد تحمل أجندات إقصائية أو تسعى لفرض هيمنة أيديولوجية على البلاد. 

ورغم سقوط الأسد، فإن سوريا لا تزال بعيدة عن الاستقرار. البلاد ممزقة بفعل سنوات الحرب، التي أفرزت انقسامات عميقة بين الفصائل المسلحة والجماعات المحلية. هيئة تحرير الشام تواجه تحديًا كبيرًا يتمثل في توحيد البلاد المشرذمة وضمان حقوق الأقليات، التي طالما عانت من الإقصاء والتهميش. 

في ظل سقوط النظام وتغير ميزان القوى، سارعت القوى الدولية والإقليمية لإعادة ترتيب أوراقها في سوريا. فرنسا كانت أول دولة أعادت فتح سفارتها في دمشق بعد 12 عامًا من الإغلاق، معلنة استعدادها لدعم السوريين في “مرحلتهم الانتقالية”. 

الاتحاد الأوروبي، رغم انفتاحه الحذر، أشار إلى أن أي دعم للسلطة الجديدة سيكون مشروطًا بعدم عودة تنظيم “داعش” وضمان حقوق الأقليات الدينية والإثنية. أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، أكدت أن مستقبل العلاقة مع سوريا سيعتمد على قدرة القيادة الجديدة على تحقيق الاستقرار واحترام التنوع داخل المجتمع السوري. 

أما الولايات المتحدة، فرغم اتصالاتها المحدودة مع هيئة تحرير الشام، فإنها لا تزال ترى الوضع في سوريا من زاوية أوسع، تربطها بمخاوف استراتيجية تتعلق بمواجهة النفوذ الروسي والإيراني في المنطقة. 

إيطاليا، من جانبها، أثارت الجدل بكونها الدولة الوحيدة ضمن مجموعة السبع التي أعادت فتح سفارتها في دمشق قبل سقوط الأسد، ما اعتبره البعض محاولة لتطبيع العلاقات مع النظام السابق. رئيسة الوزراء جورجا ميلوني دافعت عن هذه الخطوة، مشيرة إلى أنها تعكس استعدادًا للتعامل مع أي قيادة جديدة في البلاد، لكنها أكدت أن الحذر سيظل السمة الأساسية في تقييم السلطة الجديدة. 

تركيا تسعى إلى استغلال الفوضى لتعزيز نفوذها في شمال سوريا، خاصة في المناطق الكردية. أما إيران، فقد تجد نفسها مضطرة لإعادة صياغة استراتيجيتها بعد خسارة أحد أهم حلفائها في المنطقة.   

روسيا، التي تخلى الأسد عن اللجوء إليها، قد تسعى إلى الحفاظ على دورها كلاعب رئيسي عبر إعادة بناء علاقات مع القوى الجديدة، لكنها تواجه تحديات كبيرة نتيجة تراجع نفوذها.   

مع سقوط النظام، عاد ملف اللاجئين السوريين إلى الواجهة. الأمم المتحدة تتوقع عودة نحو مليون لاجئ إلى سوريا خلال الأشهر المقبلة، لكن هذه التوقعات تصطدم بواقع معقد. الكثير من اللاجئين لا يزالون يخشون العودة، خوفًا من الملاحقة أو الانتقام، خاصة أولئك الذين لهم ارتباطات بالنظام السابق أو ينتمون إلى أقليات دينية. 

المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين توقعت عودة نحو مليون لاجئ إلى سوريا في النصف الأول من عام 2025، وحذرت ريما جاموس إمسيس، مديرة المفوضية، من إعادة اللاجئين قسرًا، مشيرة إلى أن الأوضاع في سوريا لا تزال غير مستقرة تمامًا. وأكدت أن بعض اللاجئين يشعرون بالقلق من العودة بسبب ارتباطهم بالنظام السابق أو خوفهم من السلطات الجديدة. 

في المقابل، عادت أعداد من اللاجئين من تركيا ولبنان والأردن بعد أن رأوا في سقوط الأسد فرصة لاستعادة حياتهم. لكن الأعداد الكبيرة التي نزحت مجددًا خلال تقدم المعارضة يمثلون شريحة صغيرة مقارنة بالملايين الذين لا يزالون يعيشون في ظروف صعبة في المخيمات والمنافي. 

في ظل هذه التحولات، تقف سوريا على مفترق طرق تاريخي. التحديات الهائلة التي تواجهها، من توحيد البلاد إلى ضمان حقوق الأقليات وإعادة الإعمار، تتطلب قيادة قادرة على تحقيق التوازن بين المطالب الداخلية والضغوط الدولية.   

في خضم هذه التحولات، يظل الشعب السوري في موقف المتفرج على معادلة معقدة تتحكم فيها القوى الدولية والإقليمية، والجماعات المسلحة، والنخب السياسية. حلم الحرية الذي بدأ في 2011 يبدو أكثر بُعدًا اليوم، إذ تحوّل الصراع إلى لعبة نفوذ وتصفية حسابات، شوهت معناه وجعلت منه وسيلة لتحقيق المصالح لا غاية إنسانية بحد ذاتها. 

لكن إذا استمرت النزاعات الطائفية والصراعات الإقليمية، فقد تعود سوريا إلى حالة الفوضى، مما يزيد من معاناة شعبها الذي دفع ثمنًا باهظًا في صراع لم يحقق بعد حلم الحرية. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *